التاريخ منذ الأزل هو سلسلة أحداث مشاعة , و لن يستفيد منها إلا من يحوزها بملكية فكرية موثقة و موثوقة المصادر , تجعل منها مادة صالحة للتوظيف التربوي و الثقافي و السياسي و العسكري و في غيرها من مجالات الحياة البشرية , و في جميع هذه الأحوال , فإن الجهل بالتاريخ مضر دائما. فالاستقلال الذي تحتفل الجزائر بعد أيام بمرور57 عاما من عمره , في ظل حراك شعبي , لجأ إلى المرجعية التاريخية لصياغة شعاراته و تشكيل لافتاته , و انتقاء صوره المرفوعة في التظاهرات الشعبية , فيما يشبه عودة جيل إلى حضن التاريخ الوطني و هو الذي لطالما قلب ظهر المجن للشأن التاريخي إلى درجة المطالبة بحذف اختبار مادة التاريخ في امتحانات المدرسة الجزائرية . إن عيد الاستقلال هذا العام سيصادف الجمعة العشرين من الحراك الشعبي , مما يتيح للشعب بجميع أفراده و شرائحه إحياء هذه المناسبة بالطريقة العفوية التلقائية التي عهدناه عليها خلال السنوات الأولى من الاستقلال , عندما كانت زغاريد الفرح تنبعث من الشرفات نابعة من القلب , لتفرح قلوبا أخرى عرفت معنى الاستقلال أو معنى ثورة التحرير . و عندما كان الأطفال ببراءتهم يهرولون في الشوارع حاملين الأعلام الوطنية( و ليس رايات أخرى ) صارخين بحياة الجزائر , و عندما كانت المهرجانات و الألعاب الشعبية تستقطب جميع أفراد الشعب في الساحات العمومية و في جميع مدن وقرى الجزائر (و ليس في العاصمة و أمام البريد المركزي على وجه التخصيص ) . و عندما كنا لا نصبح صبيحة أي عيد وطني إلا و على كل باب وكل شرفة منزل , أعلام وطنية ترفرف معلنة بأن المنزل أو الشرفة هما لجزائري يحب وطنه . يومئذكان الشعب الجزائري برمته يشعر بمتعة الاحتفال بأعياده الوطنية , لأنها أعياده قبل أن تكون أعياد الدولة و أجهزتها , و كان يستغل العطل المدفوعة الأجر التي تمنحها الدولة في هذه المناسبات للتعبير عن شعوره الوطني بالطريقة التي تتناسب و عظمة الحدث . و لعل العودة إلى حضن التاريخ ستجعل الشباب الجزائري يدرك , أن عيد الاستقلال أعظم من فوز الفريق الوطني في أي مباراة مصيرية , لأن الاستقلال سبب وجود للفريق الوطني , ولكل ما يحمل وصف «وطني» في هذه البلاد . و لعل هذه العودة تكرس تقاليد جديدة تعود الشعب الأخذ على عاتقه بطريقة منظمة ومنسقة مهام تنظيم , تأطير , وتمويل الاحتفالات بالأعياد الوطنية , وخارج أوقات العمل الرسمية , لتمكين أجهزة الدولة للتفرغ من أجل قضاء مصالح الناس . إن بلوغ مثل هذا الهدف ليس مستحيلا إن تظافرت جهود المربين و الإعلاميين و جهود الحركة الجمعوية , للاستفادة من يقظة الروح الوطنية التي بعثها الحراك في الشباب الجزائري على وجه الخصوص , و استغلالها فيما يعطي للتاريخ معنى ملموسا في كل مناحي حياتنا, فالذي «يقرأ التاريخ لا ييأس أبدا , إذ لا فرح يدوم و لا حزن يستمر» كما قال المرحوم هواري بومدين . لكن التاريخ مع ذلك سيظل دائما حليفا للوطنيين و خصما للخونة, و أولى مظاهر الوطنية تتجلى من خلال طريقة احتفال أي شعب بأعياده الوطنية , فهل طريقة احتفالنا بها ترقى إلى مستوى الوطنية التي نتغنى بها صباح مساء في خطاباتنا, أم أنها في حاجة إلى رسكلة ؟ و هل في إمكان الحراك القيام بهذا الدور , أم أن الظرفي لا يُصلِح ما كرسته العادة ؟