ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على لبنان إلى 3583 شهيدا و 15244 مصابا    هولندا ستعتقل المدعو نتنياهو تنفيذا لقرار المحكمة الجنائية الدولية    الرابطة الأولى موبيليس: شباب قسنطينة يفوز على اتحاد الجزائر (1-0) ويعتلي الصدارة    ضرورة تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء وتكثيف الدعم لها لضمان تحقيق أهدافها    ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    شايبي يتلقى رسالة دعم من المدير الرياضي لفرانكفورت    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    ماندي الأكثر مشاركة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جريمة دولة تعري الوجه البشع للإستعمار بفرنسا
مساهمة / مظاهرة السابع عشر من أكتوبر 1961 بفرنسا
نشر في الجمهورية يوم 17 - 10 - 2020

لعل هذه المظاهرة التاريخية الدموية تكتسي طابعا خاصا لأنها دفعت الثورة خطوات أمامية لا يمكن إنكارها، ولأنها صادفت نهاية السنة السابعة منها بثلاثة عشر يوما فقط، ولأنها سرت في شرايين قلب المستعمر -بكسر الميم- نفسه، ولأنها قد أزاحت قناطير من الشكوك والأوهام عن بعض الملاحظين الدوليين الذي كانوا ما يزالون إلى ذلك الوقت مضلَّلين بالدعايات والادعاءات الفرنسية الداخلية منها والخارجية... ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن تلك المظاهرة كانت من المعارك الكبرى التحريرية التي بخسها التاريخ المعاصر كثيرا من حقوقها، لأنها لم تكن سحابة صيف، ولا وريقة من أوراق الخريف الذابلة... ومما عدت أستغربه وأعجب له كثير العجب أن وسائل الإعلام ووسائطه كثيراً ما أراهم وأسمعهم يطنبون أو يوجزون في الحديث عن هذه المظاهرة الثورية دون العمق في حيثيّاتها، ولا الإحالة على أصحابها الذين جعلوا يتوارون الواحد تلو الآخر، ولست أزعم أنّي سأوفي هذا الحدث التاريخي العظيم في حياة ثورتنا المجيدة، بل كان ما في الأمر أني سأحاول أن أخدش قشوراً منها إحالة على نفسي شخصياً، وأترك التشريح والتحليل لذوي الاختصاص من مؤرِّخين وعَلْمَجِيِّين (علماء الاجتماع)، ونفسانيّين وسياسيّين، خاصة وأن مسؤوليتي في جبهة التحرير إيانئذٍ لم تكن أكثر من مسؤول فوج (مُكَوَّن من خمس خلايا)، بمعنى أن شهادتي العينيَّة لم يكن بحوزتها أسرار نضالية وثورية تتجاوز سقف مسؤوليتي إلا ما كان يُفْشَى به لي من باب الثّقة وحسن الظّن النضالي.
وبما أننا لسنا بصدد عرض أو تحليل العوامل والنتائج البسيكولوجية والتاريخية لتلك المظاهرة، فلندعها طالبين الإذن بطرق باب أحداثها التي تكون النواة الجوهرية لأي تاريخ صحيح وذلك تبعا لما شاهدته ببصري بفضل حضوري تلك المظاهرة حضورا شخصيا، ولربما اضطرت إلى إيراد خبر نقل لي من لذى مناضلين ثقة قد ساهموا في تلك المظاهرة إسهاماً فعلياً، بل وإني كنت ممن ساهموا في تلك المظاهرة مساهمة فعلية، لاسيما وإني كنت ممن ألقي عليهم القبض، ونحن صاعدون في المدارج والمصاعد الكهربائية من أنفاق المترو، في الوقت الذي كنا فيه على وشك الوصول إلى ساحة الوعد، ساحة «لطْوَالْ» الفسيحة التي يتهالك عليها جل الزوار والسواح من العالم.
