ننتظر بفارغ الصبر قبول ملف انعقاد مؤتمر حول شخصية الهواري بلوحناني مكي نونة، مسيرة فنية حافلة بالعطاء والإبداع.... عمي مكي شاعر فحل، يحب وهران حتى النخاع، ويعشق الفن الأصيل والقصيدة النقية المهذبة، بدأ نظم الملحون منذ نعومة أظافره، لم يكن يفارق البتة، مجالس الشيوخ الكبار، وفطاحل الشعر الشعبي المعروفين في جزائرنا المشتهرة بتراثها الثقافي الثري والمتنوع... استضفناه في مقر جريدة "الجمهورية" صباح أمس، ومنذ الوهلة الأولى شعرنا صراحة ونحن نحاوره، بأنه لا يزال يحتفظ بذاكرة قوية، ويحفظ الكثير من الأبيات الشعرية التراثية القديمة والحكيمة، لاسيما تلك التي تمدح النبي عليه الصلاة والسلام، وتتغنى بوطننا المفدى، وتثمين مسعى المصالحة الوطنية الذي أرجع إلى البلاد أمنها واستقرارها المنشودين... ، عمي نونة، بعمامته الصفراء المعهودة، وابتسامته اليومية التي لا تفارقه، لم تظهر عليه نوائب الزمن، والكبر في السن، بل وعلى العكس من ذلك، بدا لنا قادرا على العطاء، وعلى استعدد دائم لتكوين وتلقين المواهب الشابة التي ترغب في تفجير طاقاتها ومواهبها التي تختزنها... بدايتها مسك من حي الحمري "الشيخ نونة" صاحب ال 82 ربيعا ولمن لا يعرفه، هو ابن حي الحمري العتيق، إذ وإلى اليوم لا تزال شوارع وأزقة هذا الحي الشعبي المعروف، شاهدة على نجاحات هذا الشاعر الموهوب، بداياته الأولى مع الإبداع والحس الفني المرهف، كانت في سن مبكرة وبالتحديد في ال15 من عمره، حيث وفي أحد الأيام الخوالي أقيم، حفل زفاف بشارع 10 هارون الرشيد بحي الحمري (وهران)، وقام أهل العريس بتوجيه الدعوة لأحد مشايخ الشعر الملحون المعروفين لتنشيط أمسيتهم الزفافية، يدعى محمد ولد المأمون من المحمدية بمعسكر، وقام هذا الأخير بجلب براح يسمى لخضر السايحي، ولكن هذا الأخير لم يكن بارعا ومتمكنا من ذلكم الأسلوب الفني، مما جعل الكثير من المدعوين في العرس، يشعرون بالملل وخيبة الأمل من هذا الشاعر غير الماهر، هنا قام أحدهم وطلب من عمي مكي الذي كان وقتها شابا يافعا، أن ينشط هو بالذات حفل الزفاف، وأن يظهر للجميع، ملكاته التي يختزنها، وبعدما تمكن هذا الشخص من إقناع نونة مكي بالتنشيط، توجه على الفور إلى المغني محمد ولد المأمون، وأخبره بأنه يوجد فتى قادر على إحياء هذه الأمسية بشكل أفضل وأحسن من شاعره المذكور آنفا، وما كان لهذا الأخير سوى قبول هذا الطلب، ليقوم وقتها مكي نونة من مكانه الذي كان جالسا فيه، والجميع يترقب ويسأل عن هذا الشاب الذي لم ينشط في حياته حفل زفاف كبير كهذا، ليبدأ دون خوف أو تردد في إلقاء الأبيات الشعرية والقصائد الملحونة، بشكل أذهل الجميع، وكأن لهذا الشاعر اليافع خبرة طويلة في هذا المجال، هنا بدأت زغاريد النسوة تغمر العرس، وتصفيقات الضيوف، ترتفع ابتهاجا وفرحة بهذا "البراح" الماهر، الذي أعاد الحيوية والغبطة لأهل العريس الذي كانوا خائفين أن يفشل الحفل، ويصاب العريس بالأسى والحزن لعدم نجاح يومه السعيد الذي كان ينتظره منذ عدة سنوات. 3 عوامل وراء موهبته هكذا إذن استطاع شاعرنا الفحل، أن يصنع اسمه بأحرف من ذهب في سجل قائمة أكبر شعراء النظم الملحون، حيث أكد لنا عمي مكي أن هذه الموهبة التي فُطر وجبل عليها، لم تأت من العدم بل تشكلت لديه بفضل حبه لهذا النوع من الفن التراثي الشعبي و ثانيا قدرته السريعة والهائلة على الحفظ، فالشيخ نونة كان يقضي أوقاتا طويلة، في السماع لأسطوانات هؤلاء المشايخ الكبار في مختلف مقاهي الطحطاحة بالمدينة الجديدة والحمري، على غرار الشيخ بوراس، الخالدي، حمادة الرمادي ...