لا نملك كتابا وممثلين ومخرجين متخصصين. من الجنون تقد يم عمل للطفل دون أن يمر على مستشار نفسي وبيداغوجي. الضحك ضروري لكن لا ينبغي أن يصل إلى حدّ السخافة والتهريج. المسرح ظاهرة إجتماعية وإنسانية وفنية وثقافية تقوم على الحوار. يرسم المسرحي والأكاديمي، الدكتور مخلوف بوكروح، صورة قاتمة عن واقع مسرح الطفل في الجزائر، قائلا إنه، ورغم الدعم الذي يحظى به من الدولة، فهو يقتصر على تجارب مشتّتة لا تشكّل تجربة يُمكن الاستناد إليها، مضيفا أنه لم يصل بعد إلى مرحلة التأسيس. ويربط المدير الأسبق للمسرح الوطني الجزائري هذا الوضع بنقص التكوين وغياب إستراتيجية واضحة لثقافة الطفل في مختلف المؤسّسات التي تُعنى بهذه الفئة، مقترحا الاهتمام أكثر بهذا المجال من خلال إدراجه في المناهج التربوية وإنشاء فرق وفضاءات مسرحية خاصة الأطفال. الجمهورية: بداية، كيف تقيّم، كمسرحي وأكاديمي، واقع مسرح الطفل في الجزائر؟ - مخلوف بوكروح: الحقيقة أنه من الصعب تقديم وصف عام عن واقع مسرح الطفل في الجزائر، بسبب غياب دراسات معمّقة في هذا المجال من جهة، ومن جهة أخرى، هو أنّ هذا الموضوع يحيلنا على الحديث عن حقيقة وجود مسرح للطفل بالجزائر، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نقرّ به ولا يمكن أن ننفيه، في الوقت نفسه، فالوجود يعني أن هناك ممارسة مكرّسة ومستمرّة، وهو أمر غائب بالتأكيد، وهذا لا يخصّ مسرح الطفل فقط، إنما ينسحب على المسرح بشكل عام، ولكن هذا لا ينفي الجهود والعروض التي تُقدّم من حين لآخر.مع ذلك، فإننا بدأنا نشهد في الآونة الأخيرة اتجاها نحو تكريس هذه الممارسة من خلال العروض، كتلك التي تحتضنها، بشكل دوري، قاعة "الموقار" وأيضا في وقت سابق قاعة "ابن خلدون"، وهو مؤشّر إيجابي لبداية الاهتمام أو تكريس العروض. ومن الضروري الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية؛ وهي أن هذا الفن بالجزائر حديث النشأة، إذ أن بدايته تعود إلى عقدين من الزمن فقط، فإرهاصاته الأولى بدأت في مطلع السبعينيات بداية السبعينيات بالمسرح الجهوي لوهران، قبل أن تتوسّع التجربة لتشمل المسارح الأخرى الموجودة على المستوى الوطني. من المهم أن هذا المجال يحظى بدعم من وزارة الثقافة ومن المجتمع بشكل عام وهو ما شجع المسرحيين على التوجّه إليه، ومع ذلك لا يمكن القول إن ما يقدّم كاف، كما أنّ هناك عديد الملاحظات المسجّلة حول ما يُقدّم. هل ترقى هذه الأعمال لمستوى المسرح، أم أنّها مجرّد نشاطات ترفيهية؟ - لا يُمكن التعميم على كلّ ما يقدّم على المستوى الوطني من مسرحيّات موجّهة للأطفال، إذ أن هناك تباين من تجربة إلى أخرى، ومن عرض إلى آخر، لكن من خلال متابعتي للعديد من العروض واطلاعي على الكثير من النصوص المسرحية أيضا، أستطيع أن أقول إن ما هو موجود ما زال دون المستوى المرجوّ. لذلك أشدّد على أن المهتمّين بهذا المجال يجب أن يدركوا خصوصيته، ومدى خطورة وحساسية الفئة التي يستهدفونها، فمسرح الطفل مجال في غاية الصعوبة والتعقيد. هناك غياب واضح للمختصّين في مجال مسرح الطفل؟ - نحن لا نملك، لحد الآن، كتّابا وممثلين ومخرجين مهنيين ومتخصصين في المجال، كما يغّيب المستشار البيداغوجي والنفسي عن المسرح الموجّه للطفل، رغم أنه سيكون من الجنون تقديم عمل للطفل دون أن يمرّ على مستشار نفسي وبيداغوجي، ليس ليمارس الرقابة بالمعنى السلبي، إنما ليوجه القيم التي يتضمّنها العمل ويدلي برأيه في المواضيع والمقاربات كما في الألوان واللغة وغيره. على ذكر اللغة، فإن وجود مدقّق لغوي هو أمر بالغ الأهميّة أيضا؟ - بالتأكيد، فالنيّة السليمة وحدها غير كافية مخاطبة الطفل، لأنّ النتائج قد تكون عكسيّة. يجب احترام الطفل بكل ما تعنيه الكلمة وعلى كل المستويات، فالمجتمعات المتقدمة تعمل على تدريب أبنائها على النطق من خلال المسرح، وتعويدهم على الاستماع لتربية أذنهم ورفع ذوقهم ولغتهم وتذوّقهم للفن والجمال. وبالمناسبة، جمهور الطفل صعب جدّا، فالكبار قد يتسامحون مع العرض الضعيف، لكن الطفل لن يجامل وسينشغل بمسائل أخرى أثناء العرض. أين تكمن مشكلة هذا الواقع الذي لا يبدو جيّدًا؟ - المسألة مرتبطة بالتكوين بالدرجة الأولى، فممارسو مسرح الطفل لا يحظون بتكوين خاصّ بهذا المجال، وتكوينهم المسرحي غير كاف لمواجهة الطفل الذي يتطلّب أدوات وأساليب ومهارات خاصّة، كما يتطلّب إلماما بالجانب النفسي الذي يلعب دورًا كبيرا عند الطفل، والحقيقة أن الممثّل الذي يتوجّه إلى جمهور الأطفال يجب أن يتوفّر على مهارات أكبر من تلك التي يتوفّر عليها ممثّل يخاطب الكبار، كما أن تقمّص شخصيّة الطفل أصعب وأعقد بكثير من تقمّص شخصية كهل أو شيخ، فلو أتيت بممثّل شاب مثلاً، وطلبت منه تقمّص هاتين الشخصيتين، فإنه سيواجه صعوبات في تقمّص الأولى رغم أنه عاشها في مرحلة من حياته، في حين سيؤدّي الثانية بسهولة رغم أنه لم يعش تجربة هذه المرحلة العمرية، والسبب أن مرحلة الطفولة عالم قائم بذاته، لذلك أقول دائمًا يجب الانتباه لخطورة مسرح الطفل، ويجب احترام الطفل. بالمناسبة، هل توافق على أنّ بعض الأعمال المقدّمة للأطفال تستخفّ بعقولهم؟ - بلى، هناك استخفاف بالطفل في كثير ممّا يقدّم له، لكنه غير مقصود بالطبع، بل هو نابع من استسهال هذا المجال، بدليل أننا لو تابعنا العروض المقدّمة، فسنكتشف أنها نسخ مكرّرة عن بعضها البعض، إذ تتكرّر الموضوعات والأشكال والقوالب والأساليب، وتكاد تكون الألحان والديكورات هي نفسها في كلّ العروض. صحيح أن هناك بعض التيمات التي يستحبّ حضورها في مسرح الطفل كالحيوانات والموسيقى، ولكن لا ينبغي أن تكون الوصفة المقدّمة هي ذاتها دائمًا. والأسوأ من هذا كلّه، هو أن كثيرا ممّا يقدّم لا يحترم الفئات العمرية للأطفال، ولا يأخذ بيئتهم وخصوصياتهم المجتمعية بعين الاعتبار. ألا تعتقد بأن طغيان البعد البيداغوجي على المسرح الموجّه للطفل يفرغه من محتواه الفني؟ - المسرح، وثقافة الطفل بشكل عام، تكمّل ما يتلقّاه الطفل من تربية وتعليم في البيت والمدرسة وغيرهما من المؤسّسات، وهذا ليس عيبا في حدّ ذاته، إنما يجب أن يقدّم ذلك بطريقة أخرى، طريقة فنية يطغى عليها الجانب الجمالي، إذ على الممثّل أن يوصل رسالته لجمهوره بعيدا عن الأسلوب الوعظي والإرشادي، الذي وفضلاً عن كونه ينفّر الطفل من المسرح، فإنه يفقد هذا الفن جمالياته. إذن، فالرسالة موجودة دائما حينما يتعلّق الأمر بالمتلقّي الطفل، لكن التركيز يجب أن نقدّم فنا بالدرجة الأولى. وماذا عن المراحل العمرية؟ - يجب أوّلا أن نفرّق بين نوعين من مسرح الطفل؛ الأوّل يقدّم من طرف الطفل نفسه، وهو يدخل في إطار الألعاب الدرامية التي تتيح لهذا الأخير الترفيه والتعلّم وأيضا إبراز ذاته والتعبير عن نفسه واكتشاف مواهبه، أمّا النوع الثاني، فهو الذي يقدّم من طرف الكبار، وهذا النوع في غاية الخطورة والأهميّة، ويجب أن يراعي المراحل العمرية الموجودة في مرحلة الطفولة ذاتها، وهنا يجب أن نشير إلى أن هذه النقطة تثير الخلاف والجدل بين المختصّين؛ بين من يرى أن جمهور الأطفال هو ذاته من السنوات الأولى إلى غاية الثامنة عشر، ويدعو أن يشاهد هؤلاء العروض معا في قاعة واحدة، لما يوفّره هذا من احتكاك للأطفال مع غيره ممن يكبرونه أو يقلّون عنه عمرا، وما يضيفه ذلك من خبرة وتجربة له، ومن يرى أن مرحلة الطفولة تنقسم إلى أقسام هي من 5 إلى 8 سنوات، ومن 8 إلى 10 سنوات، ومن 10 إلى 14 سنة، ومن 14 إلى 18 سنة، وبالمناسبة فإن أطفال الفئة الأخيرة مظلومون جدّا في المسرح؛ فهم لا يذهبون إلى قاعات العرض لمشاهدة مسرح الكبار باعتبارهم قصّرا، ولا يمكنهم مشاهدة مسرح الأطفال باعتبار أنهم تجاوزوا ما يقدّمه. هل هذا يعني غياب مسرح يخاطب فئة المراهقين؟ - نعم، رغم حساسية وخطورة هذه المرحلة. لذلك، أدعو إلى الاهتمام بهذه الفئة وأن يقدّم لها مسرح خاصّ بها، فهذه المرحلة الانتقالية تتطلّب وجود نوع من الحوار، والمسرح يتيح لها الحديث عن مشكلاتها وقضاياها. جرت العادة أن نتحدّث عن "أزمة نصّ" كلما دار الحديث عن الفن الرابع في الجزائر، وبما أننا نتحدّث عن مسرح الطفل فيبدو أن هذه الأزمة مطروحة بشكل أكثر حدّة. أليس كذلك؟ بلى، المشكلة مركّبة، ومرتبطة بغياب إستراتيجية للدولة في مجال ثقافة الطفل بشكل عام، إذ نلاحظ نقصا فادحا في مختلف المجالات المتعلّقة بالطفل، من سينما وأدب وفنون، وليس في مجال المسرح فحسب. أضف إلى ذلك أن الإنتاج الأصيل يبقى ضئيلا للغاية مادام معظم ما يقدّم للطفل تقريبا هو مستورد، ولا يراعي خصوصياته. إذن، نحن نعاني من غياب سياسة ثقافية واضحة. لكنّ الكتّاب يتحمّلون جانبا من المسؤولية بالتأكيد؟ - نعم، هم يتحمّلون جانبا من المسؤولية، لكن لا يمكن أن نتحدّث عن الكتّاب والكتابة في ظلّ بيئة تنعدم فيها ثقافة الطفل، لأن أيّ جهد جاد وحقيقي في هذا المجال لن يأتي من فراغ، بل سيكون محصّلة لتراكم جهود سابقة وتوفّر بيئة وشروط مناسبة. كيف تنظر إلى غياب المسرح عن المقرّرات الدراسيّة؟ - اطّلعت على المقرّرات الدراسية، من السنة الأولى ابتدائي إلى غاية السنة الثالثة ثانوي، في محاولة لتقصّي مدى حضور المسرح في الكتب التي يدرس بها أطفالنا، فوجدت أن ما يقدّم باهت ولا يشكّل مادّة أساسية يمكن أن تشكّل معرفة كافية بالمسرح. غياب المسرح عن الكتاب المدرسي، حسب رأيي، لا يمكن فصله عن النقص الفادح للمواد الثقافية والفنية وتهميشها في المدرسة الجزائرية، رغم أن القانون التوجيهي للمنظومة التربوية الوطنية يشير إلى الاهتمام بالمضمون الثقافي في المقرّرات الدراسية. ما مدى خطورة تغييب ثقافة المسرح لدى الطفل؟ - المسرح ظاهرة اجتماعية، إنسانية، فنية وثقافية تقوم على عنصر الحوار. إذا انطلقنا من هذه النقطة، وإذا أردنا إنشاء مواطن صالح، ليس بالمعنى الأخلاقي إنما مواطن يتحاور ويتواصل مع غيره، يمكن الاعتماد على المسرح لأنه المدرسة الأساسية لتعلّم الحوار، فممارسة المسرح تؤهل الفرد لممارسة المواطنة، وهذا جوهر المسرح الذي يمكن تربية الطفل عليه. