آلمني كثيرا ، في ذكرى رحيل المناضل الرمز : ياسر عرفات ، ما شاهدته من مناظر مروّعة رسمتها بالحديد والنار أنامل جنود الاحتلال على رُقعة غزّة الغرّاء .. و كَعادتهم ، تفنّنن قتلة الأبرياء في تصميم لوحات قاتمة تَماوج فيها اللّونان الأحمر والأسود بشكل لافت، على مرأى من العرب والمسلمين و البشرية قاطبة، ومثل كل مرة، ما خلّفت هذه الرسومات الفجّة من انطباعات سوى عبارات الشّجب المعهودات، التي لا تعدو أن تكون تباكيا و عنوانا على مواصلة الانبطاح ، في وقت يمتلئ فيه ساحُ القصف بالجثث المتراصّة ، ويتصاعد عاليا عويل النساء وبكاء الأطفال وأنين الجرحى و آهات واستغاثات الناجين المكلومين .. يتجّدد إذن الترويع و التنكيل بمواطنين عزل ، و العالم أصمّ أبكم يتفرج على فصل جديد من مأساة شبيهة بكثير من التراجيديات التي قرأناها من ذخائر المسرح العالمي .. بل إنّ المسرح ذاته، لاسيما في الوطن العربي ، بات بمعزل عن قضايا الأمة والمعاناة اليومية للأفراد والجماعات ، وأصبح يتودّد إلى الشبابيك لا غير ، عبر الإضحاك القصري و الفجّ للكبار والصغار على حدّ سواء .. لقد قال لي أحد المسرحيين يوما : « إنّ مأساة مسرحنا العربي أنّه دشّن وجوده عام 1847 باقتباس كوميدي ..» ، قد يكون في هذا التصريح بعضا من الصحة ، و لكن الكوميديا برأيي لم تكن يوما تقوم بالإضحاك لأجل الإضحاك فقط ، وإنّ استعراض بعض النماذج من الكوميديات العالمية و العربية و حتى الجزائرية قَمينٌ بالكشف عن غاياتها الإنسانية النبيلة ، ناهيك عن دورها التواصلي السَلِس - عبر وسيلة الضحك و الإمتاع - مع شرائح عريضة من المجتمع .. إنّ الإشكال ليس في التراجيديا أو في الكوميديا أو حتى في باقي الفنون التعبيرية ، إنّما التقصير - على ما يبدو - هو في التراجع الكمّي و النوعي فيما يعبّر عن ذواتنا و قضايانا ، وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني و إرادته في العيش على أرضه بسلام و أمان .. و لعلّ ما يفسّر هذا التراجع في نصرة هذه القضية الحسّاسة فنيا و ثقافيا في اعتقادي ، هو انحسار الشعور القومي وانكفاء المثقفين و المبدعين على ذواتهم ، بسبب الظروف الاجتماعية و المادية البائسة التي أضحوا يعيشونها ، نتيجة تعطّل الفكر وفعل القراءة و تشوّه الذوق و تبلّد الوعي لدى المتلقّين من المحيط إلى الخليج ، و ذلك بفعل الضعف والوهن الذي مسّ أنظمتنا و اقتصادياتنا و حتى سيادتنا ، وانعكاس ذلك على المواطن العربي في تخبطه الروتيني وانغماسه في دوامة تأمين معيشه اليومي فقط .. و إذا أحصينا ما كُتب وأُنتج من نصوص و عروض مسرحية في الوطن العربي عن القضية الفلسطينية بعدَ سنة 2000 ، لوجدنا أنّها تمثّل غيضًا من فيض ، ذلك أنّ القضية كانت في القرن المنصرم محطّ اهتمام بالغ ، و محورًا رئيسا لإبداعات المسرحيين العرب : فقد كتب عنها توفيق الحكيم ، وعبد الرحمن الشرقاوي ، و ألفريد فرج ، و مُعين بسيسو، وغسان كنفاني ، وسهيل إدريس، وسعد اللّه ونوس، و يسري الجندي ، و عزّ الدين المدني، و محمد إبراهيم بوعلو وغيرهم ، و خاضوا بالتفصيل فيها منذ إعلان قيام دولة الاحتلال سنة 1948، مرورا بحربَيْ 1967 و 