إلخ، فضلا عن أنه ينحدر من عائلة فنية عريقة، حيث كان جده من أبيه شاعرا معروفا في قصيد الملحون، فكل هذه العوامل مجتمعة مكنته من التألق والتحكم منذ نعومة أظافره في نظم الأبيات وإلقائها بشكل ارتجالي رهيب وفظيع، جعلت الكثير من المتتبعين والنقاد، يصنفونه ضمن أحسن وأكفأ شعراء الملحون على المستوى الوطني. وهكذا وبعد الانتهاء من حفل الزفاف الذي أعطى أول شرارة إبداع لهذا الفتى الذهبي، طلب الشيخ محمد ولد المأمون الحديث إلى والده، و روى له بالتفصيل، كيف تألق ابنه في سماء هذا الحفل، وترك الجميع يسأل عنه وعن موهبته الفائقة، ليلتمس منه السماح لفلذة كبده بالذهاب معه أينما حلّ وارتحل يعلمه أصول الشعر الملحون، ويلقّنه جميع تقنيات وخبايا هذا الفن الشعبي الراقي، وقتئذ اقتنع بهذا الطلب، وبدأت والدته في تحضير متاعه وملابسه لاستعمالها عند الحاجة، حيث كانت معظمها رثة وقديمة بحكم الأوضاع الصعبة التي كانت تعيشها العائلات الجزائرية من جراء الاستدمار الفرنسي الغاشم لبلادنا، لتبدأ بذلك تجربة جديدة في مشوار هذا الشاب المليئة بالمفاجآت السارة والمغامرات المشوقة، والتي بفضلها صار اليوم نجما ساطعا في تخصص الشعر الملحون. "باريقو" أول محطة في مشوار البراح وهكذا سافر عمي مكي مع هذا الشيخ إلى المحمدية، كأول محطة له في مشواره الفني، ثم بدأ يشارك معه في مختلف الحفلات والأعراس التي توجه لهم الدعوة فيها، دون التخلي عن شاعره المخضرم لخضر السايحي، فشكلوا بذلك مجموعة متكاملة ومتجانسة، اندمج فيها عمي نونة بسهولة، وتعلم منهما الكثير من الأمور التي كان يجهلها، وبعدما شعر الشيخ ولد المأمون أن تلميذه صار يافعا وقادرا على العطاء وتسطير مشواره الفني بمفرده دون العودة إلى أستاذه الذي علّمه أبجديات الشعر والنظم الشعري، خيّره بين البقاء معه في المجموعة، أو العودة إلى وهران ومن ثمة، البدء في حياة فنية جديدة يكون هو صانعها الأساسي وقائد جوقها الرئيسي، فوقع اختياره على الاقتراح الثاني، لتبدأ صفحة جديدة من مشوار شاعرنا المعروف، حيث اشتغل مع قامات كبيرة في الشعر الملحون على غرار، الشيخ الطيب "السيقلي" من حي الضاية، بخذة العماري ومحمد ولد عبد الإله من مديوني، بن فيسة يونس من عين تموشنت، كما اشتغل كذلك مع الراحلة الشيخة الريميتي، التي سافر معها في مختلف ولايات الوطن، وأحيى معها عدة سهرات وحفلات فنية لا تزال إلى اليوم شاهدة على نجاحاته وتألقه في هذا الفن الشعبي الذي يقتضي من صاحبه الالتزام بهندامه العربي الأصيل، و إتقان أبياته الأصيلة المفعمة بالحكمة والأمثال الشعبية الضاربة في أعماق مجتمعنا الغني بتراثه الثري والمتنوع. أغنيتان فكاهيتان في الرصيد في سياق حديثه عن تجربته الطويلة في هذا المجال الفني التراثي العريق، كشف لنا محدثنا أنه أنتج كذلك أغنيتين فكاهيتين، ألفهما في الماضي، كدليل آخر على قدرته كذلك في التفوق والتألق في مجال الغناء، على غرار أغنية "زاد اليوم" و " آلي زي ... آلي زي"، فبالرغم من أنه استطاع، أن يظهر ملكته في هذا الفن الذي يستلزم من صاحبه، امتلاك صوت جهوري وجميل وإتقان أبسط أبجديات الفن الموسيقي، إلا أن مكي نونة، فضل مواصلة المشوار في تخصص الشعر الملحون، حيث كانت جلّ المواضيع التي تطرق إليها متعلقة بالجانب الديني، الاجتماعي، الحب، وبر الوالدين. هذا الأمر شجع الكثير من الفنانين والمطربين الشباب بوهران، إلى المجيء عنده، ليطلبوا منه كتابة وتأليف قصائد غنائية يؤذونها في مختلف الأشرطة التي يريدون إنتاجها، على غرار المطرب الوهراني المعروف هواري بن شنات، الذي ألّف له أغنية "ارسم وهران" و "راني مدمر"...