في شهر أكتوبر من عام 2020 تكون قد مرت أربع وعشرون سنة على رحيل الروائي عبد الحميد بن هدوقة (1925 1996)، أحد أهم الوجوه الأدبية والثقافية في الجزائر، وأحد مؤسسي الرواية المكتوبة بالعربية مع الطاهر وطار. لقد ظل هذا الأديب قليل الكلام، حذرا، حكيما كالساقية في مجرّتها، وبعيدا عن الصدامات وأوبئةالادعاء التي عرفها المشهد الإبداعي، دون أن تضيف له شيئا، باستثناء العداء. أذكر أني التقيت به آخر مرة في اتحاد الكتاب واقترحت عليه حضور ندوة أدبية حول منجزه، أياما بعد صدور روايته الأخيرة"غدا يوم جديد"، ولحكمته في قراءة السياق والجغرافيا اعتذر بابتسامة ، وفهمت المقصد من خلال العلامات الصغيرة التي كانت تجلل هدوءه، لم أضف كلمة، ولم أعلق. عاش هذا الهرم متعدد المواهب، متواضعا ككرز تاكسانة، غائبا وحاضرا، وكان يحب العزلة، كما قالت لي حرمه، خاصة عندما يشرع في تأليف نص جديد، وعادة ما تكلف الراحل مارسيل بوا بترجمة أعماله بإشراكه. لقد كتب القصة القصيرة والرواية والشعر والتمثيلية المسرحية باقتدار، كما قدم ترجمات ودراسات أكاديمية متخصصة، ومنها مقاربته الراقية للأمثال الشعبية الجزائرية في منطقة البرج، واشتغل كأستاذ، ومدير المؤسسة الوطنية للكتاب، ورئيس المجلس الأعلى للثقافة، ومنتج، ومخرج إذاعي، ومدير في الإذاعة والتلفزيون، وعضو المجلس الاستشاري في عهد الرئيس محمد بوضياف، كما ترجمت أعماله إلى عدة لغات عالمية، ثم رحل هادئا جدا، ككاتب وكإطار، ولم يستفد من أيّ امتياز، كما فعل كثير من الطراطير والكائنات المطاطية المحسوبة على الكتابة، أو تلك التي ملأت الفضاء الأزرق بالأكاذيب.لقدسافر إلى هناك كالقطن، و«دفن في حناجر الطيور"، كما كتب في إحدى رواياته. عندما مرض تمّ تكريمه في مستشفى بباريس، ولم يتصل به أحد. قال لي وطار آنذاك: يجب أن نكتب له كلمة باسم المثقفين والكتّاب والجامعيين حفاظا على ماء الوجه، الرجل من دمنا. لم أكن أعرف طبيعة العلاقة بين الاثنين خلال المدة التي رافقت فيها وطار في الجاحظية. كانت غامضة جدا، عكس العلاقة بين وطار وبوجدرة التي كانت في الدرجة صفر. تكفلت بكتابة برقية مقتضبة في نادي الجمعية، وإذ ساءت صحته أعيد إلى الجزائر. فيمطار العاصمة استقبله اثنان فقط: الطاهر وطار والإعلامية غنية سيد عثمان التي كانت عضوا في مجلة القصة التي ترأستُها رفقة مجموعة من الشباب الذين رافقوني في هيئة التحرير، ومنهم الروائي بشير مفتي. لم يحضر أيّ ممثل عن أي مؤسسة.كان استقبالا حافيا جدا، وبلا توابل تجعله ذا طعم معين. ربما كان ذلك أفضل. لم يكن بن هدوقة يحب البهرجة والأضواء، لقد كان من سلالة المتصوفة الذين سلاما عليهم. تمّ الاحتفاء به لاحقا في فندق الهلتون رفقة المرحوم رشيد ميموني، صاحب رواية النهر المحوّل، وكنت التقيت به في مناسباته قبل هجرته، كان متواضعا وطيبا. هاتفتني زوجة بن هدوقة لتقديم دراسة أو شهادة عنه، وكنت مترددا لعدة اعتبارات، ولتوجس مبرر. بدا لي الجمع بين معرب ومفرنس في ذلك السياق التاريخي أمرا مريبا قد يستثمر لأغراض. وجّه المشرفون على الندوة عدة دعوات لمحاضرين من الجزائر وفرنسا للحديث عن تجربة ميموني. كانت المداخلات بالفرنسية، ولم توجه للمتخصصين وأصدقاء الكاتب دعوات للحديث عن فضائل بن هدوقة على الأدب والثقافة في البلد.كان شيئا ما لا يشبه شيئا معينا في سياق تاريخي تنازعته الجهويات والنعرات والعصبيات وحرب التموقعات ، كانت هناك مفاضلة لسانية، وليست فنية، كما يحصل مع جائزة عبد الحميد بن هدوقة وجائزتي محمد ديب وآسيا جبار. هناك تحيزوجب تجاوزه بالابتعاد عن عنصر اللغة كقياس. جائزة بن هدوقة للرواية تبدو رمزية، نحيلة، وليست ذات قيمة اعتبارية، لا ماديا ولا إعلاميا. بعد سنين قليلة على وفاته كلمتني زوجته في أمر، وكانت لي معها علاقة عائلية، وما زالت. حدثتني عن وضع السكن الذي اكتراه الراحل، قبل أن يعمل صاحبه على استرجاعه. لم أكن على دراية بالأمر: كيف لم يحصل على سكن خاص به رغم سمعته ومسؤولياته، ورغم ما قدمه، مع أنّ الآخرين كانوا يعيشون حالة من البذخ؟