الدخول إلى بني صاف كان إلزاميا فصديقنا بلغراس وشقيقه الحاج الشريف و الحاج أعمر أحمد (شاهد على تاريخ المنطقة) 86 سنة (الله يبارك) كانوا في انتظارنا رفقة الحاج بن عمر براهيم و...الأستاذ ملاك الجيلالي من جامعة الجيلالي اليابس ببلعباس، ناقد سينمائي جاء لاستطلاع هذه البقعة المجاهدة يحمل معه مشروع فيلم وثائقي عن أول مركز لقيادة الولاية الخامسة التاريخية تكون فرنسا الاستعمارية، حسب شهادات مجاهدين، قد قصفته بغاز محظور في 1958 مع استشهاد سبعة (07) أبطال من كتائب النصر و الشهادة ضمن جيش التحرير الوطني المظفر كانت «الجمهورية» السبّاقة و صاحبة السبق و الشرف إلى كشف بعض خبايا لغز مغارة «أمزيرية مرقد الشهداء السبعة» منذ ثلاث سنوات خلت. وادي التافنة يمر من هنا تركنا طريق الرمشي بإشارة مفاجئة من دليلنا الحاج أعمر وكأننا تركنا من ورائنا عالما آخرا ليس كمثل الذي يمتد أمامنا هناك على امتداد منطقة ولهاصة التاريخية بلد الشيخ البوحميدي عضد الأمير عبد القادر وخليفته على منطقة الغرب الجزائري ورفيقه في العلم وفي الجهاد بلد الزاوية الجازولية قلعة الدين ومنارة العلم وقاعدة خلفية قارعت عبر الزمن وقاومت وحاربت جحافل الغزاة ودرأت مفاسدهم ومظالمهم في أيام الثورة التحريرية الحالكات سلاماً على شيخها سيدي عبد الكريم الجازولي شفاه الله و عافاه و أطال تعالى في عمره... منطقة خاوية على عروشها إلا من تجمعين حضريين سيدي ورياش وسوق لثنين (مقر دائرة ولهاصة) كل ظروف ومقومات النماء (حتى لا نقول التنمية) متوفرة هنا...سهل عل مد البصر و تربة يتذوق إلى اليوم و بمتعة أهل الغرب الجزائري بصلها و ثومها و جزرها و محطة توليد الكهرباء على مرمى حجر بقرية الأمير و ...نهر جار أذهلنا تدفقه تحت القنطرة الجديدة وقفنا من أعلاها نتأمل نتمتع و نتساءل إلى أي مصب تصب هذه الثروة المتدفقة التي تخترق السهل مهدورة هباء لتموت في البحر هناك على بُعد 20 كلم بشاطئ رشقون... إنه وادي التافنة من أغزر أنهار الجزائر على طول 170 كلم المتدفق بمعدل 20 متر مكعب في الثانية انطلاقا من جبال الأطلس التلي أعلى ولاية تلمسان ... مصدر حياة و نبعث زراعة معاشية ثرية على امتداد ولايتي تلمسان وعين تموشنت في حال إعمار ضفتيه و عودة آلاف العائلات الريفية ومثلها من الأيادي و السواعد الشابة التي فضلت منذ سنوات الإقامة بالرمشي و بني صاف خاصة، قوة عاملة عاطلة تملأ شوارع ومقاهي الحواضر المجاورة... «الأجداد حاربوا الاستعمار و أبناؤهم خدموا الأرض بعد الاستقلال و أما الأحفاد من جيل الثمانينيات فقد فضلوا حياة المدينة و اللوطو و خبز البولونجي و التحواس» يقول الحاج أعمر بأسف و مرارة.... هنا على جنبات الوادي مناظر كاليفورنية بل أجمل من منطقة النورماندي التي يتغنى بها الفرنسيون بمقدورها علاوة على الشق الفلاحي احتضان مواقع سياحية من أكثر نقاط الجذب و مقصدا لسكان المنطقة و عابريها (التشجير لا يوجد تشجير ! ) ... مكان خال إلا من بعض «المازدات» المحملة بالجزر يسرع أصحابها في غسل بضاعتهم بالجسر القديم أسفل القنطرة الجديدة...و أما خرير التافنة فسمفونية ممتعة للآذان و شفاء لكل عليل... حركة شبه منعدمة للبشر.... من قنطرة وادي التافنة واصلنا طريقنا باتجاه جبل «أمزيرية» على طريق قروي معبد حديثا وسط حقول خضراء تترقب مطرا «الله يغيثنا بغيثه» يقول الحاج بن أعمر براهيم «مازال القمح والشعير بحاجة إلى الغيث قبل نهاية أفريل إن شاء الله و إلا سيتحول هذا الخير إلى كلإ للمواشي»... هناك في الأفق على سفح الجبل مؤسسة تربوية !! مدرسة ابتدائية قابعة لوحدها صامدة لا تلين في مقاومة الأمية..