قد يخال المرء، من فرط معاينته للصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية في البلاد العربية، أن المجتمعات العربية والإسلامية، وبعضاً من تلك التي تشبهها في الجنوب، وحدها تتفرد ببنية اجتماعية فسيفسائية غير اندماجية، وأن البنية هذه هي التي تقود اجتماعياتها إلى هذه الضروب من النزاعات الأهلية التي يهتز بها استقرار بلدانها، وتقود – فيما تقود إليه- إلى انقسام في الدولة والكيان لا في المجتمع فحسب، والاعتقاد هذا يقترن، عند أصحابه، بآخر مفاده أن مجتمعات الغرب مختلفة التكوين، بدليل ما تتمتع به من منعة داخلية ( وحدة وطنية) وسلم مدني واستقرار سياسي، على الرغم مما يعتمل في جوفها من صراعات طبقية وخلافات سياسية ونزاعات على السلطة بين السياسيين، وعلى الرغم مما يعصف بدولها من أزمات اقتصادية وأمنية…إلخ. والحق أن الاعتقاد هذا خاطئ لا دليل عليه من مجتمعات الغرب؛ ذلك أن هذه المجتمعات – كما تفيد عنها الدراسات السوسيولوجية والسياسية، التي ينجزها باحثون غربيون، وكما تفصح عنها الإحصائيات الرسمية للسكان وتوزيعهم الديني والطائفي والأقوامي واللغوي – تشهد على أشكال من التكوينات الاجتماعية الفرعية نظير تلك التي في مجتمعاتنا. بل هذه حال أي مجتمع من مجتمعات العالم برمته؛ إذ ما من بلد في الكون يتمتع بكيان اجتماعي متجانس، أو لا وجود للتمايزات الدينية والطائفية والمذهبية والمناطقية والثقافية واللغوية فيه، وافتراض مثل هذا المجتمع لا يعدو كونه ضرباً من الخيال. بل نذهب أبعد من ذلك إلى القول إن بعض مجتمعات الغرب – وكثيراً من مجتمعات العالم – تتجاوز في تكويناتها الاجتماعية الفرعية ما في مجتمعاتنا من تكوينات. ولو أخذنا الولاياتالمتحدة مثالاً – وهي أكبر بلد يتمتع بالاستقرار والحريات والرفاه في العالم – فسنتبين أن هذا البلد تشكل مجتمعه من مزيج من المجتمعات الأصلية والمستعمرة والمهاجرة، وأنه يحتوي من التكوينات الفرعية ما لا حصر له: أديان مختلفة – توحيدية وغير توحيدية-؛ عشرات الطوائف والمذاهب؛ مجموعات سكانية متباينة الأصول القومية ومتعددة الألسن والثقافات ومنظومات القيم…إلخ. ومع ذلك، لم تشكل هذه الفسيفساء الأنثروبولوجية، يوماً، عبئاً على الدولة والمجتمع في أمريكا (أو في بريطانيا أو فرنسا أو روسيا)، مثلما هي عبء – أو أصبحت عبئاً- على مجتمع عربي أکثر «تجانساً» منها. هذا يعني أن المشكلة ليست في وجود، أو عدم وجود، بنية اجتماعية فسيفسائية متمايزة التكوينات، وإنما المشكلة في نوع الهندسة السياسية للدولة والنظام السياسي في هذا البلد أو ذاك؛ الهندسة التي تتصل ب- أو تنفصل عن- تلك البنية الاجتماعية؛ التي تنسج نسيجها من الروابط الفرعية أو من روابط أفقية عابرة للتكوينات الفرعية ومتعالية عنها. وبيان ذلك أن البيئة السياسية والاجتماعية التي وفرها نظام الدولة الوطنية الحديثة، في بلدان الغرب، تشهد على فاعلية عوامل الاندماج والتوحيد، وتمتين نسيج الانصهار الاجتماعي والوطني بين الجماعات الاجتماعية المختلفة؛ أياً تكن انتماءاتها الدينية والمذهبية والعرقية. إنها البيئة التي خلقتها روابط المواطنة وعلاقاتها؛ الروابط التي تميل إلى إلغاء فاعلية الروابط الاجتماعية الفرعية أو، على الأقل، خفض مفعولها في المجال العام، وتركها تعبر عن نفسها في الأطر الاجتماعية الخاصة. ومن نتائج ذلك أن المواطنة تنجح في تصنيع كيانية اجتماعية أعلى جامعة، هي الكيانية الوطنية، وفي إنتاج ولاء جماعي أعلى هو الولاء الوطني، في الوقت عينه الذي تضعف فيه التعصب الفرعي، وتحيد أي أثر له في الحياة العامة، فلا تترك للولاءات الفرعية من دور في النطاق الاجتماعي العام، ولا من قدرة على مزاحمة الولاء للدولة والوطن. لا تفعل الدولة في الغرب ذلك كله بالعنف، – ما خلا عنف القانون، وإنما بطمأنة الجميع على أن مصالحهم لا تتحقق إلا في الوطن وفي نطاق الدولة وقوانينها. لم تهتد بلداننا بعد في إنتاج هذا النظام السياسي- الاجتماعي المفتوح، لذلك ما زالت حياتها العامة أسيرة تأثيرات المجتمع العصبوي الانقسامي فيها. وليس من شك في أن بعضها خطا، خطوات ملموسة، في مجال التحديث السياسي أو الاجتماعي أو هما معاً، لكن المنجز، حتى الآن، غير كاف ويتهدده خطر الانتكاس أمام أي أزمة تعاود فيها العلاقات العصبوية الانتعاش والنفوذ، على مثال تلك التي فتحتها أحداث ك«الربيع العربي». وإذا كان من حسنات هذا «الربيع العربي» – الشديد السوء على الحاضر والمستقبل- أنه نبهنا إلى مركزية مسألة الاندماج الاجتماعي في أي مشروع للتوحيد الوطني ولبناء الدولة وترسيخ دورها في حياة المجتمع. من دون اندماج اجتماعي يعيد تصنيع كيانية وطنية عليا وجامعة، لا توحيد يمكن للشعب وللوطن، ولا قيامة تقوم للدولة، بل سيظل المجتمع والدولة والوطن تحت رحمة غرائز العصبيات حين تنفلت من العقال. ولقد رأينا، ونرى، منذ حرب لبنان الأهلية واحتلال العراق واجتياح الميليشيات «الجهادية» للأوطان، كيف تعيش العصبيات ازدهارها، وتكتسح المجال العام، وتعمل فيه فتكاً ونهشاً كلما سقط نظام الدولة؛ بل رأينا كيف تصبح العصبيات تلك حصان طروادة للقوى الأجنبية: الدولية والإقليمية، تسخرها ضد مجتمعاتنا ودولنا، باسم حقوق الإنسان وحقوق «الأقليات» وما في معنى ذلك!. الخليج الإماراتية