عَرف المجتمع التواتي عبر مساره الطويل، في ظل مقاومة حيف الجغرافيا وظلمها، أن حاول استلطاف يومياته المتعبة بالعزلة بعديد الأشياء، فابتدع بعض الطقوس والعادات الاجتماعية البسيطة، قصد إيجاد زخرفة عامرة بالأفراح لحياته، بحيث شكّلت تلك الطقوس كشكولا متميزا، تزركش بألوان التنوّع الثقافي (الزناتي، العربي، الإفريقي) المكوّن للوعاء الاجتماعي للمنطقة التواتية والقورارية والتيديكلتية، بحكم وقوع المنطقة، على خط معبر القوافل التجارية بين الشمال والجنوب، بيد أن هذه العوائد التواتية، قد أخذت تسميتها الأصلية من اللهجة البربرية الزناتية، بحكم أن قبائل هذه الأخيرة، خطّت المنطقة وعمّرتها في بداية نشأتها، لذلك ليس غريبا، أن نجد أغلب أسماء القصور، ومسميات الأشياء بهذه اللهجة البربرية. فلا تكاد تخلو مرحلة من مراحل الإنسان بهذه المنطقة، إلا وتجد لها مناسبة مخصوصة بها، بداية من طقوس الولادة، مرورا بالنفاس، والفطام، والحبو، والمشي، والختان، والصوم، والخطبة، والزواج، وغيرها من العادات الأخرى. غير أن هذا الكم الهائل من الطقوس، بدأ ينكمش ويزول في استحياء ظاهر، نظرا لعدة عوامل تاريخية وحضارية، فرضها السياق الزمني المتسارع، مع قبول ذهنية التواتي للتخلي عن إرثه الثقافي، وجلد ذاته بغير قصدية، ومحاولة لبس ثوب التمدّن، الذي غزا القصور الطينية، فانطمست أغلب العوائد الاجتماعية بها، وهو الأمر الذي جعل بعض الطقوس لأن تدخل المتاحف وتعلّق بها.. ومن هذه العادات التي أدركتها وعشتها في صومي الأول؛ عادة تيمليمان.. وهي على أية حال، طقس إكرامي امتيازي، يقدّم للصائم أول مرة بتوات، حيث تذبح الذبيحة على شرف الصائم، قبل أيام من دخول شهر رمضان المبارك، فتقام وليمة مصغّرة للصائم، يُدعى إليها أنداده من الجيران، بحيث يفرد له سهم وافر من اللحم في تلك الليلة الميمونة، ويُهمس له في أذنيه، من أنها تيمليمان الخاصة به، حتى يعقل عليها.. كما تحضّر له أمه تدارته المخصوصة من سفوف التمر المكسّر، و(التدارة) تفيد في اللهجة المحلية الزناتية، معنى الوعاء المنسوج من الزيوان بسعف النخيل، وقد سميّت بالتدارة، لكون نسجها يكون دائريا مخروطيا. تيمليمان.. مصطلح زناتي بالأساس، تقول الروايات الشفوية المتداولة بالمنطقة، إنه لفظ مقسّم لقسمين؛ (تيمْ) وتعني تمام أو منتهى، و(ليمانْ) التي تعني الإيمان، وبالتالي يكون معناها كاملة (تمام الإيمان)، وبما أن حكم الصوم هو التكليف الشرعي عند تمام البلوغ، فقصدوا الصوم، كونه من تمام الإيمان، ومن الأمارات التي كان الأولياء في ذلك الزمان، يعرفون عن طريقها تمام البلوغ، اخشيشان الصوت، واخضرار الشارب، وبداية منبت شعر الإبط، فضلا عن بروز بلحة الحنجرة، إذ كثيرا ما يتعجّل الصبيان بداية الصوم، لأجل طقوس تيمليمان، فتتردّد الأمهات في فعل ذلك، لعدم ملاحظتهن لتلك العلامات، ولعلّ الكثيرات منهن، حفظن من الروايات الشعبية، قول ابن عاشر في متنه بخصوص هذا الباب (أو بثمان عشرة حولا ظهر..). لعلّ من سوء طالعي أن صومي الأول كان صيفا، ويومها لم يكن قصرنا الطيني يعرف الكهرباء، ولا المراوح ولا المكيفات، ولا الثلاّجات، كنا نتسحّر على إيقاع دندنة (أبّابوزيان) رحمه الله، بسفوف التمر المكسّر فوف سطح بيتنا الطيني بالقصبة، وما إن يأتي الضحى، حتى نصعد لمغارة (واد رحيل)، التي تقع بأعلى القصر، بحيث تسمى المغارة في لهجتنا ب(تقازة)، وهي باردة على أية حال، نقضي فيها طرفا من النهار، حتى إذا جاء العصر، نخرج من تحت الأرض بأسمالنا الندية، ونقوم بحركات معتادة لنفض ملابسنا عند مخرجها، وقتها تكون الشمس، قد فتر لهيبها.. نمر على ساقية (بَجَلْمانْ) فنتبرّد قليلا عندها، لنذهب بعدها لبيتنا بالقصبة، وبعد عبوري لفم القصبة، وانعطافي يسرة باتجاه الزقاق المؤدي لبيتنا، تبدأ رائحة حساء حريرة (زنبو)، تملأ الزقاق.. أدخل البيت متثاقلا منهكا بفعل تحالف العطش مع الحرّ عليّ، أمي ترمقني بنظرة استعطاف وتتبسّم رقّة لحالي، ثم تنهمك مع شغل طبخها وتحضيراتها ب(لمنيصَبْ)، وهو مكان صغير يقع تحت سلّم بيتنا، كان يؤدي دور المطبخ حاليا، تقوم من مقامها، تتجه نحو شكوة الحليب، تخضها جيدا، تقوم بملء الإناء لبنا، تدارة تمر السفوف المكسّر موتّدة إلى جنبها، وما إن يصعد عمي أبّاحسان الصافي رحمه الله، لسطح الجامع، ويرفع الآذان، حتى اهجم براحة يدي اليمنى في جوف تدارة السفوف، وأخرها شبه مملوءة، فألقي بها في فمي، بعد قولي المحفوظ من أقوال أمي المأثورة (اللهم بك صمتُ وعلى رزقك فطرتُ..) لأتبع السفّة بشربة لبن شبه حامض، وبعد مضغ طويل، أكون قد استعنت بشربة لبن ثانية، لا أعتقد أن سفّة واحدة كانت تكفى، وأغلب الظن أننا كنا نثلث؛ لأن أمي تحبّ التثليث في كل شيء.. كثيرا ما كانت تقول لي (زد هذه.. الثالثة دوا النبي..) عندما أوتّرُ أو أشفّع من الأشياء.. بعد استراحة فيها الصلاة والاستلقاء، تحضر أمي قدرة الحريرة البَلْدية، المصنوعة من (زَنْبو)، وهو القمح شبه الناضج، الذي يوضع في رماد البوغة، ثم يطحن ليصير مسحوقا، ليستخدم منه الحساء.. لا أذكر أن قصرنا الطيني في تلك الأيام، كان يعرف المقدمات والمؤخرات من صنوف الطعام، فعلى الأرجح أن يأتيك بعد هذا، خبز تنور أو كسرة مع اللحم والسلام..