مهما كانت المبررات التي تقدم هنا وهناك حول معارك اليوم الخاسرة كليا، تظل الطائفية والعنصرية والإثنية المغرقة في نفيها للآخر المختلف والعنصرية في الوطن الواحد أكثرها خطرا على وحدة البلاد واستمرار الدولة إن عاجلا أو آجلا. ويتضح ذلك أكثر في الأزمات الحادة، حيث تتموقع كل مجموعة في مكانها ولا تتوانى، تحت ضغط الخوف، أن تطلب المساعدة من غرب غير الغرب الذي نتخيله، جوهر ممارساته اليوم استعماري ومصلحي، لا يهمه في النهاية إلا شأنه المباشر لحل أزماته المتفاقمة، والذي يغلفه بالحاجات الإنسانية بوصفه حاميها، ولا يشغله بعدها أن قتلت الملايين، كما حدث في العراق، بهدف ظاهري هو الانتهاء من الدكتاتورية وتوقيف البرنامج النووي المهدد للإنسانية، وفرض الديمقراطية، وأي ديمقراطية؟ لم يعش الشعب العراقي تفتتا داخليا وطائفية قاتلة ومدمرة مثل تلك التي عاشها في فترة الاحتلال الأمريكي. وعندما تتغلغل الطائفية والعرقية في كيان المجتمع تصبح مثل السرطان، كل شيء يأكل بعضه بعضا لغاية الإفناء. وباء شديد الفتك والخطورة، إذا أصاب المجتمعات الحديثة يفتت النسيج المجتمعي الذي أنجز عبر القرون في بلد من البلدان. كثيرا ما يتم الارتكاز على الطائفية أو الإثنية والعرقية كحل لمشكلات أخفقت الدولة العربية الحديثة في حلها، ويتم تسويغ ذلك ثقافيا بمختلف الحجج والمبررات التي لا تعمل في النهاية إلا على تعميق الشقة داخل الشعب الواحد. ويعتمد سدنة النظريات الانفصالية، طائفية كانت أو عرقية، أو حتى لغوية، على كل ما يمكن أن يبرر حججهم، وكأن ذلك هو الحل الأوحد، ولا حل في النهاية إلا بالمرور عبر طاحونة الحرب الأهلية المدمرة والعداوات الأزلية. بالمقابل تختصر الأنظمة العربية الدكتاتورية في بنيتها التاريخية، المشيدة أساسا على الاستبداد الشرقي، بتوجيه أصابع الاتهام للمجموعات المؤيدة للحلول السهلة متهمة إياها بالتخريب والعمالة والتبعية وتدمير الوحدة الوطنية، وتنسى هذه الأنظمة العربية أنها كانت وما تزال هي أول من جعل هذا النسيج هشا، ومنعت كليا أي تفكير في معضلات البلاد ديمقراطيا، بأن جعلت- بممارساتها العنصرية- قطاعات كبيرة من الشعب أباتريد apatride، أي بلا وطن، على الرغم من أن هذه الأقليات تحملت كل الإهانات، وعاشت على تلك الأراضي قرونا، ومنحتها كل ما تملك من طاقة ثقافية ومعرفية. آلاف المواطنين، بل الملايين، كشفت الثورات العربية كيفما كانت مآلاتها، عن حالات درامية، يعيشون كما عاش آباؤهم وأجدادهم في وطن لا يعترف لهم بأي حق، فظلوا معلقين في الهواء كأجراس الكنائس القديمة، لا هم أبناء أرضهم التي يعيشون على ترابها، ولا هم أبناء الأرض الأولى التي تسببت في نفي أجدادهم بسبب الحروب القاسية. حالة أسطورية خرافية لا يمكن تصديقها، الأجداد الأوائل تماهوا في الأرض الجديدة وحاربوا من أجلها، وماتوا وهم يدافعون عنها، على أمل أن يكبر أبناؤهم في حضن الأرض التي ولدوا وكبروا فيها مع أبنائهم وأحفادهم في سلم تام وتسامح ثقافي، على الرغم من أنهم كثيرا ما منعوا من ثقافتهم الأصلية ولغتهم. بدون مفهوم صحيح للمواطنة وتسبيقها على كل شيء، تظل الأوضاع العربية هشة وتنذر بتدمير ما بقي واقفا على الرغم من الهزات العنيفة. متى نصل إلى فكرة، أنا جزائري أو مغربي أولا، وبعدها أمازيغي، مسلم أو مسيحي أو يهودي، أنا عراقي أو سوري، أولا وبعدها عربي، أو إيزيدي سرياني، أو كردي، أو غير ذلك من المكونات؟ المواطنة هي الحامية للتفتت، لكن المواطنة ليست كلاما عاما بلا قواعد، فهي محكومة بالحلول الديمقراطية لكل المعضلات المجتمعية، وطبيعي أنه في غياب المواطنة الحقيقية تصبح الطائفية أو الإثنية والعنصرية، وحتى الدين الذي وجد ليجمع لا ليفرق، ملجأ للاحتماء من طغيان الأغلبية التي ترى أن لها الحق في كل ممارساتها، ويصبح الآخر، مواطن البارح، عدوا وربما عميلا تجب إدانته وربما محاكمته والدفع به نحو اليأس والعدمية. هويتي ليست في كوني سنّيا أو شيعيا أو كرديا أو شركسيا أو أمازيغيا أو كرديا، أو غيرها من المكونات الفرعية، ولكن في كوني أنتمي إلى وطن يوفر لي كل سبل الحماية. هذه التمزقات تضحي بالوطن لحساب الطائفة أو الإثنية. وهذا يمكنه أن يشعل اليوم الفتن ويشعلها في كل مكان من الخارطة العربية. إذا كانت البلدان المغاربية قد نجت من الطائفية الضيقة والمقيتة، لن تنجو بسهولة من إثنياتها المترسخة التي تستيقظ بقوة، والناتجة في الأصل عن قهر الدولة الوطنية وممارساتها الخاطئة طوال قرن مضى. الأرض العربية خصبة لهذه الممارسات القاتلة، والطائفية تخترق المجتمع العربي بالطول والعرض والعمق منذ لحظة تكونه، إذ في جزء مما فعله الغرب الاستعماري، بعد الحرب العالمية الأولى، خلق عالما عربيا مفصلا على المقاس، غير قار، وفرض عليه نظما كان الغربي يرفضها على أرضه. ليست بلاد الشام إلا نموذجا حيا لهذا التقييم الذي ما يزال عرب المنطقة يدفعون ثمنه الصعب. تأمل بسيط لصراعات المنطقة بمختلف تلويناتها السياسية والإثنية والطائفية يعيدنا حتما إلى هذه الحالة البترية التي مارسها اتفاق سايس- بيكو السري، في أفق خطير يهدف إلى تدمير البيت العربي الذي كان يمكنه أن يتحول إيجابيا على أرض موحدة، ولكنه كان من الصعب في ظل تفكك الإمبراطوريات التقليدية: الفرنسية، والبريطانية، والألمانية النمساوية، والتركية، وانتقالها إلى الممارسة الاستعمارية المباشرة، ليس فقط للاستيلاء على الموانئ والبحار، ولكن أيضا الخيرات والانتقال نحو الطاقة الجديدة التي جعلت من النفط سلاحا استراتيجيا، من يملكه ملك العالم. ولا تهم وسائل الامتلاك، تقطيع الأرض، إدخال أبناء الأرض الواحدة في صراعات دينية لا تنتهي بين مسيحي ومسلم ويهودي، قبل أن تزيد هذه الآلة الاستعمارية عملها على المكونات الداخلية للإنسان العربي، فكانت الطائفية آخر مبتكراتها الفتاكة، وكل جهة تعطي لنفسها الحق، ونسي الجميع أنهم أبناء وطن واحد، ولا خيار لهم إلا الدولة المواطناتية الجامعة والمعترفة بالخصوصيات الجهوية والتاريخية لبناء وطن سلمي محمي قانونا، ينتمي له الجميع بلا خوف عليهم أو على أولادهم وأحفادهم. لا مسلك آخر في النهاية لضمان السلم إلا هذا. القدس العربي