قلة قليلة هي النصوص الاستباقية في تاريخ الأدب، لكنها، رغم ذلك، ظلت من أهم الإبداعات العارفة على الواقع وجزئياته وتحوّلاته، وكانت المعرفة بالاقتصاد والسياسة والطبقات والنفسيات متكأ لها في قراءة اللحظة والمستقبل، وعادة ما كانت النتائج مطابقة للتنبؤ، أو لما يمكن أن نسمي كذلك مجازا. هذه الهالات لم تتكهن، ولم تتنبأ، بل قرأت الحياة بمهارة الرائي، ومن ثم خروجها باستنتاجات منطقية بين العلة والمعلول، بين الحاضر والمستقبل في علاقاتهما السببية. تعتبر رواية الأم للكاتب الروسي " مكسيم غوركي " إحدى هذه التحف النادرة التي كتبت عام 1898 ونشرت سنة 1904، وهي تتحدث بضمير الحاضر عن الثورة البولشيفية التي ستقع بعد 19 سنة من صدور الرواية، أي في 1917. التفاصيل الواردة في النص توهم المتلقي بأن الكاتب عاش في المستقبل، ومن ثمّ قدرته على إيراد تفاصيل دقيقة عن أحداث لم تحصل بعد، لكنها ستقع لاحقا كما ثبتت في النص، شبه حرفية في مقامات، وإملائية في سياقات أخر ميزتها القدرة على تجزيئ وقائع لم تدركها حتى العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية آنذاك. ما جعل المفكر فلاديمير لينين يثني عليها،ويعتبرها من أهم النصوص التي مهدت للثورة بتأثراتها في المجتمع ومساراته المركبة. هذه الرواية لم تركز على وصف حقائق الماضي والحاضر كموضوعات معلومة، ولم تذهب لتأريخ فترات سابقة من أجل إضاءة مضمرات وجب الكشف عنها لمعرفة العلل والمعلولات، بل ركزت على الواقع كعلة، ثم استنتجت أحداث المستقبل بخلفية عارفة بالممكنات التحويلية التي تسهم في إنتاج أحداث تاريخية ممكنة أيضا، ليست كخيال مترف أو عابث، بل كمعرفة مؤهلة لترقية الإدراك وشحذه لحدس الآتي. لذلك استطاعت فرض منطقها، ومن ثم التأثير في القارئ الذي سيتخذها نموذجا لعدة عقود ظل فيها هذا العمل حاضرا، وذا قيمة اعتبارية كبيرة. نجد مثل هذا الحدس العارف بالممكنات الحدثية في رواية " 1984 " للكاتب الانجليزي الساخر جورج أورويل، صاحب الهالة الأدبية الخالدة التي تحمل عنوان "مزرعة الحيوان". الرواية كتبت عام 1948، وهي تنقل بالتفصيل تفكك المعسكر الاشتراكي (1989)، وحل الاتحاد السوفييتي (نهاية 1991) وتبوأ قوة عالمية واحدة ممثلة في دولة يقودها الأخ الأكبر، الشخصية الكلية الحضور والمعرفة التي تحيل على رئيس، أو على رؤساء الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ستفرض منطقها على المجتمع الدولي وتعتبر بعض الدول المتخلفة مجموعة من العبيد. الأمر الذي أشار إليه الكاتب بنباهة العارف والنبي. هذا النص المثير جاء من المستقبل إلى الحاضر، وتكمن قوته، إضافة إلى شكله الفني المتماسك، في بصيرته الحادة التي قرأت التاريخ بعبقرية، قبل أن تتحدث عن مآلاته التي ستحقق كما تصورها الكاتب قبل أربعة عقود. ومن النصوص القديمة التي بقيت مفتوحة على الممكنات الميتافيزيقية والتأويلية، كتاب" رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري (ق. 11م). لقد احتكم هذا المؤلف إلى معارف أدبية ودينية ليخرج باستنتاجات محتملة الوقوع غيبيا، إن نحن ربطنا النص القرآني بالممارسات الشعرية المناقضة لجوهره الذي يضبط القول والسلوك. الكتاب، رغم أنه محض قراءة تخييلية عجائبية للشعر والشعراء، إلا أنه يثري المتلقي بثقافة مميزة إذ ينقله من الواقع إلى العوالم الأخرى، ومنه إلى مملكة الخيال في علاقاتها بالحياة الأدبية العربية في وقت ما. رسالة الغفران راقية كمتخيل أسس على معطيات واقعية، وكربط عبقري ما بين الحياة الدنيوية للشعراء، وما وبين مصائرهم الممكنة في العالم الآخر وفق ضوابط النص القرآني وإملاءاته. لقد ظل هذا العمل حاضرا لعدة قرون، ولم يفقد ألقه. كما يمكننا اعتبار رواية " الجازية والدراويش " (1983) للكاتب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة أحد هذه النماذج التي تحدثت عن المستقبل بصيغة الحاضر والماضي. لقد تناولت، في جزء كبير منها، مآل الصراع حول التفرد بشخصية الجازية، رمز الجزائر المستقلة. كانت الرواية تحليلا ذكيا للواقع