ترددت كثيرا قبل أن أستجيب لدعوة المذيعة التونسية الحسناء، نوفر، التي هجرت قناة الجزيرة في العام الماضي إلى قناة دبي (ويبدو أن اسم نوفر مشتق من الاسم الفرعوني القديم نفر، ومعناه الضوء، ومنه اشتق اسم نفرتيتي، وما علينا). كان سبب ترددي أن مشاركاتي في الفضائيات أصبحت تسبب لي صداعا مستمرا، حيث أن مشكلتي لم تكن إقناع الخصوم بوجهة نظري، وإنما إقناع جماعتنا بمبررات ما أتناوله من معطيات وما أسوقه من حجج وأدلة، وهو أمر مزعج جعلني أقول لبعض الناقمين بأن عليهم أن يناقشوا ما أقوله كتابيا ليكون القارئ هو الحكم. ومرة أخرى، ما علينا. كان موضوع الحوار هو المغرب العربي، وآفاق الوصول إلى الانسجام في مواقف دوله والتجاوب مع آمال شعوبه، وشارك في الحوار الكاتب التونسي المنصف وناس والوزير المغربي الأسبق فتح الله ولعلو، وحرصت على أن تكون الصفة التي أتقدم بها هي : فلان ، كاتب من الجزائر. وطلبت نوفر من كل منا أن يبدأ الحوار بجملة قصيرة تكون عنوانا له، وقلت أنا بأن علينا ألا نسمح للتاريخ بكل عقده أن يتحكم في الجغرافيا، بل على الجغرافيا بكل متطلباتها أن تفرض نفسها على التاريخ. وبدأ الحوار الذي كان نموذجا للحوار الراقي الذي يعرض كل فيه وجهة نظره مع الاحترام الكامل لوجهات النظر الأخرى. وكان لا بد من القول بأن زيارة سعد الدين العثماني للجزائر كانت خطوة جادة حقيقية تبعث على التفاؤل، فقد خرجت بنا من عملية البيانات البلاغية التي كان تبث من المغرب الشقيق أيام العطلات الرسمية وتعطي الشعور بأنها مجرد تسجيل مواقف، وهكذا فإن مبادرة وزير الخارجية المغربي في حكومة السيد بين كيران تستحق التقدير، وأنا عرفت السيد بن كيران خلال المؤتمرات التي شاركنا فيها معا، وأعرف أنه رجل ذكي ومقتدر ومثقف وواعٍ وشجاع. ومن هنا رأيت في الزيارة انطلاقة جديدة علينا أن نتعامل معها بحكمة وذكاء. ودخولا في صلب الموضوع قلت بأن بناء المغرب العربي كان حلما لكل المناضلين بل ولكل المواطنين، وكانت الجزائر في طليعة العاملين لبناء وحدة شمال إفريقيا عندما أنشئ نجم شمال إفريقيا في عشرينيات القرن الماضي على أرض فرنسا نفسها، ثم أنشئ مكتب المغرب العربي في القاهرة في الأربعينيات، ثم جاء لقاء باندونغ وتكامل تمثيل المغرب العربي فيه، ثم شاركت الجزائر، رغم اشتعال ثورتها، في لقاء طنجة في الخمسينيات، بدون أن أنسى أن بناء المغرب العربي هو بند رئيسي في بلاغ ثورة أول نوفمبر 1954. وتذكرت أننا كنا نغني في شرخ الشباب:....سلّ جبال الأطلس من طنجة لتونس.... هذا من الناحية التاريخية والعاطفية، أما من الناحية العملية فيجب أن نفهم أن بناء المغرب العربي هو اليوم ضرورة سياسية واقتصادية بل وضرورة لحماية الأمن القومي للمنطقة كلها، التي تمثل معظم شمال إفريقيا بعمقه في القارة السمراء. وكنت أعرف أن الأمر ليس بهذه السهولة، ومن هنا قلت أن علينا جميعا أن نقف وقفة نقد ذاتي نراجع فيها مواقفنا وشعاراتنا وتصرفاتنا، وليس من الضرورة أن يتم ذلك بالأسلوب الصيني، أي على رؤوس الأشهاد، بل يكفي أن نتفادى ما كنا نرتكبه من أخطاء، وأحيانا...