في الانفتاح على الآخر تفتح و تحضر ، و لا يكون هذا الانفتاح مجديا إلا إذا توافرت له أدواته وأسبابه أما الأداة فهي الوسيلة الأمثل التي تقرب الناس إلى بعضهم البعض، و تسمح لهم بالتواصل لنقل العلوم و المعارف و الاستفادة من الخبرات و التجارب،و نسج العلاقات الإنسانية مع الآخر و أعني بها اللغة بالدرجة الأولى ، و ليست الانجليزية و الفرنسية و الإنسانية و الألمانية فقط هي التي تجب أن تستحوذ على اهتمامنا و إقبالنا بعد لغتنا، فهناك الصينية التي فرضت نفسها في الآونة الأخيرة بحكم عبقرية أبنائها و قدرتهم على تحقيق قفزة لا مثيل لها في الاقتصاد العالمي، و لا أخالك أخي القارئ تستغرب إن قلت لك يمكن للعبرية أن تحظى باهتمامنا على الصعيد الجامعي باعتبارها لغة سامية شأنها شأن العربية، و بصفتها لغة عدو يجب اتقاء شره من خلال الإلمام بمواطن ضعفه و قوته ، فمن تعلم لغة قوم أمن شرهم، و هم ما تعلموا لغتنا لمقاصد شريفة، و إنما أقبلوا عليها للتخابر علينا و تشويه تراثنا بالبحث عن نقائصنا و تقديمنا للعالم كأمة متخلقة تجمع المتناقضات و لا جدوى من تعليق الأمل على خلاصها من رعونتها و صلفها و انغلاقها و عجزها عن مسايرة العصر و التطور وتقبل الحداثة و الانفتاح على الآخر و التعايش معه، هكذا يقدمنا عنصر يوهم للعالم ، و هذا يدفعنا إلى الاعتداد بتراثنا و الاعتناء بلغتنا و العمل على إعزازها و إكبار شأنها، و غرس محبتها في نفوس النشء، و العمل على عصرنتها بتخفيف مفرداتها و كثرة مرادفاتها التي لا تحصى و لا تعد، و إذا كان هذا الثراء و هذا الغنى شرفا و مزية بالنسبة لنا، فإنه يعرقل انتشارها على نطاق واسع في نظري. و بالعودة إلى الأشواط التي قطعتها الجزائر في إعادة الاعتبار للغة الضاد و جعلها لغة مخدومة لا خادمة و سيدة لا مسودة ، فإنني استحضر بدايات الاستقلال في منتصف الستينات عندما كنا شبابا نجوب شوارب وهران الرئيسية، فلا نسمع الناس تتخاطب و تتعامل في الغالب إلا بالفرنسية و قد أشعرني ذلك بنوع من الغربة، وأنا الوافد من بيئة مغربة محافظة ، حتى و إن ساعدنا الحظ كمهجرين على أخذ مبادئ لغة " قولتير " على أيدي معلمين فرنسيين و جزائريين و مغاربة أكفاء، هناك في البلد الشقيق المجاور. كانت بداية التعريب متعثرة للغاية لاعتبارات عدة لا مجال لعرضها و ما زلت إلى حد اليوم أتذكر واقعة أصبحت شبه نكتة يتسلى بها الجزائريون هنا ز هناك ، ففي سنة 1965 كنت أتجول ذات يوم مع زميلين صديقين بحي بلاطو بوهران و إثر وصولنا إلى ساحة " الرحى المحروقة " بشارع مستغانم استرعى اشباهنا ترجمة من الفرنسية إلى العربية على النحو التالي: Boulangerie du peuple ترجمت بخط رديء : " الشعب المخبوز " ، و من فرط الضحك و شدة القهقهات ظننا المارة شبانا طائشين مخمورين مع العلم أن جيل تلك الفترة كان في غاية الأدب واللباقة ، سارعنا في اليوم الموالي إلى نشر هذا الأمر في الثانوية فشاعت وانتشرت عبر الوطن ، و أظن صديقي و زميلي في الدراسة " أحمد بن نعموم " ما زال يذكر ذلك ، و الأمثلة كثيرة على ترجمات من هذا النوع : " خلاق مربب " ، " ماكلة تهبل " ، " سينما المصغر " " Studio des Jeunes " ...الخ، وبين هذه المضحكات التي تدل على القصور و الجهل المطبق بأبسط قواعد العربية و أصولها بفعل الاستعمار الذي عمل على طمس مقومات شخصينا وهويتنا، و بين ما حققته سياسة التعريب من وثبة جبارة في جميع المجالات بون شاسع بحيث تربعت العربية على العرش في وطنها لا ينازعها في ذلك إلا محاولات يائسة سرعان ما يستكين أصحابها. فقد أصبحت لغة التدريس و البحوث و الإدارة ، وسبقت الجزائر بذلك دولا عربية كثيرة بشهادة النزهاء من الملاحظين الذين قيموا تجربتنا الزائدة ، و إذا كانت ثمة نقائص فهي في الغالب نقائص موضوعية ، ليست مترتبة عن تجاهل أو تقصير و كل مسيرة في أي مجال ، لا بد أن تشوبها مواطن ضعف سرعان ما تتدارك إذا صدقت النيات. أقول هذا و احتفالنا بغرة نوفمبر مؤخرا جعل هذا الشهر يقف هو بنفسه على ما أنجز في هذا المجال، ليقر لنا أننا كنا عند وعدنا ، ووفينا ما تعاهدنا عليه مع شهدائنا الأبرار .