السياسي والأيديولوجي المهيمن، وكانت النتيجة المفتوحة موقفا حياديا من الخطاب المتواتر، وتموقعا عارفا بالنواة والفرع، بالثابت والمتحول في مجتمع محكوم بصراعات أيديولوجية ولسانية، وبمتغيرات مستمرة. ربما كان علينا إعادة قراءة هذا النص لمعرفة واقعنا الذي فصّله الكاتب من عقود تأسيسا على خبرة استثنائية، وعلى بصيرة نافذة في قراءة مستقبل بلد متوتر. لقد كانت خاتمة الرواية إحالة على وضعنا الحالي، كما لو أن الكاتب كان يعيش سياقاتنا الحالية، تفصيلا تفصيلا، ونقطة فنقطة. تعامل عبد الحميد بن هدوقة بمهارة مع الشخصيات النموذجية التي كانت تمثل طبقات اجتماعية وأحزابا سياسية وتوجهات أيديولوجية ضاغطة، لكنه بقي متفرجا، ولم يلجأ إلى المواقف التفاضلية بتغليب فئة على أخرى، ومن ثم الخروج من النظرة الموضوعية إلى الموقف الذاتي من الصراع. لذا جاءت الخاتمة المفتوحة دلالة على ممكنات يتعذر تقنينها انطلاقا من واقع مضطرب، وهو ما تعيشه الجزائر بعد سنين من نشر هذه الرواية التي انطلقت من الحاضر لتستشرف الأفق الغائم الذي يميز بلدا غير مستقر على عدة أصعدة، بما في ذلك الهوية المهزوزة. العمل الأدبي الآخر الذي يمكن أن تنطبق عليه هذه المواصفات هو " الحوات والقصر" للطاهر وطار (1975). يعد هذا النص الذي اختار الواقعية السحرية ظاهرة إبداعية نادرة لأنه تخلص من الأيديولوجيات العارية برمتها، ليكتفي بالتبئير على الإنسان والقيم النبيلة كموضوعات قاعدية للسرد. أجد هذه الرواية مختلفة عن كلّ ما كتبه وطار، وهو يعتبرها أقرب النصوص إليه طيلة مسيرته الأدبية. الحوات والقصر نقد للعلاقة ما بين السلطان والرعية، ما بين القصر والقرى السبع التي كانت عبارة عن شخصيات جماعية تتمتع باستقلالية، وبموقف من السلطنة الجائرة. أمّا علي الحوات فيمثل المواطن الطيب الذي لا موقف له من السياسة والمجتمع لأنه يحب الجميع، ولا يعادي أحدا، لكنه يذهب ضحية هذا وذاك في مشاهد روائية مأساوية أدت إلى قطع يديه ولسانه. أجواء الرواية تعبير عن واقع المجتمعات العربية وأنظمتها الاستبدادية، وكشف عن مكوّنات القصر والحاشية. غير أن اللافت في النص يتمثل في الخاتمة التي تشير بوضوح جلي إلى الثورة على الفساد والاستبداد باتحاد القرى جميعها. هناك شيء من الاستباق الواضح لأحداث مشابهة ستقع بعد عدة سنوات من نشر الرواية: الربيع العربي من جهة، وثورة 22 فبراير 2019 من جهة ثانية. هناك شبه كبير بين شخصيات الرواية وواقع الجزائر في العشريتين الأخيرتين، خاصة ما تعلق ببعض الشخصيات التي تعكس واقع الحال: سعد ومسعود وجابر، وبالسلطان الذي اختفى من المشهد السياسي، تاركا بذلك المجال للعصابات لتقوم مقامه، قبل أن تتوحد القرى وتطيح به وبالموالين له من الأشرار. هذا الوعي الحاد يتعذر العثور عليه في الأدب الصغير، بتعبير فرانز كافكا، لأنه يمتلك مؤهلات استثنائية في قراءة التحولات الاجتماعية ومصائر الأنظمة. إنه نص مثير لا يقل أهمية عن رواية الأم كقيمة جمالية، وكقراءة نبيهة للممكنات. أما الفرق فيكمن في أنّ الأم كتبت في مجتمع يولي أهمية للكتاب، ومن ثم استفادته منها، في حين أن رواية الحوات والقصر جاءت في سياق تاريخي وثقافي مناوئ للعقل والقراءة، لذلك مرت كغيمة الصيف، كما يحدث في كل المجتمعات العربية التي لا تقرأ. قد تحمل كلّ الكتابات قيمة اعتبارية ما، سواء كانت نصوصا واصفة أو تسجيلية أو انطباعية أو استعجالية أو واقعية أو تأريخية، في حين تحمل الكتابات الاستباقية قيمة مضاعفة عندما تشحذ الوعي والشكل الناقل له، وهي تقدم، في أغلب الأحيان، ما لا يمكن أن تقدمه الكتابة التي تكتفي بذاتها، باللغة الموضوع، بالشكل الهدف، أو بالموضوعات المغلقة، تلك التي لا تنظر إلى المستقبل انطلاقا من معرفة حياة المجتمعات، مكتفية بتجليات الحاضر، أو بالتنميقات اللفظية والبنائية كغاية قاعدية للكتابة. الأمر لا يتعلق بمفاضلة صنمية منتهية ، بل بالخيارات، وبعلاقة الكاتب بمحيطه الخارجي، وبالهدف من الكتابة في سياقات قد تستدعي معرفة وموقفا، وإضاءة مسؤولة للواقع في بنيته وتحولاته.