، كنا في برج بوعريريج، وكان معي الأديب جيلالي خلاص. كان الوالي عبد القادر بوعزقي صديقا يحبّ الثقافة، قبل أن يصبح وزيرا للفلاحة، ورجلا مهتما بالكتابة والشعر والجامعة والثقافة، ويحفظ عدة قصائد ظل يرددها مبتهجا بها، وبنا نحن أعضاء الهيئة العلمية للملتقى الدولي الذي يحمل اسم الراحل، الملتقى الذي أسسناه في ظروف بدائية، وتحت حراسة أمنية مشددة حفاظا على حياتنا من التصفيات الجسدية، ومع ذلك استمر 19 سنة. لم تمض سوى ساعات على طرح القضية حتى أحضرالمفاتيح تكريما من الولاية لكاتب من أبنائها.كان موقفا حضاريا لا يحدث في العالم الثالث سوى مرة واحدة في القرن، وقد لا يحدث أبدا في سياقات مناوئة للعقل، وظهيرة للرعونة التي دمرت القيم والأخلاق.دامت هذه السعادة الصغيرة التي كحبات الأرز أياما قليلة قبل أن يقوم بعض السكان بالاحتجاج على منح السكن، ثم حصل ما حصل. لم يكن رهاب الثقافة يخص جهة فحسب، بل ارتبط بالمجتمع الذي يعتبر النخبة خطرا، وشيئا فائضا عن الحاجة.عندما ذكّرت حرم بن هدوقة وابنها أنيس في 1 يناير 2021بهذه الحكاية، وبأني أرغب في كتابة مقال أشير فيه إلى بعض التفاصيل، قالا لي إننا نفضّل تجاوز هذا، وتصرف، وها إني أتصرف ببعض التجاوز:كان بن هدوقة لا يحتاج إلى كراء بيت في حسين داي بالعاصمة، كان يحتاج إلى قصر يليق بمقامه، وإلى تماثيل في ذاكرتنا إن كانت ترغب في البقاء حية، هكذا أفهم، وبكثير من العرفان. حرصنا لاحقا على تثبيت الملتقى باسمه، وسعينا مع عدة مسؤولين إلىتحويل أطلال بيته في الحمراء إلى متحف صغير يمنح للجهة معنى، ويفتح أفقا للسياحة الثقافية هناك حيث تجري أحداث الجازية والدراويش، التحفة الأدبية النادرة التي حدث أن التقيت بأحد أبطالها في القرية، وموازاة مع ذلك عملنا مع الهيئة العلميةلإطلاق اسمه على ثانوية أو جامعة أو ساحة أو شارع في ولايته، لكننا فشلنا، قبل أن يطلق اسمه مؤخرا على مدرج بجامعة البرج. كانت هناك عدة موانع وتقاليد إدارية حالت دون تحقيق مساعينا، على عكس النواميس المتبعة في الغرب الذي عادة ما يحتفي بكتابه ومفكريه، وحافظنا على الملتقى الدولي بصعوبة، مع دعم لبعض الولاة ومديري قطاع الثقافة، لرجال الأعمال، وللوزارة الوصية التي ظلت حاضرة باستمرار، رغم الميزانية المتواضعة. لقد حدث أن زرت بيوت كتّاب في أوروبا، بما في ذلك المنزل الأنيق لستاندال في مدينة غرونوبل الفرنسية الذي تحول إلى متحف يضمّ كتبه ومخطوطاته ومسوداته وما كتب عنه، رغم أنه كان من المغضوب عليهم بسبب نزعته الأدبية وصعلكته السردية المناوئة للأخلاق. كان يشبه تحفة، أو بطاقة بريدية بهندسته بشرفاته الخشبية المستوردة من مصر. الغريب أنّ المشرفة عليه كانت جزائرية من مدينة القديس أغسطين. أمّا الأغرب، الذي سأكتشفه لاحقا، فيكمن في ترحيل جزء منرفاته إلى سردينيا، ثم إلى كنيسة بافيا الإيطالية التي زرتها في التسعينيات رفقة الدكتورة باربارا أيرو لألتقي بذاكرتنا هناك.كان مشهدا مثيرا لكبار السياسيين والكتّاب والمثقفينورجال الدين الذين قدموا لرؤية ضريح الفيلسوف، أو ما نقل من رفاته، وغبطتهم على احتفائهم الفاخر. لا يحدث هذا في الوطن العربي، ولن يحدث في ظل تبوأ تقاليد تعتبر الفنّ والفكر من اهتمامات البهاليل. ماذا كنّا ستخسر لو أننا منحنا قيمة اعتبارية لهؤلاء الذين يرحلون تباعا، منسيين وفائضين عن الحاجة، كتّابا وشعراء ومثقفين ومفكرين وعلماء عبارة عن سقط متاع ؟ ، من لم تأكله الغربة أكله الوطن الكاسر، ومن نجا من الكوليرا مات بالطاعون وبقية الأوبئة النفسية ، ولماذا تحتفي الأنظمة العربية بطواحين الريح فتخلد أسماء شخصيات وفق تصوراتها ، لكنها لا تبصر العقل والجمال، كما تفعل أوروبا وأمريكا والبلدان الآسيوية الراقية ؟ ، هل كتب علينا عبادة الجاه، تشجيع الفتن والعصبيات والجهل ونفي الأدمغة بعد كلّ الحروب والفتن التي خرجنا منها منهكين؟ ، قد تصلح السياسة للحضارة إن كانت عالمة وعادلة، وواعية بحقيقتها كقوة محوّلة، أمّا العقل والفنّ فجوهرها الخالد في كل الأوقات، وليس كلّ الفن، بعض الفن هذيان وفتن. أمّا ابن هدوقة فمن هذه الفئة التي أضاءت البلد بوعي وامحاء.