أيام ما قبل المظاهرة: العلاقة الجزائرية العمالية البوليسية الفرنسية:
لم تبق العلاقة بين العمال الجزائريين والشرطة الفرنسية منحصرة في التفتيش عن الوثائق السرية باقتحام المنازل المباغت، وتعذيب بعض العمال المشتبه فيهم أملاً في أن يدلوا لهم بأسماء بعض المسؤولين الكبار، كما أنها لم تبق مقتصرة على ملاحقة حركة «العصيان» التي كانت تتمثل في رفض العمال أداء الخدمة الوطنية للفرنسية، أو البحث المستمر عن بعض الفدائيين (المبيوعين)... بل تعدت إلى تحذيرات أصدرتها السلطات الفرنسية تقضي بحظر منع التجول على أي عامل جزائري بعد الثانية مساء.
كان ذلك الإعلان الجائر جد قاس على العمال الجزائريين، لأن بعضهم لم يكن بوسعه أن يلج حيه بعد هذا الموعد، وبعضهم الآخر كان متعلقا بالعمل المسائي أو الليلي، ولذلك فهو مضطر إلى الخروج بعد هذه الفترة الزمنية، أما إذا انقطع عن العمل فيصبح عاطلا، أو في هذه الحالة تكون للشرطة الفرنسية الحجة الدامغة لنفيه إلى الصحراء. وكان بعض مديري المعامل والشركات الذي يخافون على أرباحهم أن تتقهقر يمنحون عمّالهم رخصاً ليلية، إلا أن الشرطة الفرنسية كثيراً ما كانت تتجاهل تلك الرخص، وتلقي بهم في «نهر لاسان» بطريقة همجية، حيث كانوا يربطون يديْ ورجليْ من يلقون به من أعلى قنطرة في لاسان مع تعليق جسم ثقيل بالملقى به، لئلا يستطيع الخروج من النهر سباحة، وما أكثر ما كان ربان السفن التجارية والصيادون الفرنسيون والأجانب ينتشلون العشرات من الجثث، وما زلت أذكر أن بعضا من الصحف الفرنسية قد نددت بذلك العمل الإنساني، ولكنها ما لبثت أن سكتت.
التحضير إلى المظاهرة تحضيرا سريا:
لقد دعينا –نحن المسؤولين- على غير عادتنا إلى اجتماع طارئ في إحدى أمسيات أواخر الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر عام واحد وستين وتسعمائة وألف للميلاد، وكتبنا كل النقاط المتعلقة بكيفية سير وتنظيم المظاهرة المصيرية، وأمرنا ألا نفشي السر إلا في عشية الخامس عشر من شهر أكتوبر عام واحد وستين وتسعمائة وألف للميلاد حتى يتهيأ العمال معنويا ونفسيا.
لقد شُدِهْنا جميعا، ولما نكد ننتهي من الاجتماع مع مسؤولينا الكبار، للأوامر الصارمة التي تلقيناها، ومعناها أن تكون المظاهرة سلميّة، فلا نضرب ولو ضربنا، ولا نقتل ولو قُتلنا، واحتراما للنظام فلم ينبس أحدنا ببنت شفة، لأنها كانت أوامر، وليست موضوعا يناقش.
لقد أمرنا أن تكون النقاط المتعلقة بتنظيم المظاهرة هي الكلمة العليا، ولا نخبر المناضلين والمنخرطين العمال بالتوجه إلى ساحة «لطول» عشية السابع عشر من شهر أكتوبر سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف للميلاد، وعلى أن يكون اللقاء مع أوائل الساعة الثامنة مساء، لرفع اللافتات المناوئة للعنصرية وحظر منع التجول المفروض، والاحتجاج على الظلم والتعسف والقتل دون محاكمة.
الإعلان عن المظاهرة إعلانا علنيا:
جاءت العشية الموعودة لجمع العمال المناضلين والعاملات أو المغتربات المناضلات لتوعيتهم بأهمية هذه المظاهرة من أجل التنديد بمن يُلْقَى بهم قهراً وغدراً وعنصرية في نهر لاسان، وكذا إدانة الاحتلال الفرنسي للجزائر وانهائه مع طلب مساواة الأمن الذي كان يتمتع به المغتربون من الأجناس الأخرى، خاصة ونحن الجزائريين كنا نحمل بطاقات تعريف فرنسية كأي فرنسي.
