ما أحلى أن تعيش في الريف أياما لتريح أعصابك من ضجيج المدن وضوضائها ، هكذا كان يقول لي صديقي رشيد عندما يزورني بقلب المدينة الذي صار لا يطاق ،فرغم التمدن والتطور وكثرة الأسواق وكبريات المحلات ،إلا أن عيبها أنها أصبحت مرتعا للمنحرفين ومفرغة للنفايات ومقرا للفوضى... لاحظ صديقي رشيد أنني رغبت في الذهاب لزيارته إلى بيته الطيني الجميل والذي يتوسط بساتين النًخيل تحيط به السًواقي الرقراقة من كل جانب والماء العذب الصافي ينساب محدثا صوته الموسيقي العذب الذي يطرب الآذان فتبتهج النباتات لقدومه وكيف لا وهو مصدر حياتها وإلهامها ،فكنت تراني عايش هدوء الريف بكل حذافيره، فمثل هذه المناظر ألهمت الشعراء والكتاب والرسامين وحتى السينمائيين ، فعشت عند صديقي أحلى أيام عمري في مشهد ريفي بكر لا يمكن أن تتكرر ... عاد بي الحنين وأنا هناك إلى طفولتي عندما كنًا نعيش بقريتنا التي تقع على جنبات وادي « سيدي زرزور» الذي كانت تجاوره وتستند إليه ساقية دائمة الجريان هي السًاقية الفلياشية ، والتي تستمد مياهها العذبة من عين ڨرمودي التي نضبت مياهها وصارت نسيا منسيا ،لقد كانت السًاقية الفلياشية تمر بين حقول النخيل والخضر بمياهها الرقراقة ،وكان لكل واحد من أترابي أو أبناء قريتي مع هذه السًاقية حكاية ... الفلياشية لم تكن مجرد ساقية فحسب، بل كانت ذاكرة جيل بكامله عاش الطبيعة على براءتها بكل تفاصيلها من صيد للضفادع والشراغيف، إلى صيد العصافير والجري خلف الفراش وممارسة جميع الألعاب وفي النهاية كانت مياه السًاقية هي المهرب الأول والأخير ...وحين الغروب تبدأ أسراب الطيور المغردة تحوم حول السًاقية لتلجأ إلى أوكارها وتبقى الخفافيش وحدها من يزين سماء قريتنا في صعود ونزول لتودعنا هي الأخرى عندما يحل الظلام ليخلد الجميع إلى نوم عميق على وقع نقيق الضفادع وخوار الأبقار ونباح الكلاب وثغاء الخراف .... وما إن تظهر التباشير الأولى للصباح حتى تسمع صياح الديكة و قوق الدجاجات التي وضعت بيضها لذة للآكلين . كانت يومياتنا من أحلى وألذ ما يكون وما إن تحولت قريتنا إلى ملجأ يأوي إليه الجميع حتى غابت السًاقية الفلياشية وغابت معها عين ڨرمودي وراح الإسمنت يغزو قريتنا التي صارت مدينة قروية تملأ جنباتها الأوساخ وراحت تلعب الحضارة بنخيلها الذي استحال أعجازا خاوية و انتشر القصدير على الروابي المطلة على جنباتها وعمً الضجيج .. استفقت من حلمي الجميل فوجدت دموعي قد ملأت عيناي فلم أستطع أن أوقفهما عن البكاء ولكنه كان بكاء كقصيدة نظمها الماضي الجميل الذي لن يمحى من ذاكرتي لأنه ببساطة بقي راسخا في مخيلتي ولن تمحوه التكنولوجيا ولا عواتي هذا الزمان .