مدرسة الشهيد الحاج عبد الرحمان كأي مدرسة جزائرية...ساحة فسيحة، الراية الوطنية ترفرف، صوت التلاميذ نغمة تنبعث من داخل حجرات الدرس، معلمون و معلمات واقفون كما في الزمن الجميل و نصب تذكاري ليس ككل النُصب، إنه يؤرخ لأول مركز لقيادة الولاية الخامسة التاريخية الأسماء محفورة على الرخام تتحدى كما تحدت أثناء الثورة التحريرية المظفرة.. الرائد الحاج بن علاّ- بن حدو بوحجر ( العقيد عثمان)، بوعرفة محمد (سي بوسيف)، النقيب زاوي سعيد (سي مرباح) تتصدر قائمة رجال طلّقوا الحياة في سن العشرين و اختاروا سبيل العز والشهادة (المجد للمجاهدين و الخلود للشهداء). مدرسة تتوسط بعض التجمعات المترامية هناك على بُعد 2 أو 3 أو 5 كيلومترات . من التلاميذ من يتنقل سيرا على الأقدام و من المحظوظين من يصطحبهم أولياؤهم كثافة سكانية من أضعف النسب فلم نقابل على امتداد 20 كلم مربع غير عدد أصابع اليد الواحدة من البشر. لولا خضرة المكان فإنك ستخال نفسك في صحراء الثلث الخالي...(1 نسمة في الكلم المربع). موقع جيولوجي بحاجة إلى استكشاف خارج البساط الأسود من «القودرون» دروب إلا دروب وعرة كأنها تؤدي إلى لا مكان، مسارات تُرابية ترتفع و تنحدر تلف و تلتوي تثقب النعال من كثرة حجارة سوداء مصفحة أشبه بحجر «الأردواز» من ترسبات جبل امزيرية تربة سوداء تملأ هذه البقعة تبدو غنية لنمو مختلف أنواع الخضر هنا : الجزر، الفول، البصل و الفاصولياء الخضراء (على البور بدون الاعتماد على السقي) قد تكون منطقة بركانية خامدة منذ الأزمنة الغابرة فالأراضي البركانية كما يؤكده الجيولوجيون تبلغ نسبة متقدمة من الخصوبة على مر الزمن...يُقال حسب صديقنا بلغراس أن الأسطورة «أسطورة امزيرية» تروي مشاهد غريبة...شموع (أو أشبه بألسنة نار كانت تشب ليلا في أعالي الجبل)... دعوة أخرى لعلماء الجيولوجيا لاستكشاف هذا الموقع غير البعيد عن مناجم الفحم بالمنطقة و عن غار البارود ببني صاف على خط النار من الطبقة التكتونية العابرة للبحر الأبيض المتوسط من اليونان شرقا إلى بحر إيجا قرب تركيا و البحر الأدرياتيكي جنب إيطاليا و صقلية مرورا بالجزائر وإلى غاية أغادير المغربية.... هنا أوقف بوبالة السيارة لاستحالة مواصلة السير بهذه «الآلة الحديثة» فمن هنا لا ينفع غير الركوب على الحمير أو الخطو بحذاء مقاوم. ترجلنا باتجاه الجبل في الوقت الذي جاوزت الشمس قيد رمح و سرنا يتقدمنا الحاج أعمر على هذا الممر الوعر وسط حقول القول و البصل و القمح و أول مفاجأة فجأة رجل (كأنه خرج من عمق الحقول) يحمل أرغفة «بولانجي» انتبه إلينا لكنه واصل سيره...السلام عليكم ! بادرناه بالتحية قبل أن يلتفت و يتوقف و يرد علينا بأحسن منها، بابتسامة أهل البادية مُرحبا... «وين راك رايح منّا أخويا؟» الحاج أعمر والحاج بن عمر إبراهيم تعرفا على التو على صديقنا بعد «سين-جيم» مقتضب فهو ابن المنطقة علمنا منه أنه في طريقه إلى عُمق الجبل لتفقد «الزوايل» بداره القديمة التي يأوي إليها نهارا فقط قبل العودة إلى بيته الرسمي بدوار مسداغة أو (مزداغة) على بُعد 10 كلم يأتي إلى هنا يوميا يقطع نصف المسافة (20 كلم ذهابا و إيابا) سيرا على الأقدام حين يعجز «النقل الجماعي» عن ولوج هذه الدروب الوعرة...»كي سماك الله؟ بن عزوز قويدر...» أطلال تُصارع الزمان و تبكي غربة «اللامكان» على جمال المشهد الذي أبهر صديقنا الأستاذ ملاك الجيلالي وأثار حسه السينمائي يبدو المكان موحشا لانعدام حركة البشر أشبه بمشاهد فيلم «الطيور» لألفراد هيتشكوك... هنا تقابلك «أمزيرية» تلف هذا المرتفع الشامخ الذي يؤرخ لأول مركز لقيادة الولاية الخامسة التاريخية موقع وقور يفرض عليك بلا شعور منك الترحم و الدعاء تطمئن و تخشع لما تدرك أن هذه التربة المعطاء اليوم إنما ارتوت بدماء قوافل الجهاد و الشهادة في سبيل الله و الوطن... اليوم و على خواء المنطقة فهي آمنة و لا ندري كيف هجرها أهلها طواعية و هم الذين تمسكوا بالأرض و لم يثنهم الحرق ولا القتل ولا التدمير ولا التهجير إبان الفترة الاستعمارية... إلى الأعلى و على بُعد 100 متر يتراءى لنا بيت من الحجر و على جانبه زريبة، اقتربنا لدى رؤيتنا لبضع رؤوس ماشية و ظننا أننا سنصادف مجموعة من الرعاة أو عائلة غير أننا تفاجأنا...السكوت لا حركة غير حركة هذا الرجل القابع على ركبتيه يعكف على جزّ أغنامه رأسا رأسا بمقص تقليدي «المڨص» تحت أشعة الشمس وجه محمّر من شدة الحرارة الرجل تعرف من بعيد على مرافقينا و لذلك بقي في مكانه يواصل عمله...إنه السي بن ضيف بوعزة لا يتكلم كثيرا بالكاد يرد على أسئلتنا يبدو متعبا رغم حركاته المتوازنة ...يطلق الشاة إلى الزريبة يضع المقص و يلملم كومة الصوف قبل أن يعاود مع شاة أخرى...»لن أواصل هنا كثيرا، قد أبيع هذه الأغنام قبل رمضان فقد تعبت بيتي هناك في سيدي ورياش و الأولاد لا يريدون العيش هنا «ما كان والو آتي يوميا كل صباح أتفقد الحقل و الأغنام و انصرف بعد الظهر...» الله يعاونك سي بوعزة !... عل ارتفاع مائتي متر تقريبا في اتجاه المغارة مرقد الشهداء السبعة أطلال ما كان يشكل دوار الغرارسة الذين تم تهجيرهم من قبل الاستعمار الفرنسي على غرار أطلال أخرى تحيط بالجبل... هنا كانت تقيم عائلات وعروش أو مداشر قد يعود أبناؤها يوما أو لا يعودون ديار عمل فيها الدهر و عوامل الطبيعة ما عمل ، عائلات بلغراس، بن ياسين، الحاج أعمر، الحاج عبد الرحمان، الشيخ بقادة، بن أعمر مجرد ذكريات بهذه البقعة المهجورة... 3 مراكز لجيش التحرير الوطني و 6» كانيات» مذهل خواء هذه المنطقة فقط ذكريات الحاج أعمر حول ملاحم الثورة و معارك «الرجال» مع الاستعمار تعيد دبيبا إلى هذه الربوع صوت «القرطاس» وصيحات التكبير و الشهادة و أنين الجرحى و المصابين يسلمون أرواحهم إلى بارئها أقدام المجاهدين تقرع الأرض ساحة معركة بل ساحة حرب دامية...هكذا يمكنك تخيل المكان في ثوان... بهذا المكان بالذات يحدثنا الحاج أعمر عن الكانيات الست ( 3 مجهزة من قبل جيش التحرير و 3 أخرى عبارة عن مطامير حولها أهل المنطقة إلى مخابئ لاستراحة الثوار و تموينهم و إعادة تسليحهم. الكانيات ال6 تنتشر عبر أملاك و أراضي الغرارسة شرقا إلى الحاج أعمر و أعمر بن زيان غربا باتجاه منطقة الخميس). هنا وهناك آثار دمار الاستعمار شاهدة تنتظر البوح تنتظر التأريخ هنا في بيت عائلة الحاج أعمر كانية لجأ إليها 11 مجاهدا في 1958 لما كان ديغول ينادي بسلم الشجعان و يحاول إغراء الجزائريين بمشروع قسنطينة. المنزل تم هدمه من قبل القوات الاستعمارية بعد إجلاء والدة الحاج أعمر و زوجته (يبكي محدثنا) انتقاما بعدما تمكن المجاهدون ال11 الانسحاب في الوقت الذي تمكن فيه 7 مجاهدين آخرين من استدراج الجيش الفرنسي من هناك من الجهة المقابلة لفك الحصار عن رفقائهم هؤلاء ال 7 استشهدوا كلهم بقول الحاج أعمر «السلاح في اليد» بعدما أبلوا بلاء عظيما لقرابة يوم كامل من ضمنهم الشهيد بلخوان و الشهيد بلمدني قويدر والشهيد بن اعمر عبد القادر و تم قصف مركز سي محمد برطالي الذي كان يأوي المجموعة. إلى الأعلى قليلا باتجاه دوار الغرارسة أسفل المغارة (مركز قيادة الولاية التاريخية الخامسة) أطلال أيضا بيت عائلة صديقنا بلغراس بقايا تروي المداهمات و التهجير في تلك الأيام من 1957 حجارة و ...