كل الاستعمارات قديمها و جديدها تتشابه بطريقة أو بأخرى. ليس هناك استعمار أحسن من آخر أو استعمار أرحم من استعمار. الاستعمار هو القهر وهو الجوع وهو الحرمان وهو السجن وهو التعذيب وهو التشرد والنزوح والهجرة وهو الحرق وهو الموت المعلن بامتياز، وبكل اختصار هو النكبات والهزات العنيفة والحروب التي تنسف في طريقها الأخضر واليابس. الاستعمار طائرات ودبابات وجيوش وآلات وعتاد وأوسمة ونياشين ومؤامرات ومكائد وحسابات ومصالح وشعوب وناس استثنائيون وناس عاديون وناس شرفاء وناس خونة وكثير مما لا يلمس ولا يرى. شعوب مظلومة في الحالتين، الشعب المستعمَر مظلوم بالضرورة; أرضه تنهب وتسرق وهو يستعبد ويحرم من أدنى الحقوق، والبلد المستعمِر شعبه عادة مقسم إلى فئات، فئات رافضة وفئات متمردة وفئات قابلة ومؤيدة وفئات مبرِّرة للحالة ومترددة وفئات تجد نفسها رغما عنها أمام الأمر الواقع. وما تفرزه الإستعمارات من مواقف وممارسات ليس بالضرورة ما يتوقعه أو ينتظره ويرضى عنه المستعمِر حتى وإن كانت الأمور مبرمجة ومسطرة ومدروسة مسبقا لأن للتاريخ قوانينه الخاصة ومساراته ومفاجآته التي لا يتوقعها أحد مهما دقق في الحسابات. تجربة الجزائر مع الاستعمار واضحة في هذا المجال، هناك شهادات جميلة قوية ومؤثرة، دفع أصحابها نساء ورجالا الثمن الغالي والقاسي بسبب تعاطفهم مع الشعب الجزائري ومساعدته ووقوفهم بقوة مع قضيته ومطالبه المشروعة والعادلة التي اعتبروا أنفسهم جزءا حميما منها. أوروبيون بسطاء وعاديون من مختلف الثقافات والأديان، داخل الجزائر المستعمرة أو خارجها من وراء الحدود والبحار؛ شخصيات سياسية ومحامون تجندوا من أجل المساجين من أمثال سيمون فييsimonne veil) التي تمكنت من إنقاذ أكثر من مائة سجين، (جاك فيرجيس Jeaques Vergès) ودفاعه المستميت عن جميلة بوحيرد، وجيزيل حليمي Gizèle Halimi التي رفعت قضية جميلة بوباشا عاليا، وسيمون دوبوفوار Simone de Beauvoir ومواقفها النبيلة مجازفة بحياتها من خلال تنديدها بالسياسات الفرنسية في الجزائر ومقدمتها العميقة لكتاب جيزيل حليمي عن جميلة بوباشا، مثقفون ومفكرون من أمثال ( جان دانييل بنسعيد Jean Daniel Bensaid) ابن البليدة ودوره الهام في (لو نوفيل أوبسيرفاتور Le Nouvel Observateur). جعلوا من أصواتهم وأقلامهم ومواقفهم المبدئية ومواقعهم سلاحا لفضح الممارسات الاستعمارية، وإسماع صوت الجزائريين في مختلف المنابر العالمية بشتى الطرق الوسائل سواء عن طريق الممارسة الصحفية أو الكتابة الإبداعية ومختلف الأشكال الفنية، من صورة وسينما ومسرح وفن تشكيلي- لا أحد ينسى اللوحة التي خلد بها الفنان التشكيلي الإسباني بيكاسو جميلة بوباشا- وأعمال وثائقية كتلك التي أنجزها في الميدان (روني فوتيي René Vautier) والذي اختار بعد الاستقلال البقاء في الجزائر إذ أسس مركز السمعي البصري ورسخ في ما بعد تقليد السينما المتنقلة التي جابت الكثير من مناطق الوطن ، أو ما كتبه هاري سالمHari Salem المسمى هنري ألاڤ Henri Alleg) سواء على مستوى الصحافة أو في كتابه المهم «القضية» الذي فضح فيه عمليات التعذيب والعنف والتعسف في الجزائر المستعمرة، دون أن ننسى زوجته المناضلة (جيلبيرت سرفاتي Gilberte Sarfati) عضو الحزب الشيوعي الجزائري وكل ما قامت به من أجل رفاقها ومختلف فئات الشعب. (هنري كاشان كريا Henri Cachan Kréa) صوت إبداعي آخر من أم جزائرية وأب فرنسي، من بين الأصوات الكثيرة التي تحتاج إلى أكثر من وقفة وأكثر من منبر لإبراز ما قدمته وقامت به، شاعر ومسرحي وروائي مشبع بالروح الجزائرية التي جعلته يهتم بكل ما يمت بصلة إلى الموروث الشعبي العميق وما خزنته الذاكرة من جراح وشروخ، انطلاقا من مبادئه وحساسيته المفرطة حيال الممارسات القمعية ومحاولات محو وطمس الهوية الجزائرية بكل مكوناتها. وقف بشراسة ضد التجنيد في صفوف الجيش الاستعماري موقعا على بيان 121 الداعي للحق في العصيان. هذا على سبيل المثال لا الحصر، محطات صغيرة وصغيرة جدا نحاول من خلالها نبش الذاكرة حتى لا يصيبها الشلل، وربما تكون إشارة وتنبيها للأخذ بعين الاعتبار نصوص وإبداعات كل من لامس العمق والواقع الجزائري في تلك الأيام العصيبة، وجعلهم يسكنون ذاكرة تلاميذها وطلابنا، ويتسللون قليلا إلى عيون وسائل الإعلام.