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون حوار، فالمسرح فن ديمقراطي بالأساس، لذلك فإن المجتمعات التي تولي عناية بالمسرح هي المجتمعات الديمقراطية. ألا تعتقد أن الأمر مبالغ فيه بعض الشيء؟ - المشكلة تكمن في الانحراف الذي لحق بالممارسة المسرحية، التي باتت لا تتمّ بطرق سليمة وعلمية على كلّ المستويات. يمكن الاعتماد جزئيا على المسرح لتحقيق هذا الطموح، أن نكون متحاورين، أن نكون أكثر ديمقراطية وتقبّلا لآراء الآخر. لكن هناك مفارقة أستسمحك للحديث عنها تتمثّل في أن المونودراما ظهرت وازدهرت في الوقت الذي دخلنا فيه عهد التعدّدية السياسية والإعلامية في نهاية الثمانينيات من القرن الماضين وهو أمرٌ فيه كثير من التناقض. لكن هذا التوجّه له علاقة، ربّما، بالمتغّيرات المجتمعية التي شهدتها الجزائر في هذه المرحلة، والتي جعلت الفرد الجزائري أقلّ ارتباطاً بمحيطه؟ - انزواء الأفراد وانفصالهم عن محيطهم الاجتماعي، أو ما يُسمّى بالنزعة الفردانية، ظاهرة موجودة في الغرب أكثر من وجودها في المجتمعات العربية. بالنسبة لنا، للأمر علاقة من جهة بالرغبة في التوفير الاقتصادي من خلال تقليص عدد الممثّلين وتبسيط الديكور، ومن جهة أخرى بنرجسية الممثّل التي تجعله يرغب في الاستحواذ على أضواء الركح لوحده. المهمّ أن المفارقة تكمن في أنّ التوجّه إلى هذا الشكل الأحادي تزامن مع التوجّه العام نحو التعدّدية، وبطبيعة الحال فإن الحوار لا يمكن أن يتمّ بشكل أحادي بل يتطلّب وجود عدّة أطراف، كما أن المشاكل التي عجزنا عن حلّها بطريقة جماعية لن نتمكّن حتما من حلّها بطريقة فردية، وأعتقد أنّ هذا يتماهي مع الحكم الفردي في المجتمعات العربية. بالعودة إلى مجال الطفل، أين تضع فنّ التهريج في الجزائر؟ - هناك اختلاف حول موضوع الضحك، عندما يكون الجمهور المستهدف هو الطفل. من المؤكّد أن الضحك ضروري، لكن لا ينبغي أن يصل الأمر إلى حدّ السخافة والابتذال والتهريج بمعناه السلبي، وهو استسهال ناتج عن عجز عن التعبير عن المواقف الصعبة حتّى بطريقة كوميدية، رغم أن الكوميديا أيضاً بإمكانه التعبير عن أصعب المواقف وأكثرها حزنا ومأساوية. ما الذي تقترحه من أجل أن يصل مسرح الطفل إلى واقع أفضل؟ - أدعو إلى تأسيس مسرح للطفل، إلى أن نعمل على الوصول بالممارسات الفردية والمبادرات الفردية إلى حالة تشكّل تجربة متجانسة، وذلك يبدأ أوّلا بإنشاء فرق مسرحية وخلق فضاءات خاصة بمسرح الطفل. فيم يكمن الاختلاف بين القاعات الخاصة بالطفل وغيرها من قاعات العرض؟ قاعات الأطفال تتميّز بديكور بسيط وجذّاب وجوانب تقنية خاصة كالإضاءة وغيره، في حين قد يشعر الطفل بالارتباك في الأوبرا التي يشعر فيها بأنه ليس في مكانه المناسب. رغم ذلك، فالمسرح هو الذي يجب أن يذهب إلى الطفل وليس العكس، وهذا ليس أمرًا صعبا بالمناسبة، إذ يمكن توفير فضاءات مسرحية في أماكن تواجد الأطفال كالمدارس مثلا، حيث يسهل وضع منصّات متنقّلة. المهمّ أن تتوفّر الفكرة والإرادة والرغبة في تحبيب المسرح للطفل ونشر ثقافته. كل المجتمع، وكل الفاعلين في الحركة المسرحية مدعوين لممارسة مسرح الطفل، ليس فقط لأن الدولة تدعمه، لكن اقتناعا وحبا واحترافا.