منذ أزيد من أربع سنوات ، صادفت صديقي الفنان المخضرم : محمد أدار في ساحة البريد المركزي ، وكلانا كانت وجهته شارع الأوراس ( لاباستي ) ، لاقتناء بعض الحاجيات قبيل أن يزدحم الشارع كالعادة مع غروب الشمس . وبعد مسافة من الخطو والصمت ، حدثني صديقي بصوته الخافت ، وسط الأصوات المتعالية للباعة ، عن رغبته في ملاقاتي مع نهاية الأسبوع لتسليمي نص مسرحي استكمل كتابته منذ أشهر قليلة ، ولكنه بحاجة إلى تلاوة متأنية من قارئ حميم قبل قراءته دراميا أمام جمهور نوعي وواسع .. تجاوزنا منطقة الضوضاء ، و توقفنا عن السير عند النهج المؤدي إلى مقهى « الكليشي» ، واتفقنا على التخاطب هاتفيا قبيل الالتقاء مجددا .. افترقنا بعد أن أخجلني « سي محمد « بكلمات أثنى فيها على شخصي ، و قدرتي على إثراء بعض الأفكار التي ضمنها في نصه الذي عنونه مؤقتا : الطيحة .. واصلت المسير بمفردي إلى آخر الشارع ، ومن ثم هرولت كعادتي باتجاه مكتبة جبهة البحر لأقضي دقائق بين الكتب .. ومع حلول نهاية الأسبوع ، التقينا لثاني مرة بالصدفة ، و عند ناصية الشارع نفسه ، فاستحسن كلانا هذه المصادفة اللطيفة ، وتحدثنا وقوفا عن النص ، ولما هممنا بالانصراف ، فتش « سي محمد «، عن مخطوط مؤلفه في محفظته ليناولني إياه ولكنه لم يجده ، ثم تذكر أنه تركه في صندوق السيارة التي ركنها بعيدا عن نقطة التقائنا .. فاقترحت على صديقي ، الذي أسف لضياع هذه الفرصة أيضا ، أن أسمع نص « الطيحة « مع الجمهور ، ونلتقي بعدها لمناقشة البناء الفكري والفني للنص ، في ضوء الملاحظات التي يبديها الزملاء و الحضور النوعي يوم القراءة الدرامية العلنية للمسرحية .. و شاءت الأقدار أن يغوص كل منا في انشغالاته ويومياته ، و لم أستجب ، في غمرة تحضيراتي لأول سفر علمي لي بالخارج ، لدعوة سي محمد لكي أشهد معه « الطيحة «، مقروءة مع جمهور الممارسين والدارسين ومتذوقي الإبداع .. واكتفيت بعد عودتي من السفر بقراءة بعض كتبته الصحف عن النص ، و استرعى انتباهي وقتذاك ما خطته الزميلة الزهرة برياح في جريدة الجمهورية من انطباعات مهمة عن فكرة المسرحية وموضوعها .. سررت فعلا بما أسالته القراءة الدرامية الأولى للنص من حبر الصحفيين ، و أحاديث الفنانين والمثقفين ، فهاتفت صديقي المؤلف وهنأته ، وأبلغته تفاؤلي بشأو هذا المولود عندما يتاح له أن يحبو ويمشي على ركح عبد القادر علولة .. لا أخفي عن قرائي ما لم يعد عن زملائي بخفي ، أني أجامل أي مبدع يطلب رأيي حول مبدعه ، وأني حينما ألوي على استصدار رأي أو انطباع أو نقد ، أبتهج بمكامن القوة و مرافيء الجمال ، أكثر من تتبعي لمواطن الضعف و هنات المنجز محل المعاينة ، و خصوصا عندما يتعلق الأمر بمراجعة إبداعات الشباب .. أما بخصوص آخر منجزات صديقي المخضرم ، الذي قرأت له وشاهدت كل منجزاته منذ مطلع ثمانينيات القرن المنصرم ، فإني - تحت طائلة الاحترام والعرفان - لا المجاملة ، أعترف أن نص « سقوط « أسقط من خلفيتي الفنية والفكرية ما اختزنته في ذاكرتي العاطفية عن صاحب البيادق ، المخضرم ، الأمخاخ ، البئر المسموم و غيرها من الكتابات .. ذلك أن المسرحية تمثل تشكلا فنيا ناضجا ، و دربا غير مألوف في الريبرتوار الإبداعي لمحمد أدار ، سواء تعلق الأمر بأسلوب الكتابة أو طرائق معالجة الأفكار المتزاحمة المحبوكة إلى حد بعيد بشكل مقبول داخل النسيج العام للنص .. إن محاولة المؤلف للتوليف بين جملة من المتضادات : اللا تفاهم بين الشخوص ، انهيار القيم ، تباين المواقف ، الراهن و الممكن .. لطرق موضوع حساس مثل الحرقة ، وما أنجر عنها من مخلفات على جميع الأصعدة : الاجتماعي ، الاقتصادي و الثقافي .. لاقت تبنيا من لدنا كقراء و مشاهدين ومواطنين مسهم لظى هذه الظاهرة المؤلمة حسا ومعنى .. وخلفت في كل حلقة مزيدا من البثور والندوب واليأس على وجه شريفة التي هلكت من أمل انتظار عودة سعدي ، الذي فقد نفسه ، و محى بفعلته اللامعقولة قيم الوفاء و الإخلاص ورد الجميل التي تشربها حنانا وعطفا وفطاما ورعاية .. هي رسالة إنسانية أريد لها أن تخترق الآذان و القلوب والعقول ، بما حشد لها المؤلف والمخرج محمد أدار من أفكار وفنيات ،وكذا جهود وخبرات وطاقات تعاونية بذور ، لبث تساؤل مثير في دواخلنا كلنا عن مصيرنا ، ومصير كل شريفة في هذا الوطن : تنجب و تطعم و تسهر بلا كلل ، بيد أنها لا تثق في حصاد و ينع ما بذرت : فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان !؟.