ساهمت عدة أمور في تأزيم مسارات الانتقال نحو الديمقراطية في أعقاب ثورات 2011، ومن هذه الأمور تصور البعض أن هذا الانتقال لابد أن يكون إلى شكل معين من أشكال الديمقراطية، هو الديمقراطية الإجرائية القائمة في الغرب حسب ما يعتقده هؤلاء. قام بهذا العمل الكثير من الباحثين الغربيين ومراكز البحوث الغربية، وذلك باعتبار أن الديمقراطية الغربية هي النظام السياسي الوحيد الصالح لكل البشرية، وأنه يمكن تصديرها كوصفة جاهزة. وتبع هؤلاء للأسف الكثير من الباحثين والممارسين العرب تأثرا بما هو شائع. هذا الأمر مليء بالألغام والمغالطات؛ ويستهدف هذا المقال إيضاح بعض التداعيات التي ترتبت على هذه المغالطات استعدادا لجولات قادمة لمسارات الانتقال، عندما تستعيد الثورات العربية عافيتها. .. معالم الديمقراطية وتفاصيلها أضاعت محاولات تصدير الديمقراطية كوصفة جاهزة على الناس التفكر وإعمال العقل عند بناء النظام الديمقراطي، لأن الكثير منهم تصوروا أن هناك صندوقا به كل التفاصيل، بينما الحقيقة هي أن التفاصيل يصنعها بُناة كل نظام استنادا إلى ما يفرضه واقعهم من تحديات، وما يريده الناس من مطالب مع الاستفادة بلا شك من إنجازات الآخرين. لا يوجد تعريف جامع مانع للنظام الديمقراطي، أي تعريف يضم كافة تفاصيله؛ لكنْ هناك تعريف عام للمعالم الرئيسية له، والتي بدونها لا يمكن وصف نظام سياسي ما بأنه ديمقراطي، أما التفاصيل فتتغير بتغير الدول وأوضاعها والتحديات التي يواجهها كل مجتمع. لا تعني المعالم الرئيسة العامة حكم الأغلبية وإقرار الحقوق والحريات في الدساتير فقط، فهذا تعريف ناقص ومجتزئ؛ بل تضم المعالمُ الرئيسة للديمقراطية -كنظام للحكم- أربعة أمور على الأقل، أولها “سيادة المؤسسات المنتخبة على غيرها من المؤسسات غير المنتخبة، باعتبار أن المؤسسات المنتخبة تعبر عن إرادة الشعب الذي اختارها”، ومن هنا جاءت فكرة “سيادة الشعب”. وهذه الفكرة الأخيرة لا علاقة لها بفكرة “سيادة الله” كما كتبنا من قبل؛ ففكرة “سيادة الله” تعني باختصار شديد أن الله -عز وجل- هو خالق الكون كله ومدبره، أما فكرة سيادة الشعب فتعني باختصار أيضا أن الحكام يأتون ويستمرون برضا المحكومين، وليس غصبا أو قهرا أو وراثة، وأن هناك تعاقدا مقيدا بضرورة التزام الحكام بالدستور والقانون. ولهذا فالمعلم الثاني هو أن سيادة الشعب والمؤسسات المنتخبة ليست سيادة مطلقة، لأن هناك مبدأ “حكم القانون” الذي تجسده الدساتير والقوانين المستمدة أساسا من المرجعية العليا، التي تتمثل بدورها في القيم العليا والمبادئ الأساسية للشعب، والتي تشكل هُويته الجامعة ولا يمكن لا للدستور ولا القانون أن يخرقها. وتلعب هيئات مستقلة (هي القضاء) دور الحَكَم إذا ما رُفعت دعاوى ترى أن قرارا ما قد خَرق القانون، أو أن قانونا ما قد خرق الدستور، أو أن تعديلا دستوريا ما قد يخرق مرجعية الدستور والقانون. وعادة ما تنص الدساتير -في ديباجاتها أو في موادها المختلفة- على تلك القيم والمبادئ التي تمثل المرجعية العليا؛ ففي الدساتير الغربية إشارات عدة إلى الأفكار الكبرى للمذهب الليبرالي المستمدة من فلسفات القرنين 17 و18 الميلاديين، وفي الصين وكوريا الشمالية هناك الماركسية كأيديولوجيا رسمية، وفي إيران هناك الفكر الشيعي… وهكذا. وعبر التاريخ تشكلت كل أنظمة الحكم من مرجعيات وأفكار ومن مؤسسات وإجراءات، منذ الحضارات القديمة الفرعونية والسومرية والإغريقية والرومانية، مرورا بالإقطاع والملكيات المطلقة في العصور الوسطى، وانتهاءً بزماننا هذا. ثم يأتي بعد هذا المعلمان الثالث والرابع، وهما فكرة المواطنة ومساواة الجميع أفرادا وجماعات في التمتع بالحقوق والحريات والالتزام بالواجبات، دون تمييز على أسس عرقية أو دينية أو مناطقية أو لغوية. وفكرة تمكين المجتمع والشعب من المشاركة السياسية والعمل العام عبر سبل مختلفة دون قيود، عدا تلك التي ترد في الدستور والقانون لتنظيم المشاركة وليس تقييدها.
