حين يقتضي واجب تأدية الشهادة لصديق عزيز وجامعي بقامة الأستاذ عبد العزيز بن طرمول الذي رحل عنا إلى دار الحق، يعني بالضرورة أن شهادتنا مجروحة، لكن حين تكون تأدية هذه الشهادة، تلبية لدعوة كريمة من السيد عميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة وهران 2 و الصديق الأستاذ بوزيدي هواري، بحكم الصداقة التي جمعتني بالفقيد ، أجد نفسي ملزما بنقل هذه الشهادة، ليس من باب المحب المخلص فقط، بل وبالأخص من باب ما يمليه التقليد الأكاديمي في التعاطي مع المواقف الفكرية و الإسهامات النوعية التي خطها الفقيد طيلة مساره الأكاديمي و الإعلامي. ولعل هذا ما يدفعني أولا و قبل كل شيء للقول و بكل وضوح، إني منحاز لكل مواقف أستاذي عزيز و لكل رؤاه الفكرية و السياسية، ليظل انحيازي كاملا ، بعيدا عن أي إكبار مصطنع أو أي محاولة لتوثين وتقديس لهذا الرجل الذي كان بالأمس بيننا، يشاركنا هم الفكرة بنبل وتواضع و يقاسمنا لحظة الخوف على المصير بجرأة وكبرياء ، و بعيداً أيضا، عن أي مهاترة للتجني على حق الآخرين الذين يختلفون معه في الرأي و الموقف. فإننا نعتقد أن انحيازنا ل " عزيز" ، هو من انحيازه لقضايا وطنه ومقدساته، و أن إنصافنا واعترافنا بإسهاماته، هو إنصاف لأنفسنا و اعتراف بحقنا في الراحة ، والكف عن جلد الذات تحت أي عنوان معرفي أو أي مسمى أكاديمي صرف . فعزيز كان أكبر من جميع المغالطات الممنهجة والاختصاصات الاستلابية المستحدثة، التي كرّست و تكرس حتى الآن عجز عقولنا على احتواء الفعل و الموقف الصادق، و تمنعنا من تقدير الناس حق قدرها وتجعلنا نبخس حق من أنكر ذاته لأجل إنجاح أي فرصة للإجماع والتوافق والوحدة. كان " عزيز" يتفق مع الفيلسوف حين يقول بأننا لا نستطيع أن نضيف شيئاً إلى عقولنا حين نفكر، ذلك أن التفكير هو فقط عملية لشرعنة حريتنا بأقصى ما تستطيعه طبيعتنا كبشر، و إذا قدرنا أن مبلغ الفكر هو حب بلوغ الحكمة التي تتيحها طبيعة العقل البشري، فإن عزيز لم يرضى أبدا لنفسه بأقل من ذلك، رغم إدراكه بأن الإصغاء لصدى هذا العقل ونبل مراميه لم يعد أبدا في زمن الاستهلال الرقمي مهمة هينة. لقد مارس " عزيز" ومنذ كتاباته الجامعية الأولى، فن استعمال هذا العقل بمرجعية كونية، ليشمل بمواقفه ومقارباته العلمية، مآسي و آلام النوع البشري على اختلاف أعراقه ومعتقداته و قضاياه، خلافا لما تمليه مختلف الأنساق إيديولوجية و توجهاتها المصلحية المفاوتة. ف "عزيز" لم يكن كما يدّعيه البعض، عروبيا ولا إسلاميا و لا يساريا و لا ليبراليا، بل كان عقلا وطنيا بامتياز، جعل من الدفاع عن الدولة و استمرارية سيادتها، مطلبا استراتيجيا، لا يقبل أي تفاوض لتأسيس ما يبعث روح وطنية تضامنية متجددة، كو٫سيلة لمواجهة التحديات و الصعاب. و أمام اللحظة الزمنية الضاغطة التي اشتد فيها الاختلاف والخلاف، و الصدام و تصنيع المخاوف والعداء ضد الأخلاق والعقل البشري برمته، استطاع عزيز بفضل تجربته المهنية المزدوجة، التي جمعت المجال الإعلامي و الجامعي، أن ينتج تركيبة متناسقة من الآليات المنهجية الصارمة لتحديد رؤاه الواقعية و قراءاته الاستشرافية، الشيء الذي عجز عنه الكثير من المنغمسين في اجترار النظريات المبهرة والطروحات الملونة التي يعتبرها الفقيد تكريسا لعوامل توسيع هوة و المسافات بين هموم مختلف النخب و مشاغل مختلف الفئات الاجتماعية