من خطايا. فالمشكل هو أن هناك أزمة ثقة. وبالنسبة للجزائر، هناك جراح يجب أن تنسى، خصوصا عندما يعترف الطرف الآخر بذلك مشكورا، كما حدث بالنسبة للغزو الذي قام به الجيش المغربي ضد الجزائر في 1963، وهو ما تناوله رئيس الوزراء المغربي المرحوم عبد اللطيف الفيلالي في كتابه، وكان الأشقاء يرفضون الاعتراف به مروجين لتعبير: حرب الرمال، وهو تعبير خادع وغير حقيقي. وواقع الأمر أننا كنا وضعنا سلبيات الماضي جانبا وانطلقنا بعد فترة معينة نحو تدعيم أواصر الأخوة، وكانت لقاءات تلمسان وإيفران، ودعمت الجزائر العاهل المغربي إثر أحداث الصخيرات، وقال الرئيس هواري بو مدين يومها أن استقرار الجزائر من استقرار المغرب واستقرار المغرب من استقرار الحكم الملكي فيه. وعندما تطرق الحوار إلى اتحاد المغرب العربي قلت بوضوح، متحملا مسؤولية ما أقوله، بأن الاتحاد ولد ميتا، فقد أقيم في الثمانينيات بخلفيات لم تكن سليمة، وتحت ضغوط خارجية، وبالتالي علينا أن نقيم اتحادا جديدا، وإكرام هذا الاتحاد هو أن ندفنه بسرعة، لأن إكرام الميت الإسراع بدفنه. وحل المشاكل القائمة بين البلدين يجب أن يبدأ ببناء الثقة، وهو أمر تعثر طويلا وبدون مبرر. ورأى الوزير المغربي الأسبق استعمال تسمية "الصحراء المغربية" وهو الموقف الرسمي في المملكة الشقيقة، وأضاف بكل هدوء ورزانة بأن القضية هي الآن على مستوى الأممالمتحدة، ويجب أن يترك حلها لها وللزمن، ومن هنا قلت بأنني أتفق معه تماما في أن القضية هي في عهدة الأممالمتحدة، التي لم تتخذ بعد قرارا نهائيا بشأنها، وبالتالي فإن تسمية "الصحراء المغربية" هو، بكل احترام لوجهة النظر الأخرى، هو تجاوز للإرادة الأممية وللشرعية الدولية. غير أن وجود القضية في عهدة الأممالمتحدة لا يلغي دورنا على مستوى المغرب العربي، ومن هنا قلت أن على طرفي النزاع، المغرب والبوليزاريو، أن يتقدم كل منهما خطوة نحو الآخر، وكمثال، وما زلت أقول أن هذا رأيي الشخصي، فإن المغرب اتخذ خطوة شجاعة باقتراح فكرة الحكم الذاتي، ولا يهمني أن يقول البعض أن ذلك كان نتيجة لضغط أمريكي، يكفي أن أقول أنه موقف لا يقل شجاعة عن اعتراف الملك الحسن في نهاية الستينيات باستقلال موريطانيا، وأتصور أن الحكم الذاتي الحقيقي، الذي يكون فيها لأبناء الصحراء رأيهم ودورهم، هو حل مثالي، يخرج بنا من حالة جمود أصبحت كمرض الروماتيزم المزمن، الذي يشل الحركة، ويزداد تأثيره السلبي يوما بعد يوم، لأن هناك مستفيدين من حالة الشلل التي تعرفها المنطقة. ولأن المطلب الرئيسي للصحراويين، فيما أعرف، هو الاستفتاء على تقرير المصير، فإن وضع الحكم الذاتي في إطار اختيار ثلاثي يطرح على الصحراويين، بجانب الاستقلال التام للصحراء أو انضمامها الكامل للمغرب، هذا الاختيار يمكن أن يشجعهم على اختيار الحكم الذاتي، لأن الأمر لن يصبح فرضا للأمر الواقع بل اختيارا حرّا وصريحا يدعم صرح الأخوة في المستقبل. ولقد قلت هذا من منطلق يقيني، الشخصي دائما، بأنه لو تم الاستفتاء في مطلع