أحالتني المشهدية التي يصنعها العرض المسرحي « الحراز « لشباب المسرح الجهوي لوهران بساحات و شوارع عدد من مدننا ، إلى الحلقات التي كانت تنعقد قبل وبعد الاستقلال بالباحات العامة والأسواق ، و في المناسبات الدينية والإجتماعية مثل المولد النبوي الشريف و يناير و الوعدة ، حيث كان الناس يتحلقون حول المداح أو الراوي أو القوال يستمعون إلى حادثة الإسراء و المعراج أو قصة السيد علي - كرم الله وجهه - والكفار ، أو الكاهنة أو بطولات عنتر بن شداد ، أو سير الأولياء وكراماتهم ، و من أشهرهم : عبد القادر الجيلالي ، بومدين الغوث ، عبد الكريم المغيلي ، و لخضر بن خلوف ، صاحب ملحمة مزغران المعلومة .. إن أهمية انعقاد هذه الحلقات تكمن في بعدها الاجتماعي و الثقافي والتواصلي ، كبؤرة تواتر مباشر تتعلق فيها أسماع و أنظار المتحلقين بكلمات و نبرات وحركات القاص الناص .. و يمثل استرجاع هذه الظاهرة فنيا من قبل شباب المسرح الجهوي لوهران ، إحياء لإرث ثقافي شعبي سعى رواد مسرحيين من مشرق ومغرب الوطن العربي للنهل منه واستلهامه كشكل يلبي قصديتهم الفنية المتمثلة في إرساء أسس قالب مسرحي محلي ، يوائم فكريا وجماليا إيطار جغرافيا مفتوحة تشربت منذ القدم من معين الحكي والقص وقرض الشعر والخطابة ، بديلا مقابلا للحوار كأسلوب إنمازت به الدراما الناشئة في أحضان مدينة « أثينا « اليونانية .. ولعل أقرب التجارب ذاتيا و زمكانيا إلى فريق « الحراز « ، تلك التي خاضها الراحل : عبد القادر علولة بالمسرح الجهوي لوهران ، و انتقل بها إلى الأرياف و المصانع والجامعات لتجريب الحكي و القول في الفضاء الدائري ، كتقنية جمالية ذات نجاعة اتصالية تحقق التمثل الواعي للخطاب المرسل من الرواة والممثلين باتجاه جمهور المتحلقين من الطلبة والعمال والفلاحين .. ويتزامن استثمار الشباب للشكل الحلقوي الفرجوي في الشوارع والساحات العمومية ، مع تنامي رغبات و تطلعات شبابية هنا وهناك لممارسة الفعل الثقافي في الفضاءات المفتوحة ، حيث يتاح للخطاب الثقافي بأن يتماس أو يتقاطع أفقيا مع الخطاب الشعبي ويتمازج معه ويتماوج ، دون أن يخل أحدهما ببنية ووظيفة الأخر .. وهذا - في تصوري - رهان رابح على المدى البعيد ، يؤسس للتنوع والاختلاف الثقافي ، و يمكن للفئات الشعبية التي تعاني من العوز و الرتابة ورهاب العلب الثقافية المغلقة ، أن تنال أقساطها من التثقيف ، و حقوقها في المتعة والتسلية والترفيه .. إن تعميم تجربة مسرح الشارع ، وانتشار المقاهي الثقافية والفنية ، و تحرير المبادرات و دعمها باتجاه ممارسة الفعل الثقافي الحر ، من شأنه أن يفرز مشتلات ترسخ التنوع الثقافي وتثريه ، و تؤصل للاختلاف الفكري وتنميه ، وترسي الحوار والتشاور والتواصل كأدوات حضارية للتخاطب الأفقي والعمودي حول قضايانا المختلفة ، و في مقدمتها - برأيي - ماهيتنا كجزائريين، نتقاسم رقعة معيش مترامية الأطراف ، و تقع علينا جميعا مسؤولية التفكير في كيفيات التعايش بسلام ، لضمان جدوى وجودنا ، واستدامة صلاحية فنوننا وثقافاتنا وعاداتنا من بعدنا ، في تحصين أبنائنا من الإرتداد عن هويتهم الأصيلة بأبعادها الثقافية الثلاثة .