البسيطة . و لأنه كان مدركا بأن الفكر و الموقف، مهما كان نبيلا و كونيا، يظل محكوما بصلاحية استهلاك محددة زمنيا، حدد "عزيز" لنفسه المهمة الأصعب وهي التصدي لجميع ما تجره الثورة الإعلامية الرقمية الكاسحة من أحكام نمطية و أفكار مصنعة و برماجيات لتعليب الوعي التي تهدف لغسل العقول والنيل من دور الدول ومقدرات الشعوب على الطريقة النيوليبرالية . لقد اختار الفقيد مجابهة الحدث الإعلامي و التفاعل الآني مع جميع انعكاساته، بشكل يومي لا منقطع، لدرجه أصبح فيه هذا الخيار، أسلوب حياة و قضية شخصية بامتياز، ما حول صفحته على الفايسبوك، لمرصد يوثق لجميع معاركه المبدئية و حروبه الوقائية، ضد كل ما يهدد تواصل وحدتنا الوطنية و أمنها الفكري والثقافي. معتمدا على حدس مهني و حس نقدي، قلما يجتمع اليوم في شخص واحد من الإعلاميين و الأكاديميين. مراهنته على الفعل التضامني كانت بمثابة قناعة إستراتيجية، تحذر من التفكير النمطي المبرمج و تسلسلاته المنطقية التي تنتهي دائما في شكل هالة إعلامية و دعوة مستمرة للانغماس في تفاصيل الموضة الفكرية الاستهلاكية التي لا تحتكم لخصوصية الزمان ولا للمكان. لهذا فإن التعاطي مع الحدث الإعلامي، كان بوصلة عزيز العملية و العلمية، على اعتبار ان تحقيق التكيف الصحيح مع الحدث، هو المرجعية الأساس لصناعة علاقتنا الندية والاستراتيجية بالأخر. ذلك أن الحدث الإعلامي في تصور الفقيد، هو أصل كل معرفة، المعرفة التي لا تتنكر للذات، المعرفة التي تحارب الاغتراب المادي و المعنوي، المعرفة التي يبدأ منها الفعل الطبيعي للفرد والجماعة بحماية الذات و رعايتها، المعرفة التي تضمن الشروط الحيوية والموضوعية الأولى للتكيف الفاعل مع المحيط المباشر المحلي و الإقليمي و الدولي، المعرفة التي تعترف بحقنا في الحياة و تحدد المساحة الضرورية و الشروط اللازمة والكافية لارتقائنا وسيادتنا وكرامتنا . لقد كان بإمكانيات مادية بسيطة، صوتا مزعجا للمتلبسين بالنبل الكلمة ومدعي الشرف، حتى أنه استطاع مرات من خلال صفحته الرقمية، و دون أي مبالغة، أن ينافس أعتى وكالات الأخبار، ليس على مستوى تحقيق السبق فقط، بل وبالأخص على مستوى تحقيق القراءة الاستشرافية السليمة التي تفتح العيون على طبيعة الأخطار الجديدة التي تترصد البلاد ومقدراتها . التزامه الأخلاقي جعله يشحذ سلاحه بيده ، ليجعل من الواجهة الرقمية جبهة للرباط والدفاع عن وطنه ، لقد حارب التعتيم و التظليل الإعلامي بقلبه صادق و اقتدار، دون إيعاز ولا دعم و لا إسناد من أي طرف... ضميره الحي ووعيه المتقد، جعله يحارب باستمامة كل مظاهر الاستغباء و يرافع في جميع المنابر الإعلامية و الفكرية لأجل استعادة العقل في الأمة و معنى الحياة في مشروعها السياسي. و لأن عزيز من المثقفين الذين وجدوا في أحلام الشعب و طموحاته، تلك الغيرة المقدسة التي تبعث النخوة كوقود للهمم و العزائم، فما من شيء شد عزيز لهذه الغيرة التي تصنع الدول و الأمم، كذلك الواجب الذي رسمه لنفس لخدمتها والعمل على بقاءها و تواصلها. كل اعتذري لأهل الفقيد و أحبته، إن عبرت عن انحيازي لأستاذي " عزيز" بهذه الطريقة التي تدعي الموضوعية، لأني سأظل متيقنا أن تأدية الشهادة ل " عزيز" الإنسان لن تكون أصدق و لا أوفى ،إلا إذا كان القلب وحده من يصف ألم فراقه و حجم الرزية برحيله. اللهم ارحم فقيدنا وتغمده في واسع جناتك