هذه هي المعالم الرئيسة؛ أما التفاصيل وكيفية تنظيم كل بند منها فمتروك لكل مجتمع حسب أوضاعه الداخلية، ولهذا اختلفت طرق تنظيم السلطتين التشريعية والتنفيذية وظهرت أنظمة مختلفة (البرلماني والرئاسي والمختلط)، واختلفت بنية البرلمان (برلمان بغرفة واحدة أو غرفتين)، واختلفت الأنظمة الانتخابية، وتعددت طرق تنظيم الأحزاب. بل واختلفت طرق تنظيم كيان الدولة ذاتها (الدولة البسيطة المركزية ذات مركز السلطة الواحد، والدولة البسيطة اللامركزية التي بها سلطات بلدية، والدولة الاتحادية (الفدرالية) التي ينظم دستورها ممارسة السلطة بين سلطة فدرالية بالعاصمة وسلطات بمكونات الاتحاد من ولايات وكانتونات ومقاطعات). وبالإجمال لا يوجد نظامان متطابقان، فالنظام البرلماني في الهند يختلف في تفاصيل كثيرة عن نظيره البرلماني في إسبانيا… وهكذا. .. الديمقراطية ومرجعياتها محاولات تصدير الديمقراطية ربطت أيضا بين الديمقراطية والفلسفة الليبرالية، وهذا الربط أحدث بدوره توترات جمة بين مختلف التيارات السياسية في دولنا العربية، بسبب عدم فهم الكثيرين لدلالات المصطلحات المختلفة، وغاب عن هؤلاء الكثير من الأمور. فالكثير من القيم الليبرالية الكبرى هي -في حقيقتها- قيم إنسانية عامة، كقيمة الحرية ذاتها. كما أن هناك جذورًا للديمقراطية خارج الحضارة الغربية المعاصرة، فحكم القانون مورس في الدولة الإسلامية الأولى قبل أن يكتب عنه فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر بألف سنة على الأقل، والمشاورة والتداول في القرارات عرفته حضارات كثيرة في العصور القديمة والوسيطة. والجانب المهم في الحضارة الغربية المعاصرة يكمن في الإضافة إلى تلك الأفكار القديمة، ثم في تقنين وتنظيم العديد من الممارسات السياسية، كتنظيم الانتخابات والبرلمانات والهيئات القضائية وتنظيم العلاقات بينها وغير ذلك. وكما كتبنا سابقا؛ فإن الديمقراطية ليست مذهبًا سياسيًا، وليس ضروريا ربطها بأيديولوجيا محددة. نعم ارتبطت الديمقراطية بالليبرالية في الغرب، بيد أن هناك أشكالا متعددة للديمقراطية خارج العالم الغربي الليبرالي، وهناك تبادل تأثير وتأثر بين ديمقراطيات اليابانوالهند مثلا والديمقراطيات الغربية، وهناك ديمقراطيات اجتماعية تُعلي قيم العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. هذا فضلا عن أن انتشار الديمقراطية -بعد موجات التحول الأخيرة- أثبت أنها قادرة على التعايش مع ثقافات لا تستند إلى الفكر الليبرالي فقط، كتجارب الديمقراطية بالهندواليابان وأميركا اللاتينية وغيرها. وفي الإجمال؛ تثير مسألة مدى تأقلم الديمقراطية مع أيديولوجيات وثقافات أخرى -غير الليبرالية الغربية- الكثيرَ من القضايا البحثية، وقد عولجت في عشرات الكتب ومئات البحوث والدراسات، واختلف بشأنها العشرات من الباحثين. .. الديمقراطية