على أي حال أشعر المسؤولون المكلفون بالنشر والإعلان كل العمال عن نبأ المظاهرة وزمانها ومكانها وسببها ومغزاها على المستويين: مستوى التحرير، ومستوى آفاق الرأي العام العالمي المساند أو المعادي للقضية الجزائرية، ولم يكن شأن هؤلاء المبلَّغين إلا شأنَ الكثيرَ مَنْ قَبْلَهُمْ حيث احتجوا احتجاجاً قوياً أو خافتاً على عدم استعمال السلاح.
لم تكن تلك المظاهرة مقصورة على الرجال دون النساء الجزائريات، بل كان الأمر يعني الطرفين، بما في ذلك أولات الأحمال.
ولقد كان ذلك الأمر حكيما، لأن الرجال –إلا قليلا منهم – ألقي عليهم القبض، ولما يصلوا إلى ساحة لطوال. وأما النساء والأطفال فلم يعبأ بهم، الأمر الذي جعل الأعلام الجزائرية واللافتات ترفع وتظهر للملاحظين والصحفيين الأجانب، ونشير إلى أن مظاهرة النساء والأطفال كانت نهار الثامن عشر من أكتوبر أكثر منها عشية السابع عشر من أكتوبر، وكان ذلك ضربة مفاجئة ومعاكسة للشرطة والجيش الفرنسيين.
تدفق الجماعات العمالية إلى المظاهرة:
ما كادت عشية السابع عشر من أكتوبر التي كانت رهيبة حقا تحين حتى غادر كُلَّ الأحياء والديار العمال الجزائريون مسؤولين ومناضلين ومنخرطين صوب قلب باريس من كل الأنحاء المجاورة لضواحيه مثل كولومب، أرجنتاي، نانتير... حسب الخطة المرسومة والأوامر المعلنة، غير حاملين سلاحا ليدافعوا بها عن أرواحهم.
لقد شُدِهَ رؤساء ومسؤولو محطات الحافلات والسكك الحديدية لِمَا فوجئوا به من موجات بشرية غير عادية، وكنا كلما توغلنا داخل باريس شاهدنا حركات الرجال لا تزيد إلا اندفاعا وازدحاما من غير الالتفات إلى مقاهي أو ملاهي أو شقروات، وبعد إقلاعنا عن محطة ملعب كولومب ووصولنا إلى محطة سالازار الكبرى، زال عنا كل ما كان يراودنا من رعب وهلع شديدين.
وما كدنا نهبط إلى أنفاق المترو لابتياع التذاكر حتى زعم بائعوها وبائعاتها – لأن الأمر كان قد افتضح – أنها قد نفدت، مما جعل كثيرا منا أن يستعمل العنف المناسب مع بائعي التذاكر وثاقبيها ومراقبيها للهبوط إلى عجلات المترو، لأنه الموعد.
وداخل أنفاق المترو في الممرات والمصاعد والمدارج وعلى الأرصفة: تعالت أصوات الجزائريين بالأناشيد الوطنية، ولم يكن هذا مسطرا في البرنامج ولا ذا دخل في الحسبان، ولكنها الحماسة، ولم يعد هنا آمر ولا مأمور، بل استوى الحشر المتدفّق كسدّ مُنْهارٍ.
إلقاء الشرطة الفرنسية القبض
على جل المتظاهرين:
وأمام هذه الحركة الهائجة التي اطفئ أوارها داخل أنفاق المترو وفي المحطات وبعض المراكز العمومية. وإن وصل دخان جذوتها إلى ساحة لطوال، تدخلت الشرطة الفرنسية بقضها وقضيضها مدعمة بالمدرعات والدرك وحتى الجيش بل وبعض الخونة «الحاركية».
لم تكد تمضي سوى دقائق ممدودة حتى كانت السجون الفرنسية قد ضاقت بما رحبت، لأن بعضها كان مكتظا بالسجناء الجزائريين، الأمر الذي حدا بالسلطات العسكرية والبوليسية الفرنسية إلى أن تقود المتظاهرين بوساطة السيارات البوليسية المجهزة إلى ساحة «لَشَاطْلِي» الشاسعة أمام أكبر مخفر بوليسي في باريس، ومن أكثرها اهتماماً بملاحقة الجزائريين.
