صمتوا طويلا حين كان الصمت حكمة. وتكلموا حين أحسوا أن التاريخ الحقيقي بدأ يطمس ببطء وعلى نار هادئة. وعبروا عندما اكتشفوا أن تاريخ الثورة لا يعني الكثير لشباب اليوم. خبأوا أسرارهم ومعاناتهم وتفاصيل نضالهم، خبأوا ارتعاشات قلوبهم وتقطع أنفاسهم ليس أنانية ولا تكبرا ولا عجزا عن قدرة الإفصاح والقول، لكن تواضعا وتقديرا لمن ضحوا بأنفسهم وبأبنائهم وعائلاتهم وأموالهم، صمتوا خشوعا وحياء أمام أرواح شهداء ودم ساح في كل ذرة تراب مؤمنين إيمانا راسخا بأن ما قاموا به ما هو إلا جزء لا يتجزأ من عمل شعب بأكمله صغيره وكبيره في نضاله اليومي والمستميت وبكل الوسائل المتاحة من أجل الحرية والاستقلال، في المدن والقرى والمداشر في الفيافي والوهاد والوديان والجبال والمغارات المنسية التي تحولت إلى محارق في كثير من الجهات. صمتوا أيضا ربما تحفظا وحفاظا على أسرار لم يحن بعد الإفصاح عنها وعن تفاصيلها التي يمكنها أن تحرج العائلة خاصة تلك المرتبطة بالاغتصاب وطرق التعذيب المذلة أو تلك التي يمكنها أن تؤذي البعض أو ربما تزعزع استقرار البلد. لكن الأهم أنهم اعتبروا ما قدموه وما قاموا به وما أنجزوه هو واجب وواجب فقط استلزمه الظرف واستلزمته ضرورة المرحلة ومتطلباتها. المجاهدة يمينة شراد زوجة الشهيد رشيد بناصر واحدة من هؤلاء، كان لي شرف لقائها وتوريق صفحات قلبها المرهف وذاكرتها الندية قليلا قليل في معرض الكتاب في جناح "الكلمة " أين كانت توقع كتابها" six ans au maquis" ، شهادات حية عن طفولتها وشبابها وتفاصيل النضال في أماكن ومواقع مختلفة من الشرق الجزائري في الولاية الثانية من 1956 إلى الاستقلال، حيث التحقت بصفوف الثورة مباشرة بعد إنهاء دراستها ووتخرجها والتحاقها بالعمل كممرضة في مدينة قسنطينة. هي التي تخرجت وبكل فخر من مدرسة الشبه الطبي التي أنشأها وأسسها طبيب العيون عبد القادر سماتي في مدينة سطيف سنة 1949، والتي كوّن فيها ممرضات التحقن بالثورة وبجبهاتها المختلفة داخل الوطن أو على مشارف حدوده، منهن تسعديت آيت سعيد، لويز علوش، فاطمة الزهراء بلعجيلة، يمينة شراد، مليكة قايد زوليخة قونار، عائشة حداد، مسعودة حشري، ربيحة حميسي، زكية خناب، ميمي ماداسي، فاطمة الزهراء أومجكان، كلثوم رزوق وأخريات تكون في 1959 في مدينة الأقل على يد الطبيب المجاهد لامين خان وبعده على يد الطبيب المجاهد محمد تومي من بينهن الشهيدات، مريم بوعتورة ، مليكة خرشي، جميلة مهيدي، مسيكة زيزا وغيرهن. ما يشد في حكاية المجاهدة يمينة شراد ذلك التوصيف الدقيق لمرحلة حياتية حاسمة للفتيات المتعلمات من جيلها واللواتي اخترن الالتحاق بالثورة مثلها وكيف أنهن اعتبرن تعليمهن وتكوينهن سلاحا إضافيا لازما ومهما لدعم الثورة التي كانت تحتاج إلى كل القدرات والمهارات والمعارف مهما كانت قيمتها ومهما كان حجمها، تحكي بتفصيل وبحب كبير عن روح التعامل والتكامل مع نساء وفتيات أخريات من المداشر والأرياف لم تتح لهن فرصة التعليم لكن روح التضحية والنضال سكنتهن بالفطرة وبقوة. ذاكرة حية متقدة تسترجع الأسماء والوجوه، وجوه من هم على قيد الحياة ووجوه من رحلوا. حكت عن أدق تفاصيل التنقل والتخفي والعمل التنظيمي الذكي للإفلات من المستعمر والدور الذي لعبته العائلات الريفية في المساعدة بكل أنواعها، وفروا الأكل والشرب والإيواء كما عملوا وبقوة على تسهيل الطريق للتنقل، مركزة في ذلك على الدور الفعّال والضروري للمرأة والفتاة في كل التفاصيل اليومية المرتبطة بأهداف الثورة، وكيف أنهن كن يجتهدن حسب الظرف وحسب الحالة وحسب الحاجة بشجاعة ونباهي وذكاء، وحدس لا مثيل له، مركزة على الاحترام والتقدير الذي كانت تحظى به المجاهدة من طرف المجاهدين والمسؤولين العسكريين والسياسيين. كم تشابهوا نساء ورجالا أطفالا وشيوخا في المقاومة وفي الاستشهاد كل من موقعه، أعطوا للعالم صورة جميلة عن التضحية والعطاء مبينين أنه ليس هناك أحلى وأغلى وأجمل من الوطن ومن الحرية. خارطة الوطن كبيرة وواسعة وفي كل شبر منها كان هناك من يكمش بقوة على التربة والرمل والصخر والعشب البري ويخبئ ما تيسر بين رموش العين وفِي أعمق نقطة في القلب. كل قصة مادة قوية للكتابة والفن التشكيلي والمسرح والسينما وكتابة ملاحم أسطورية تسجل في التاريخ ككل الملاحم الإنسانية التي لا زلنا تقرأها ونشاهدها على الشاشات لحد الآن لأن الملاحم لا تشيب ولا تصدأ ولا تنمحي، فهي تتجدد باستمرار وبطرق مختلفة في حكاياتنا الشعبية لأنها لا تعترف لا بحدود ولا بخرائط جغرافية.