ونتائجها من التوترات الأخرى خلْط البعض بين النظام الديمقراطي ونتائجه المتوقعة أو المتخيلة. لقد اهتم العديد من القوى السياسية بما يريدون تحقيقه من غايات، بدلا من الاهتمام بمبادئ وتفاصيل النظام السياسي الذي يمكن أن يحقق هذه الغايات. فعلى سبيل المثال؛ كان من أوجه إخفاق القوى الاحتجاجية الشبابية التي قادت عمليات التعبئة في ثورات 2011 الاكتفاء بمطالبة الآخرين بتنفيذ مطالب الثورات من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية، وعدم اهتمامها بامتلاك القدرات الفكرية والتنظيمية للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها أثناء إدارة المراحل الانتقالية. أما بعض القوى الإسلامية فكان اهتمامها الأساسي مستمدا من خوفها من أي نتائج محتملة لبرلمان حر قد يقنن ما يخالف الشريعة. وهناك قوى خافت من أن تؤدي سيطرة أحزاب معينة على البرلمان إلى اقتصاد نيوليبرالي يعمل لصالح الأقلية ويسحق غالبية فئات المجتمع. أما القوى الإقليمية والدولية فقد خافت هي الأخرى من أن أي ديمقراطية حقيقية ستقيم دولة الشريعة الإسلامية من وجهة نظرها، وخافت أيضا من اتحاد دول المنطقة وتغيير المعادلة القائمة على هيمنة الغرب وضمان أمن الدولة الصهيونية. وكان طبيعيا أن ينتج عن التوترات السابقة شعور قوي من التشكك وعدم الثقة -على مستوى النخب والجماهير العربية- تجاه أي حديث خارجي، وخاصة من الغرب لصالح دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهناك دوما شكوك في الدوافع الخفية للسياسات الغربية، وهي شكوك لا ترتبط بالماضي الاستعماري البغيض فحسب، وإنما أيضا بأمور أخرى كسياسات الهيمنة الغربية، ودعم دولة الأبارتيد العنصري بفلسطين المحتلة. هذا إلى جانب أزمات الديمقراطية ذاتها في عقر دارها، كتصاعد نفوذ المال السياسي الموجه في الانتخابات، وتعاظم الأدوار التي تقوم بها جماعات الضغط واللوبيات والأجهزة الأمنية وغير ذلك.
ومن الأمور المهمة أيضا الربط بين برامج الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وبين التدخل الخارجي والأجندة الاستعمارية من قبل بعض النخب الحاكمة والقوى المتحالفة معها، ومن ثم تعبئة مواقف شعبية معادية للديمقراطية باعتبارها شكلا من أشكال التدخل الخارجي. هذا بلا شك يختلف عن التدخل الغربي في مناطق أخرى كشرق أوروبا، وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، لصالح الانتقال الديمقراطي الذي تم استقباله بترحاب، الأمر الذي سهّل عمليات الانتقال. أخيرا؛ لا مفر أمام قوانا ونخبنا الحية في عالمنا العربي من الاستمرار في مناقشة كل هذه الأمور، حتى يمكن الوصول إلى “إجماع وطني عام” على نظام الحكم البديل والمطلوب والممكن تحقيقه في هذه اللحظة التاريخية، بمرجعيته العليا ومؤسساته وضماناته المختلفة، بجانب طريقة الوصول إليه. الجزيرة نت