كيف كان نقل المتظاهرين
إلى السجون والمحتشدات؟:
لم يكن التدخل السريع من لدى الجهاز البوليسي الفرنسي تدخلا فيه شيء من الاطمئنان على أمن حياتهم، لأنهم كانا يعتقدون اعتقادا لاشك فيه أن جلنا – إن لم يكن كلنا- مسلحون بأسلحة متوارية تحت البرانس الشتوية التي تَدَثَّرْنا بها احتياطا لما عسى أن نقع فيه، الأمر الذي جعلهم لا يدانوننا لتفتيشنا إلا بعد أمرنا برفع الأيادي فوق الرؤوس مع مشابكتها والالتصاق بالجدران، وأسلحتهم الرشاشة مصوّبة جهتنا.
كانوا بعد ذلك يقودوننا جماعات جماعات، ونحن واضعون أيدينا فوق رؤوسنا، من غير الالتفات إلى ذات اليمين أو ذات الشمال، كل ذلك وهم منهالون علينا بأسلحتهم التي حولوها إلى عصيٍّ وقضبان حديدية، وما كنا نكاد نبلغ السيارة التي سَتُقِلّنا إلى ساحة «لشاطلي» حتى تتلطخ أَكْسِيَتُنا دماء، ولا تزال فينا بعض الجروح والخدوش تشهد على ذلك.
لم تكن السيارات التي كانت تقل السجناء لتسع أزيد من عشرة أفراد، بيد أنهم كانا يكوِّمونها تكويم المتاع بأكثر من ثلاثين سجينا، أما المتخلفون عن الصعود فقد كانت الشركة تنهال عليهم بالضرب الموجع والسب البذيء انهيالاً لإرغامهم على الامتطاء كيفما اتفق، وأما الراكبون الأولون فقد كانوا يداسون بأحذية المتأخرين دياسا مؤلما، وحسب مشاهدة العيان لم تكن تصل سيارة مقلة لنا إلا وقد كان فيها من هلك أو كاد يهلك اختناقا، أو أغمى عليه، أو كسر من أحد أعضائه بفعل الازدحام الشديد، وعدم وجود نافذة مفتوحة لاستنشاق الأوكسجين الطبيعي... ومازلت أذكر أنه قد وجد في سيارتنا تونسي خطأً، فشرع يصيح: أنا تونسي فما ذنبي؟ أطلقوا سراحي، فقد كدت أشنق خنقا، إلا أن أذنا لم تسمعه، ولا عينا رغبت في أن تراه، الضربات متتالية، قُذِفَ به من الخارج إلى داخل السيارة، وكان ذلك قبل إقلاع السيارة إلى «لشاطلي».
ولما وصلنا إلى «لشاطلي» بعد التاسعة مساء، ألفينا الساحة مكتظة بالسجناء، وهم مصطفون خَلْفَ خَلْفَ، وواضعين أيديهم فوق رؤوسهم، فحذونا حذوهم من غير أمر ولا انتظار.
لم تمض سوى هنيهة على وصولنا حتى دنا منا شرطي ثم أخذ يعد: واحداً، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، (كنت من بين المعدودين – ثم قال: «تعالوا أيها الفلَّاقة إلى لاسان»'. لقد أركبونا سيارة سوداء مغلقة، والدماء تسبقنا وتلحقنا، واحتمالا مؤكدا لإلقائنا في «لاسان» فقد نزعت معطفي وصداري، والشرطة معنا داخل السيارة هذه المرة، وكنا لا نكاد نطل على قنطرة إلا وقد شَهَّدْنا، حتى طرقوا بنا باب القصر الرياضي بفيرساي.
حالات السجناء داخل قاعة
القصر الرياضي بفير سَايْ:
رغم التفتيش السابق الدقيق، فإنا قد وجدنا مفتشين فرنسيين أمام باب القصر الرياضي بفيرساي، حيث لم يتركوا كبيرة ولا صغيرة إلا وقد راقبوها، ثم كانوا يأذنون لنا بكل أدب واحترام لولوج القاعة، وما كنا نكاد نفتح الباب، ونخطو خطوة أو خطوتين، حتى نُصْفَعَ من أمام بالباب الثانية، ولم نكن نكاد نسقط على ظُهْرَاننا حتى نقذف من خلف بالباب الخارجية، بحيث نفتح الباب الثانية الداخلية برؤوسنا أو جباهنا أو بطوننا... وإذا نحن نتدحرج أخيراً فوق الأدارج الإسمنتية داخل قاعة فيرساي التي لم نجد بها كرسياً واحداً شاغراً، مما اضطرنا إلى الجلوس على الأرض.
