الخصومة الدائرة بين الأكاديميين والمبدعين أو بين النقد والإبداع سببها الجهل حينا وغياب النزاهة حينا والإعلام القاصر أحيانا. بعض المبدعين اكتفوا بما لديهم عما ينبغي أن يسعوا لتحصيله: المعرفة. وبعض الإعلاميين الذين تنقصهم الكفاءة تنقصهم النزاهة أيضا. أما بعض المبدعين فقد جعلوا الإعلام منابر لطموحاتهم الشخصية على حساب الإبداع والمعرفة معا. وبعض النقاد ظنوا أن لهم سلطة على المبدع وعلى وعيه الجمالي فسعوا إلى قهره وقمعه برؤاهم غير الإبداعية. هذا كله دليل أزمة ثقافية عميقة تجعل المعرفي منافيا للإبداعي وترى النقد قدحا وتجريحا فيما هو علم ومعرفة. ثم متى كان الإبداع مكتملا؟ هو محاولة مستمرة لقول ما لا يقال. المعرفي والجمالي متلازمان في كل الثقافات يغذي احدها الآخر ويستمد طاقته منه. يتكئ المعرفي على رصيد العقل والحكمة واليقين ويغذيه الاطلاع المستمر ويبحر الجمالي في عباب الرؤى والخيال ومشاعر القلق والشك والأحاسيس المرتبطة بالدهشة والروعة والانخطاف. طريقان لارتياد العالم وكشف غوامضه واختراق آفاقه. من أجمل ما قرأت في هذا الشأن أن العلم يسمو على نفسه قليلا فيغدو فنا وان الفن يسمو على نفسه قليلا فيغدو علما. يعني ذلك أن العلم والفن يلتقيان في مستوى أسمى من مستوى كل واحد منهما. تركيب عجيب من الحس والحدس والتجربة والعقل. فالإبداع تجربة شخصية تعتمد على التجربة والدربة والممارسة المستمرة ولكنها تحتاج إلى الأخذ بقواعد الإبداع التي تعمل على صقل مهارة المبدع الفنية. فيزيد العلم من ألق الموهبة وبريقها بقدر ما تزيد التجربة الإبداعية من عمق المعرفة الجمالية واتساعها. كان الشائع قديما أن العلماء أيضا فنانون كبار. وإذا كان ذلك قد ارتبط بعصر الموسوعيين فقد سبقه عصر كان فيه الفنانون أيضا علماء في حدود تلك المراحل التاريخية للعلم. ومع ذلك يزعم بعض المهتمين بالشأن الإبداعي أن الفن يرتبط بالفطرة بعيدا عن قواعد العلم والمعرفة وأن العلم والمعرفة مفسد للفطرة وبالتالي يكون عائقا أمام الإبداع. غير أن الفنون و«الصنائع" قد عرفت انفجارا رهيبا في العصر الحديث بما يجعل لكل "صناعة" علما خاصا بها. مما استدعى زيادة التخصص ضمن التخصصات الفنية والتقنية. صار لكل تخصص دقيق مدارس وكليات تسهر على تلقين القواعد الأولية والبحوث وتحقق تراكم المعرفة في كل شأن من شؤون الفن. أفكر في الإبداع الفني في مجالات الرسم والموسيقى والنحت والتصوير والتمثيل والسينما والتمثيل والرقص والفنون الفرعية والمكملة مثل كتابة السيناريو والمزج والتقطيع والسيرغرافيا والتصميم بكل أنواعها. فكل هذه الفنون تطورت عبر رؤى ومدارس فنية وفلسفية وفكرية وضمن قواعد يعرفها أهل الاختصاص. أين الفطرة من كل ذلك؟ ولننظر الآن إلى فنون الكتابة والآداب المختلفة عبر مراحل تاريخية طويلة. كم ظهرت مدارس أدبية ونظريات معرفية ونقدية انطلقت من تجارب المبدعين أنفسهم بدراسة آثارهم ونقدها وتمحيصها معرفيا ثم تحولت إلى نظريات ومناهج إبداعية تتبع ثم تبعتها مدارس ونظريات أخرى. وهكذا طبيعة العلاقة بين الإبداع والمعرفة: تفاعل مستمر وجدل دائم. وإلى ذلك احتدمت المنافسة بين المبدعين والمؤسسات الراعية للإبداع والمنتجة والمستثمرة في "الصناعات الثقافية" المختلفة مما جعل من كل مبدع عالِما أو ناقدا أو على الأقل عارفا بقواعد "صناعته". وهكذا يزداد دور المعرفي بقدر ما يتطور الجمالي أو يتسع الحقل المعرفي بقدر ما يتنوّع الأفق الجمالي. وفي صورة موجزة أقول: أبدا يرتفع قوس قزح الإبداع صوب شمس المعرفة. فمزيدا من المعرفة لمزيد من الإبداع. ومزيدا من الضياء لمزيد من الألوان. لا بد من حدقة مدرّبة على التحديق في النور لكي تنظر إلى الشمس بأجفان غير مرتعشة ولا بد من ألوان مكثفة لتمرين العيون على الجمال والقلوب على المشاعر الحية. الجفاف والقحط والجدب مرادفات للقبح في المشاعر لا في الطبيعة. ولو كانت النفس سليمة في تكوينها لرأت الجميل في كل منظر ولاجتهدت من اجل الجمال وأدركت سر الحياة في كل حال. فالجمال تربية وذوق والسعادة اجتهاد. عيناك يرى الناس ألوان عينيك أما أنا فأرى بهما