إلخ، وكذا المغني المازوزي، المرحوم الشيخ فتحي، شيخ الأغنية البدوية عباس، ومحمد المجاهري. حيث أضحى نونة قبلة لكل المطربين الراغبين في الحصول على أغان بدوية و وهرانية هادفة ونظيفة، مما دفعه إلى بذل المزيد من الجهد حتى يقدم الأفضل والأحسن، لهؤلاء الفنانين الراغبين في البروز والتألق على الساحة الفنية والوطنية، والغريب في الأمر أن عمي نونة كان يكتب قصائده بشكل ارتجالي وتلقائي، على غرار قصيدة "راني مدمر" التي كتب أبياتها الشعرية، بعد الاستضافة الحميمية التي دعاه إليها المطرب هواري بن شنات في منزله، حيث وفي اللحظة التي نزل فيها الأخير من سيارته لشراء السيجارة عند مدخل مركب الأندلسيات بوهران، شاهد عمي مكي من بعيد أحد الشباب وهو في حالة نفسية يرثى لها، وقتئذ قصده بغية الاطمئنان عليه ومعرفة سبب بكائه وجلوسه بمفرده بمحاذاة الشاطئ، فأخبره بأنه طلب يد فتاة يحبها، ولأنه كان عاطلا عن العمل، قام أهلها بتزويجها بمغترب أخذها معه إلى الخارج، هنا نزل الإلهام على عمي مكي، وفور دخوله إلى منزل هواري بن شنات طلب من زوجة الأخير تسليمه دفتره الشخصي، ليشرع في كتابة قصيدته الشهيرة "راني مدمر" التي كانت في الأصل عبارة عن قصة حب لشاب، لم يتمكن من الزواج من فتاة يعشقها، بسبب فقره وعدم قدرته على إرضاء أهلها الذين زوجوها بشاب غني وميسور الحال. في وادي الفضة مع الراحل أحمد وهبي ومن بين الذكريات الجميلة التي لا تزال راسخة في ذهنه إلى اليوم، يقول شاعرنا الفحل .... "ذلك العرس الذي نشطه الشيخ نونة في سنة 1963، مع المطرب الوهراني الكبير المرحوم أحمد وهبي، في نواحي وادي الفضة بولاية الشلف"، حيث رفض الأخير الغناء فوق عربة شاحنة، بحجة أن الديكور المعد للسهرة الزفافية لا يتناسب وقامته الفنية التي يتمتع بها المغني أحمد وهبي، ليقوم على الفور أهل العريس بتغيير شكل الديكور إرضاء له، ولكن وبالرغم من ذلك بدت على المرحوم علامات الغضب والحزن، لعدم تقبله فكرة الغناء فوق عربة شاحنة، ولكن وحتى لا يغادر أحمد وهبي حفل الزفاف، وهو في حالة نفسية ناقمة ومتذمرة، قام الحاضرون في الحفل، بإكرام وفادة الضيفين ماديا وحتى معنويا، وهو الأمر الذي أثلج كثيرا صدر المرحوم أحمد وهبي. كما لم ينس شاعرنا الوهراني المعروف، تلك اللحظة الحرجة التي وقعت فيها لجنة تنظيم حفل افتتاح، سهرة "سنة الجزائر بفرنسا عام 2003" في قاعة بيرسي في باريس، حيث انسحب منشط الحفل في آخر دقيقة لأسباب مجهولة، ولم تجد لجنة التنظيم من بد سوى الاستنجاد بمكي نونة لتنشيط الحفلة، لينجح هذا الأخير في هذا التحدي الصعب وغير المتوقع، مدخلا الفرحة أولا في نفوس الآلاف من المغتربين الحاضرين، وثانيا تشريفا للسلام الوطني في خارج الوطن. التكوين عبء ثقيل الأكيد أنه على عاتق جمعية الثقافة التقليدية بوهران التي يرأسها عمي مكي، مسؤولية كبيرة في الحفاظ على هذا الإرث الفني المحلي والوطني، فهي بمثابة الضامن الوحيد، لمنع زوال الشعر الملحون ومختلف الموروثات الثقافية الشعبية المهددة بالنسيان ولما لا الانقراض، ولكن وبالرغم من ذلك فقد تمكنت الجمعية عن طريق أمينها العام خديم الهواري المعروف باسم "الهواري المحبوب" من تأطير الكثير من الشباب، وحثهم على عدم الهجرة إلى ما وراء البحار، وقد تم منح لحوالي 25 شابا بطاقات فنانين، لمغنيين، موسيقيين، شعراء... إلخ، لتشجيعهم على العطاء والبذل والإبداع، ليختم في الأخير حديثه معنا، بضرورة تسهيل الإجراءات الخاصة بانعقاد الملتقى الوطني حول شخصية الشاعر والمغني الثوري البارع الهواري بلوحناني المعروف باسم "حناني" الذي كتب قصيدته الشهيرة " أصحاب البارود والكرابيلة" بمناسبة احتفال الاستدمار الفرنسي بمئوية احتلاله للجزائر في سنة 1930 حيث لا تزال جمعية الثقافة التقليدية تنتظر موافقة بلدية وهران حتى ينعقد هذا الملتقى الذي من شأنه نفض الغبار عن هذه الشخصية الثورية المنسية، والتي يرجع لها الفضل في تنوير الشباب الجزائري، وغرس في نفسيته روح الوطن ورفض الذل والهوان الاستدماري الفرنسي الغاشم.