قضينا ليلة ونهار الثامن عشر، وليلة التاسع عشر بدون طعام ولا شراب داخل تلك القاعة، ولما كانت صبحية التاسع عشر وزع عليا أرغفة يابسة جداً، وبعض الجرع من ثُمال القهوة، لأن كأسا واحدة كانت تدار على صف مكون من العشرات دون أن تُغْسَل مرة واحدة.
لقد ذهبت بعض الأرواح داخل تلك القاعة ذهابا غامضا، ذلك أن بعضا ممّن كان يؤم المراحيض لم يكن ليعود إلى كرسيه، والحقيقة أنه كان يعذَّب عذاباً جسدياً وحشياً من لدى البوليس الفرنسي، لأنا كنا نشاهد بين كل فينة وأخرى سجينا محمولا إلى احدى الخيمات التي تصبوها –كما زعموا- خصيصا للتداوي وتضميد الجروح، مما جعل أحداً منا لا يجرؤ على الذهاب إلى تلك المراحيض والمغتسلات، حين تأكدنا من فعل رجال الشرطة الهمجي.
وفي اليوم نفسه (نهار التاسع عشر) أقمنا مظاهرة كلامية صاخية داخل القاعة، كنا نحيي فيها الثورة المسلحة، ونذم الاستعمار الفرنسي، وذلك حين شاهدنا مسؤولين مدنيين وضباطا عسكريين كبارا ولجوا القاعة للتأمل. وفي اليوم ذاته (نهار التاسع عشر) دخل القاعة رجال من سفارتي كل من المغرب وتونس، ثم نودي بمكبر الصوت «على المغاربة والتونسيين الذي ألقي القبض عليهم خطأ أن يخرجوا فوراً». لقد غادر القاعة عشرات من الرجال، ولكن بعد خروجنا علمنا أن ثُلَّة كانوا من الجزائريين المتَّهَمِين (المحكوم عليهم)، ومن حسن حظهم أنهم لم يفتشوا ولا استنطقوا، لأن التحقيق لم يكن قد حدث بعد، هذا ما سمعته يروج داخل قصر فيرساي وبعد خروجي من السجن على ألسنة السجناء، ولكني اليوم أستبعد هذه الأحدوثة الساحرة، لأنه ليس بهذه السذاجة تفلت عصافير نادرة من رجال البوليس الفرنسي السري ورجال مخابراتها، كما أني أستبعد أن يفوت الجبهةَ أن تمنع هؤلاء المطلوبين منعاً صارماً من المشاركة في هذه المظاهرة، وهُمْ أوَّل المستهدفين، وأكثر من يحمل في جعبته أسراراً نضالية ثورية.
خداع ونكال:
بعد ظهر نهار التاسع عشر من شهر أكتوبر أذيع فينا بوساطة مكبر الصوت خطاب بالعربية الفصحى والدارجة والفرنسية، ومعنى ما جاء فيه علينا أن نتحلى بالنظام التام، وأن نتجنب الفوضى، وعلى كل من يسمع لقبه واسمه الكاملين فعليه أن يخرج فورا ليلتحق بمنزله، حتى يدع المجال أمام زملائه الآخرين. لقد استمر النداء فينا ساعات، منذ أصيل ذلك اليوم حتى ما بعد منتصف ليلة العشرين من شهر أكتوبر، وحين عزلوا المائات منا، أعلن فينا: أنكم الآن أحرار، ولكن اخرجوا فقط بنظام، واتبعوا بعضكم بعضا صفا صفا.
لقد كدنا نطير فرحا، وشرعنا نتهالك تسابقا على الممرات الصغيرة، لنغادر تلك القاعة الوحشية، وما كان الواحد منا يدخل الدهليز المؤدي إلى أحد الأبواب الخارجية حتى يجد الشرطة عن يمينه ويساره ثم يؤمر ثانية لوضع يديه فوق رأسه. أخرجونا من تلك القاعة في وسط الظلام الحالك، وبعد انقطاع المواصلات، لئلا تنكشف فضائحهم، وما كنا نكاد نفارق الباب الخارجية الكبرى ببعض الخطوات حتى كنا نصطدم بجبال من البرانس الشتائية العسكرية، وبتلال من الأغطية الرمادية القطنية، ثم يشار لنا بأخذ برنس وغطاء.