1973 ، وصولا إلى إعلان قيام دولة فلسطين بالجزائر في نوفمبر 1988 . و الملاحَظ أنّ هذه المسرحيات تعرض بعضها للقضية بطريقة تسجيلية ، و أخرى اتكأت على التراث و التاريخ استحضارا و إسقاطا ، إمّا بتوظيف أبطال و أحداث من بطن التاريخ ، أو باستلهام القصص الديني و الملاحم و الأساطير ، بوصفها نماذج بطولية و محطات انتصار و عزّ و فخار . ومن جهته انتصر المسرح الجزائري بدوره للقضية عبر عديد المسرحيات كمثل « ليلة في أورشليم « ، صلاح الدين الأيوبي ، فلسطين المخدوعة ، و ما سواها من النصوص المكتوبة ، بالإضافة إلى ما أنجز من عروض عن فلسطين في مسرح الهواة و المسرح المدرسي .. فالأكيد إذًا أن القضية الفلسطينية احتلت في الإبداع المسرحي العربي و الجزائري مساحة معتبرة و لا زالت ، إلا أن هذا الحضور تراجع كثيرا ، قياسا بالالتزام البارز لمسرحيينا بالقضية قبل اتفاقيات كامب ديفيد ، التي شكّلت منعرجا مُحبطا للمبدعين و المثقفين و للشعوب العربية عموما .. إنّ ما يطال الشعب الفلسطيني اليوم من تقتيل و تنكيل في غزّة و في سائر المدن الفلسطينية ، لَكَافٍ بأن يوخز أفئدتنا و يوقظ ضمائرنا من سباتها ، لتهبّ الأيدي إلى الأقلام لتجديد العهد مع الإبداع الملتزم المُتساوِق مع نضالات إخواننا اليومية في الأراضي المحتلة و خارجها ، و عضد النداءات الإنسانية الصادحة باسم فلسطين الحرّة في أصقاع العالم ، و هو ما تترجمه التجمعات و التظاهرات و المسيرات التي تنعقد في العواصم العالمية ، و يرفع خلالها العلم الفلسطيني عاليا كما هو الحال في جُمَعنا السّلمية و ملاعبنا .. إن مرافقة الفكر وشتى ألوان الإبداع ، و منها المسرح ، لهذه الأصوات، لَكفيل بتدويل الصمود الفلسطيني في العقول و الوجدان ، لتظل فلسطين قضية تسكننا إلى الأبد ، بل إن العالم بإسره سيعتنق القضية ، و يهبّ مثلنا إلى تحرير روحه الأسيرة العالقة في قدس الأديان و مهد الرسالات من أيدي بني صهيون ، الذين يعيثون في أرضنا فسادا و تدميرا و لا ينتهون .. و بالنتيجة ، أمَا آن لأهل الفكر و الثقافة و الفنون أن يجنحوا - على الأقل - لسلم الشجعان و يبدعون ؟.. فما لي أراهم نياما ، وأهلنا في غزّة يئِنُون ، والصهاينة يقصفون و يدمرون و لا يستثنون، و إنّا لَعَمري على أثارهم لَمٌدرَكون ، أفلا يُدرِكون أنّنا من المحيط إلى الخليج أهدافا لقصف مؤجّل ، و نحن في غمرة ساهون سامدون ، فما لكم صامتون ، لا تناصرون و لا تناصحون ، فلولا أنّكم تنتفضون و تشهرون أقلامكم كالبَنَادق ، فتخرج منها كلماتكم كالشرارات الحارقة ، فتشفي صدورنا الحانقة ، جرّاء ما لحق بنا و يلاحقنا من إذلال وهوان و انكسارات متتاليات ، نتجرعها كل يوم في صمت مطبق مفروضٌ علينا من دواخلنا الخاوية، و أنظمتنا البالية ، وعدوانية المحتلين ، وعقيدتهم السادية .. فيا أيّها المسرحيون ، فلتكن إبداعاتكم مواثيق و عهود التزامكم ، مع أنفسكم و إخوانكم و أمتكم ، و قرائن تؤكدون بها وجودكم وكينونتكم، وتثبتون لمتلقيكم أنكم لستم مجرد مؤلفين أو مخرجين أو ممثلين فحسب، بل بوصفكم أفضل محامين على الاطلاق لأعدل قضية في التاريخ : قضية فلسطين، وما أدراك ما فلسطين .....