«البربرية: دليل استخدام»: هذا ما اختاره المؤرخ البريطاني الراحل اريك هوبسباوم (ت 2012) كعنوان لمحاضرته في ندوة منظمة العفو الدولية «آمنستي» عام 1994. ثمّة في هذا العنوان، وفي هذه المحاضرة، عناصر من شأنها أن تسعف زاوية النظر في حركة الإحتجاج والعصيان الحادّة التي فجّرها مقتل الأفرو – أمريكي جورج فلويد في مينيابوليس، وانتشار التسجيل الفاضح لسلوك الضابط الهمجي ديريك تشوفين الذي استمرّ في الضغط على عنق فلويد غير آبه بما كان يردّده بأنّه ما عاد بإمكانه التنفّس. في زحمة الإسقاطات والمصادرات على الحدث الأمريكي المشحون الذي لا ينفك يتوالى أمام أعيننا، قد تكون العودة لمحاضرة هوبسباوم هذه فرصة لإلتقاط الأنفاس، أكثر منها تسويغاً للحاجة إلى القيام بإسقاطات ومصادرات إضافية. لقد ذكّر المؤرّخ في محاضرته تلك منظمة العفو أنّها أوّل ما انشأت عام1961، كانت الغاية منها حماية السجناء السياسيين وأولئك المتهمين بآرائهم ومعتقداتهم، وأن مؤسسي المنظمة انتابتهم الدهشة من ثمّ، بأنّه يتوجّب عليهم التركيز كذلك الأمر على أعمال التعذيب من قبل حكومات أو أجسام رديفة للحكومات في البلدان التي ما كانوا يتوقّعون أبداً استمرار هذه الأعمال فيها، وعلى نحو ممنهج. أكثر من هذا، يستعين هوبسباوم بتقارير لآمنستي نفسها تظهر أنّه في الفترة نفسها التي كانت فيه أعمال التعذيب المرتبطة بالمرحلة الستالينية تندثر في الإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، أخذت الظاهرة تتخذ بعداً غربياً بالفعل. ويلفت هوبسباوم إلى مفارقة هنا، وهي أنّه منذ نزع الستالينية بالإتحاد السوفياتي أواخر الخمسينيات، فإنّ الأنظمة المحكومة بأحزاب شيوعية في أوروبا الشرقية، على هشاشتها وافتقادها شيئاً فشيئاً لأسباب البقاء، إلا أنّها لم تكن بحاجة لأكثر من استخدام محدود وموضعيّ، بل رمزي، للقمع المسلّح، لأجل الإستمرار حتى نهاية الثمانينيات، في حين أن الفترة ما بين منتصف الخمسينيات ونهاية السبعينيات شكّلت «الحقبة الكلاسيكية للتعذيب في الغرب». هذا بخلاف الإتجاه السائد في القرن التاسع عشر. مأمور الشرطة فيدوك، الذي حوّله بلزاك إلى شخصية «فوترين» في رواياته، كان بمستطاعه أن يرتكب كل الموبقات، لكنه ما كان يمارس التعذيب. الأوضاع تبدّلت في القرن العشرين، ليس فقط في ظلّ نهضة التعذيب مع الستالينية والفاشية والنازية، وديناميات التعذيب في المستعمرات وفي فلك الحروب الإستعمارية، بل ان التعذيب صار أكثر منهجية وارتباطاً عضوياً بجهاز الدولة في الديمقراطيات الغربية، في فترة الحرب الباردة، وقد وجد هذا التعذيب في مكافحة الأعمال المتطرّفة والتمرّدية لأقصى اليسار مسوّغاً له، مثلما وجد ذلك في السياسات الاستعمارية الداخلية، لأجل «الحفاظ على النظام» في أحياء السود في الولاياتالمتحدة، أو في الضواحي ذات الكثافة المغاربية في فرنسا. في هذه المحاضرة المقدّمة قبل ربع قرن، يربط هوبسباوم «رجعة التعذيب» في الغرب بما يسميه التقهقر مجدّداً نحو «البربرية». وليس عن تهاوي معمّم في الهمجية الشاملة يجري الحديث هنا، بل عن انقلاب على المثل التي حملها مشروع الأنوار، بما يعنيه من اعتماد نسق كوني لقواعد ومعايير السلوك