وعلى بعد أمتار قليلة من القصر الرياضي بفيرساي، أدخلنا في قاعة ترابية شاسعة شاغرة من أي كرسي، إلا شبابيك مستطيلة متنائية مرقمة بأرقام بارزة، ثم وزعنا فيها حسب المنطقة التي نقطنها، فأصحاب كولومب وحدهم، وساكنوا نانتير وحدهم... وهكذا، وكان عدد لشبابيك حسب عدد المناطق التي يقطنها السجناء.
إضراب السجناء عن الطعام:
ولما كان صباح العشرين من شهر أكتوبر جيء إلينا بطعام الفطور، ولكنا أبينا أن نتناوله إباء جماعيا عفويا، وصببنا القهوة في التراب خارج الشبابيك، وذلك احتجاجا على خداع السلطات الفرنسية إيانا، واخفائها مئات من السجناء الذين عزلتهم عنا، وعلى استمرار تعذيب الشرطة للسجناء تعذيبا جسديا وحشيا، وحسبوا أننا رفضنا تناول طعام الفطور احتجاجا لردائته، لذلك جيئ إلينا بغداء منتصف النهار لأول مرة منذ أربعة أيام، إلا أنا ألقينا به خارج الشبابيك أيضا، وساعتئذ فهموا أننا مضربون عن الطعام. وبعدئذ تدخل ضباط عسكريون كبار، وخطبوا فينا مستحثين إيانا على تناول الطعام، وأنه سيتم إطلاق سراحنا بناء من ليلة الثالث والعشرين من شهر أكتوبر، فبعض الشبابيك واصلت الاضراب، وبعضها الآخر فيما يبدو أخذ في الأكل، خاصة وأنه تسرّضب لنا أن الزعماء الخمسة مضربون عن الطعام. بدأت الشبابيك تفرغ من السجناء، وتحت سدول من الظلام، بعيد منتصف ليلة الثالث والعشرين ورغم المجهودات التي بذلتها السلطات الفرنسية لاطلاق كل السجناء ليلا، إلا أنها لم تفلح، إذ بقي بعض الشبابيك حتى ما بعد طلوع شمس نهار الثالث والعشرين من شهر أكتوبر عام واحد وستين وتسعمائة وألف للميلاد، ومن بينها شباكنا فضلا عما بقي وراءنا من بعض الشبابيك الأخرى، أما من سرحوا ما بين الواحدة والخامسة صباحا فلا ندري عن أحوالهم كثيراً كيف وصلوا إلى منازلهم.
كان يفتح لنا مخرج واحد من كل شباك على حدة لتنسحب منه جمعة مؤلفة من عشرات الأفراد، ثم يغلق، وبعد لحظات يفرغ الشباك كله من السجناء لينقلوا إلى شباك مجاور آخر.
كنا نقاد إلى طاولات مستطيلة متلاقية كلوحة واحدة، وعليها أكوام من السجلات الضخمة، بحيث تصطف كل جماعة أمام رقم الطاولة الذي هو عين رقم الشباك، حيث كنا نبحث بحثا خفيفا هزليا، ثم تسجل عنا كل المعلومات الشخصية والعائلية في كل من الجزائر وفرنسة، وبعد ذلك نقاد إلى قاعة فوتوغرافية شبه مظلمة، حيث نصور أُحَادَ أحَادَ، وأخيرا نعاد إلى مكاتب كان يسلم لنا منها رخصة، كتب عليها لقبنا واسمنا وعنوانا، وفيها مهلة أربع وعشرين ساعة بحق التجول أي ريثما يلتحق الأباعد من السجناء بمساكنهم.
وبذلك عَبَّرَ الحراس الجنود، ونحن خارجون من تلك القاعة الترابية التي تبين لنا لحظة خروجنا من بابها الكبيرة أنها ثكنة عسكرية. تعبيراً هازئاً: «إلى اللقاء غدا».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.