نفس زاوية المقهى وعلى نفس الطاولة، ينتبذ الذكرى سفرا قصيا، يوقظ بالدخان صوتها المسكون في حفيف شجر القرم ، مطر على الكرسي الفارغ منذ سنتين، قلبه في المنضدة وسيجار في صدره ، البحر يميط اللثام عن قبلات مسروقة من ثغر الزمن .. يتحسس بيده يده هنا كانت يدها ، هنا ضحكتها حين انتصار عظيم ، هنا حذائها والرمّل وذكرى الخطى العابرات ، هنا قلمها، دفترها، ساعتها والعقارب الواقعات في جِيد المسافة ، تتسلل أصابعه لكتفه ينفض وجع الفقد ، شعرها الكان مسكوبا كحروف سومرية ، هنا الطفلة التي شاب قلبه بحبها ، هنا التي كانت هنا .. يعدّ أصابع الغياب عد سنين العمر ، غياب مسكون بوجع آخر، تحلّق أسراب النوارس بحكايا الفقد ، تحط مكانها كلّ هذه الأحاسيس والأفكار، هذه الأوهام، هذا الخلاء والامتلاء ،الخطوة ونقيضها ويكشّر الوقت عن أنيابه فيردي كل الآمال قتلى ،كإلهين إغريقيين يتصارع الشّوق والخوف داخله، لم يعد المكان يتّسع،جند الذكرى ينصبون شراك الدمع حوله، لازال صامدا يقاوم، وحده يعرف معنى الصّمت، معنى الحرف الواقف بحدود صمّاء، وحده محاط بخيبته ، بصراخ أخرس ، بشبح أنثى غابرة في العدم . تتسلّل الشّمس من بين الورقات، ينتبه أنه أضاع وجهها بين الزحف القادم نحو بيتزا إكسبريس ، أعاد وجهه نحو البحر في بحث مستمرٍّ عن ملامحها ،يقال أن الزرقة كفيلة بمسح السواد ، غلب السواد مات الأزرق ولازالت هي رغم الحضور طي الغياب . يقف محاولا صلب ذاته الهشّة ، يمشي والطريق لا ينتهي ، في المنتصف بين كل شيء يقف يتلحف صوتها ، كل شيء كان قريب منه وملتصق به أصبح الآن في الجزء الآخر من الحياة، عيناها التي كانت آيته ، قلبها المحراب، قُبل الهزيع الرابع من الليل ، رقصاتها المجنونة ، مشطها والمرآة والركن الأخير من غرفة ظلماء ، السرير البارد ، كوب قهوتها و وردة تصارع برد الأمكنة، من كثر صدقها لازال لا يصدّق الغياب يواسي بعضه بعضه،يبتهل لفرصة تمد يدها من العدم. يتوسط الشارع يشير إليه الشرطي ليعبر، يتراجع كنار عمياء ، بعقل شجرة وقلب خاوٍ ، يكاد يسبق نفسه ولا يصل ، هو كل ما لم يكنه ، صوته حرائق الحجر، وفأس بكبد النهر المسكون بعينيها، مهما حاول لا يلتقي به العالم ، هو في اللامكان وهي ، هي كل المكان..