فجأة من خلف ربوة منسية نصادف رجلين أحدهما واصل عمله في حزم ربطات البصل فيما توجه الآخر نحونا مرحبا تعرف على الحاج أعمر إنه بن أعمر قويدر يصعب تحديد سنه و لو بالتقريب، يحمد الله لكنه يفرغ فجأة ما في جعبته ألم العزلة ووجع خدمة هذه الأرض التي بعشقها يمسك بزمام حماره... «هذا الحمار هو وسيلة العمل الوحيدة هنا» يقول صديقنا قويدر الذي يردد تقريبا نفس ما سمعناه من السي بوعزة و من سي بن عزوز...غياب تام لأبسط ظروف العيش و مزاولة مهنة الفلاحة و الزراعة و الغراسة ...لا أثر ل«التركتور» من هنا، الحمير ما تزال إلى اليوم «الآلة» الوحيدة في العمل و في النقل كذلك... بن أعمر قويدر أهدانا على التو ربطة جزر ومثلها من البصل «تذوقوا هذه الغلة (وردوا لنا الخبر) يجب النظر إلى هذه البقعة من قبل المسؤولين قليل من الوسائل و الإمكانيات و الدعم بإمكانها إعادة إعمار كل هذه الأراضي الكهرباء، النقل، الماء، المكننة و سترون إن شاء الله» عدنا أدراجنا و أخذنا قسطا من الراحة قرب بيت السي بوعزة (الماء والقهوة) و في طريق العودة المقابلة الرابعة لكن هذه المرة يتعلق الأمر بامرأة قروية هرعت باتجاهنا ما أن أبصرت كاميرا زميلنا فوزي إنها السيدة مشرنن خيرة بنت بولنوار توفي زوجها منذ سنوات و بقيت هنا وحيدة رفقة ابنها تحمد الله هي الأخرى فقط تترجى السلطات المحلية بترحيلها إلى مسكن بأقرب الحواضر بسيدي ورياش «راني مدفونة هنا...أعيش بفضل الله و بمساعدات المحسنين لكني في خوف دائم و في قلق دائم...يعطوني دار في سيدي ورياش و نعطيهم هذه الدار، الطريق مقطوعة من هنا الناس كلهم ذهبوا إلى الفيلاج إلى المدينة في الليل ما نرقدش كتلني الخوف» تقول السيدة خيرة التي يظهر على وجهها ألم العيش و أمل البقاء في آن واحد... تركناها بعدما أهدتنا خبزة «السديل» المحلي من أجود و أطيب أصناف الكسرة الأصيلة... تركنا السيدة خيرة بنت بولنوار في بيتها القروي المعزول و عدنا قافلين عبر المسالك الترابية إلى طريق «القودرون» لنفاجأ مرة أخرى بمسطح مائي أو قُل سدا بكل المواصفات إلا من مرافق و تجهيزات السد «بحر مُغلق» من المياه علمنا من مرافقينا أنه يتمون من وادي بن جلول على مشارف دوار المدادحة، ثروة أخرى تقارع عين اهتمام من هناك أو إطلالة من مسؤول إداري أو تقني يأتي هنا ويعاين هذا الكنز المقفول... رويدا رويدا بدأنا نترك من ورائنا هذه المنطقة المقطوعة خارج مجال الحاضر وعدنا نحمل معنا في أوراقنا وقلوبنا الأسف و الحسرة على هذه المنطقة المجاهدة التي تنتظر رفع حصار النسيان و كسر طوق العزلة هموم وطلبات ونداءات استغاثة للسماع، للنظر، للبت من قبل المسؤولين بكل المستويات قبل فوات الأوان .... بين وجع و التراب وجمال المنطقة عدنا إلى بني صاف في طريقنا إلى وهران قبيل العصر ودُعينا إلى الغداء بمطعم الهاشمي جنب الميناء، وجبة ملكية قلت في نفسي بل وأدركت وكدت أيقن ...أن «الحوت» هو السبب...سبب النسيان...