الاعتكاف سنة مستحبة تكاد تنسى في زماننا الذي طغت فيه المادة على الروح وآثر الناس الحياة الدنيا على الآخرة، وغالبا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتكف في شهر رمضان انقطاعا للعبادة وتلاوة القرآن الكريم، وكان جبريل عليه السلام يعارضه القرآن وهو معتكف. وقد خصص ابن القيم الجوزية فصلا كاملا لهديه في الاعتكاف في كتابه القيم زاد المعاد ، نحاول الاستعانة به تعميما للفائدة وتعريفا بتراث علمائنا، حيث ذكر في البداية فوائد الاعتكاف قائلا(( لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وترك فضول الطعام والشّراب ومخالطة الأنام وفضول الكلام والمنام يزيده شعثا ويشتته ويقطعه عن سيره إلى الله أو يضعفه ويعوقه ، اقتضت رحمة الله أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، و يستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة للسير نحوه وشرعه بقدر المصلحة لينتفع به العبد في الدنيا والآخرة ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى والخلوة به والاشتغال به وحده والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته ، فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له ،فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم ، ولهذا شرّع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم العشر الأواخر من رمضان. وقالت عائشة رضي الله عنها لا اعتكاف إلا بصوم، فالصوم شرط في الاعتكاف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى وفاته وتركه مرة فقضاه في شوال واعتكف مرة في العشر الأول ثم الأوسط ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر ثم تبين أنها في العشر الأخير ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد، فيصلي الفجر ويدخله، وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام وفي العام الأخير اعتكف عشرين يوما وكان جبريل يعارضه القرآن كل سنة مرة، وفي ذلك العام عارضه مرتين وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده ولا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان ولا يزور المريض أو يسال عنه وكان يخرج رأسه لتقوم عائشة بغسل شعره ، وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف واعتكف مرة في قبة تركية ، كل هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف وروحه عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الحديث بينهم فهذا لون والاعتكاف النبوي لون )) انتهى بتصرف فقد جمع شهر رمضان فضائل كثيرة من صيام وقيام وتلاوة القرآن والاعتكاف وليلة القدر والجود والكرم وفعل الخير ، فهو مدرسة في التربية والأخلاق وطاعة الله تعالى ومع ذلك نرى كل سنة سلوكا منافيا لقيم هذا الشهر العظيم الذي كان يخلو فيه رسول الله صلى الله والسلم بنفسه متعبدا ومتهجدا، فيعتكف في المسجد فيهجر متع الدنيا كلها ، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي كان يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما فأين نحن من ذلك وقد حولنا رمضان إلى شهر للاستهلاك والسهرات وبرامج التلفزيون الهابطة المملوءة بالسخرية والعبث وقد تجرأ البعض على انتهاك حرمة رمضان وطالبوا بفتح المقاهي والمطاعم.