وَحْدِي أُحدِّقُ في الجِدارْ و أَعُدُّ كَمْ خَدَشَتْ يَدايَ على جَبِينِهِ مِنْ نَهَارْ ما أَوْحَشَ الأيَّامَ حينَ تَصيرُ خَطًا في جِدارْ يَومٌ بلا أُمِّي، و قَهوتِها، و ضِحكتِها، و شَكْواهَا منَ الإرهاقِ، أو أَلَمِ المَفاصِلِ.. دُونَ وَجْهِ حَبيبتِي، أَخبارِ شَارعِنا، و ضَوضاءِ الصِّغارْ جَلساتِ أَصحابِ الطُّفولةِ حينَ نُلْقي النَّردَ في المَقهَى.. و نُوغِلُ في الشِّجَارْ و نَعودُ نَضحكُ منْ بَذاءَةِ نُكْتَةٍ.. و بلا فُضولٍ حين تُنْبِئُنِي الجَريدةُ عن تَقاطعِ نَجمتَينِ على المَدارْ يَومٌ بلا ذِكرَى سوى الشَّوقِ المُمِضِّ، و دَمعةٌ حَرَّى يُجَفِفُها الغُبارْ آآآآآآه ما أَطْوَلَ الأيَّامَ من دونِ انْتِظارْ.. وَحدِي أَحَدِّقُ في السَّوادْ و كَأنَ هذا الدَّهرَ قد لَبِسَ الحِدادْ و اللَّيلُ سَادِيٌّ عَنيدٌ يَنْبِشُ المَاضِي لِيفتَحَ أَلْفَ جُرحٍ أو لِيَقْنِصَ فَرحَةً مَخْبُوءَةً من أَوَّلِ الذِكرَى و يُوقِظَها بَرَاكِينًا تَلَظَّى في الفُؤَادْ هَمساتُ أمّي في صَلاةِ الفَجرِ تَرفعُ كَفَّها بالأدعِياتْ و حَنانُها في حينِ تَصْطَنِعُ الخِصَامْ و تَقولُ هَبْنِي فَرحةً فَأَرَى صَغَارَكَ ثُمَّ أَرحَلَ في سَلامْ وَيْحِي منَ الدَّمعاتِ في الخَدَّيْنِ تَمْسَحُها اتِّقَاءَ الشَّامِتِينَ تَجَلُّدًا فَتَعودُ تَنزِلُ في عِنَادْ.. يا وَجْهَ أمّي هل أَراكْ إنِّي تَعبتُ منَ التَّمَنِّي و اجْتِرارِ الذَّكرَياتْ و حَبِيبَةٌ خَلَّفْتُها بَعدِي هُناكْ أَلْغَازُ عَيْنَيْها، و بَسْمَتُها، احْمِرارُ خُدودِها خَجَلا إذا غَازَلْتُها، غَمَّازَتَا الخَدَّيْنِ، و العَسلُ المُعَتَّقُ في الشِّفَاهِ كَأنَّهُ نَبْعُ الحَياةِ، و خَصْلَةُ الشَّعْرِ الشَّقِيَّةُ حينَ تَعبثُ بالقُلوبِ و بالجِهاتْ مِثْلِي تَعُدُّ الوَقتَ، تَحلُمُ بالغَدِ المَوعُودِ، بِالحِنَّاءِ، بِالبَارودِ، بِالفُستانِ أَبْيَضَ، و الزَّغاريدِ التّي تَغتالُ خَوفَ الأمَّهاتْ خَلَّفْتُها تَبكِي و لم أَترُكْ لها غَيرَ الوُعودِ الزَّاهِياتِ و خَاتَمٍ و الذِّكرَياتِ: لِقاؤُنا في الدَّربِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، و القُبلةُ الأولى بِشطِّ البَحرِ، آخرُ مَوعدٍ لم يَكتَمِلْ إلا و يَفصِلُنا زُجاجٌ بَاردٌ من خَلفِهِ عِشرونَ بَابْ و تَجَعَّدَتْ في الجَيبِ صُورَتُنا مَعًا و لَرُبَّما أَيضًا تَجَعَّدَ وَجهُهَا بالدَّمعِ أو سُنَنِ الحَيَاةْ يا وَجْهَ أمّي هل أَراكْ إنِّي تَعبتُ منَ التَّمَنِّي و اجْتِرارِ الذَّكرَياتْ وَحدِي أُحَدِّقُ في الظَّلامْ و الصَّمتُ يُوغِلُ في الكَلامْ وَحدِي تُحاصِرُني الهَلاوِسُ و الهَواجِسُ و العُفُونَةُ والرُّطوبَةُ و الذُّبابْ و شِجارُ مَسجونَيْنِ يَصَطَخِبانِ حَوْلَ سِجَارَةٍ أو فُسْحَةٍ في الرُّكنِ قد تَخْلُو قَريبًا .. رُبَّما من أَجلِ لا شَيءٍ.. فَقطْ من أَجلِ تَفريغِ المَرارةِ و الحَنينِ، و حُرْقَةِ الأشْواقِ في لَيْلِ العَذابْ و سُعالُ مَسْلُولٍ من الزِّنْزانَةِ الأُخرَى يُصارِعُ مَوْتَهُ يَهْذِي بأُمِّهِ و ابْنَتَيْهِ.. و أَرْضِهِ -من سَوفَ يَحرِثُها إذا سَكَنَ التُّرابْ- يا وَجْهَ أُمِّهِ هل يَراكْ .. وَحدِي أُحَدِّقُ في السَّرابْ العُمْرُ يَمضِي و الشَّبابْ قد شَابَ هذا الرَّأسُ.. حتّى القَلبُ شَابْ فَلْأَنْتَهِي أو يَنتَهِي هذا العَذابْ وَحدِي تُحاصِرُني الهَواجِسُ.. و الوُجوهُ الغَائِباتْ أُمِّي و وَجهُ حَبيبَتي جُرحانِ في قَلبِي المُمَزَّقِ يَنزفانِ على الدَّوامْ يا وَجْهَ أمّي هل أَراكْ إنِّي تَعبتُ.. فَهَلْ أَراكْ .