السبعينات وقبل أن تسيل دماء الفريقين لكان من المحتمل أن يحصل اقتراح انضمام الصحراء إلى المغرب على أغلبية يمكن أن تتجاوز 60 في المائة، لأن كل الأقطار المجاورة كانت غير مهتمة بالأمر كله، وكانت ليبيا على وجه التحديد متجهة بكل جوانحها نحو المشرق، ولم أرد التذكير بأن ليبيا آنذاك كانت ترى أن فكرة المغرب العربي هي فكرة استعمارية تشبه فكرة الهلال الخصيب، وهي مراهقة سياسية سبق أن تناولتها في موقع آخر. وعندما قال الزميل التونسي بأن المشكل الحقيقي هو أن دول الاستقلال في كانت منكفئة على نفسها ولم تنفتح على الجوار، قلت بكل أخوة أن هذه الصورة ليست دقيقة، فقد عرفت الستينيات والسبعينيات تجسيدا تدريجيا للإرادة الوحدوية، كان من أبرز معالمها "مغرب فيزيون"، وعمليات تنشيط التنمية في المناطق الحدودية، بالإضافة إلى حل مشاكل الحدود، والتي كان في طليعتها اتفاقية الرباط في جوان 1972 برعاية الرئيس هواري بومدين والملك الحسن، رحمهما الله. وهذا يعني أنه كان هناك تقدم لا بأس به، أجهضته قضية الصحراء الغربية. وأصر الوزير المغربي على الإشارة لقضية الحدود المغلقة منذ منتصف التسعينيات، ومن هنا اضطررت للتوضيح، خصوصا للأشقاء في المشرق العربي، بأن الحدود الجوية بين الجزائر والمغرب مفتوحة وكذلك الحدود البحرية، أما قضية الحدود البرية المغلقة فيجب أن تدرس بشكل جاد يبتعد عن أساليب الماضي، لكيلا نفتح الحدود اليوم ونغلقها غدا. وأنا أتصور أن هناك مشاكل يجب أن يتم حلها بعيدا عن التهريج الإعلامي من أي طرف كان، وقلت في هذا الصدد مثلا، وبكل صراحة، بأن هناك الأقاويل عن طرد مغاربة من الجزائر في السبعينيات والذي ارتبط بطرد جزائريين من المغرب، وهي مشاكل حقيقية أحدثت جروحا بعضها لم يلتئم بعد، ولكن هذه المشاكل يجب أن يكلف بحلها رؤساء البلديات أو الدوائر أو الولاة على أكثر تقدير، بالتوازي مع رجال القضاء، وليس من المنطق أن نحولها إلى قذائف ملتهبة تطلقها مستويات عليا يتكفل الإعلام في البلدين من تضخيم لهيبها، وما أكثر المتخصصين في صب الزيت على النار في بلادنا كلها، ولنعطِ لكل ذي حق حقه. ورأيي الشخصي هو أن نبعد القيادات العليا للبلدين عن التراشق العلني بالاقتراحات، كل ما نطلبه منها هو إعطاء تعليمات تكفل حرية الحركة للمستويات التنفيذية. أما أسس بناء الاتحاد فيجب أن نستفيد من تجربة الاتحاد الأوربي، الذي أمكن بناؤه عندما انتهت حكاية المجال الحيوي واستقر وضع الألزاس واللورين، وعندما انتهى اللجوء إلى التاريخ وانطلق الاعتماد على الجغرافيا. ومنذ أيام كنت أتحدث مع صديق مغربي هو الوزير السابق الأستاذ محمد أوجار، وكانت محصلة حديثنا أن على مثقفي البلدين أن يبذلوا جهدا فاعلا لتحقيق الوئام بيننا، وهو ما وصل إليه حواري يوما مع صديق آخر هو الأستاذ محمد العربي المساري، وكذلك مع الأخ محمد الأشهب. لكن الحوار بين المثقفين شيئ والتراشق الإعلامي شيئ آخر، وهذا التراشق تحركه أجهزة خاصة يعرفها الجميع، وهو ما يعني أن خطوات كثيرة يجب أن تظل بعيدا عن الإعلام الموجّه.