الأخلاقي. أما سبب عدم تقديم هوبسباوم هذه الرجعة القهقرى نحو «البربرية» كسقوط شامل فيها، فمردّه اقتناعه بأنّ القيم الموروثة عن الأنوار لا تزال تمتلك قوة تحول دون ذلك، وأنه، أيّاً كان منسوب الصحّة والدقة في الحكم على ما تضمّنه مشروع الأنوار من تسطيح أو سذاجة أو امبريالية ثقافية غربية، الا أنّ الأنوار منحت قوة دفع غير مسبوقة لتهذيب السلوكيات بين البشر. ثمة من ناحية موقف فيه فائض ذكورية «أبوية» يريد للمحتجين أن يكونوا مهذبين أو يمضي للتعامل معهم بعين التجريم ليس إلا، وثمة من ناحية ثانية فائض ذكورية «ماتشو« يعزل «جمالية التخريب» عن كل سياق اجتماعي وسياسي وثقافي، ويريد منها أن تشبع نهمه الرغبوي إلى فكرة مبهمة عن التمرّد على الأنساق القائمة بيدَ أنّ هوبسباوم لم يحصر هذا الارتداد عن الأنوار، بالدول القائمة والطبقات المسيطرة. ألقى باللائمة أيضاً على المآلات العملية للتفكير الذي ساد في أوساط اليسار المتطرف العنيف والحركات التمرّدية، في المرحلة التي شهدت وصول الحركة العمالية، بأحزابها ونقاباتها، إلى مأزق شامل وتعطّل متزايد. بدلاً من تجذير وتوسيع الإستقطاب على أساس طبقي – جماهيري مراكم، قالت هذه الحركات، وأبرزها «الألوية الحمراء» في ايطاليا بأنّ الدولة الليبرالية تخفي نواة فاشية، وأن نجاحها باخفاء هذه النواة يترتب عليه تخدير الطبقات الشعبية، وبالتالي الحل الوحيد لإحياء التثوير في الغرب هو دفع الدولة الليبرالية إلى الخروج من ثيابها، واظهار مكنونها الفاشي، بما من شأنه دفع الجماهير المستكينة لدعم التمرّد. يقابل هوبسباوم بين هذه الاستراتيجية، وبين موقف فريرديك انجلس في القرن التاسع عشر، عندما أدان وضع الفنيانز الايرلنديين، وهو كان متحمساً لهم في العادة، لقنبلة في لندن عرّضت حياة المارة الأبرياء للخطر. يذكرنا هوبسباوم بأنّ انجلس، هذا المقاتل الشرس على متاريس ثورة 1848، والمهووس بالعلوم العسكرية وبالأسلحة، والمتحمس بلا هوادة ل«دور العنف في التاريخ»، كان مقتنعاً مع هذا بأنّ الحرب ينبغي أن تخاض ضد مقاتلين، وليس ضد مدنيين. يستنتج هوبسباوم بأنّ ما كان سائداً في القرن التاسع عشر، اندثر في القرن العشرين، سواء من قبل الثوريين أو الإرهابيين أو من قبل الحكومات، إلا أنّ نظرة المؤرخ البريطاني اليساري تبقى «محافظة» نوعاً ما هنا، طالما هو يعتبر أنّه في هذا التزاحم بين البربريات، بربرية الشرطة وبربرية العصاة، فإن قوى وأجهزة الدولة عندها كل الظروف لكي تكسب السباق، وأنّها تحوّل مكافحة الأنشطة التمرّدية إلى سبيل لتسويغ أشكال عديدة من تعليق حقوق الإنسان والحريات بالنسبة إلى فئات مصنفة «مهدّدة» لاستقرار النسق الديمقراطي الليبرالي. لا ينفصل هذا عن نظرة هوبسباوم التي لا ينفك يرددها في عدد من أعماله، من أن الرأسماليات المتطورة الغربية لم تواجه عملياً أي تهديد فعلي من على يسارها، بل أن المخاطر التخريبية الأساسية لها كانت تعاجلها من على يمينها (وهذه بحد ذاتها نافذة مثالية للنظر في ظاهرة ترامب). ثمّة محاولة حثيثة اليوم من جانب السلطات الأمريكية، والاستبلشمنت الإعلامي والثقافي بشكل عام، لاصطناع فارق «جوهراني» بين الاحتجاجات المقبولة وتلك المرذولة. وثمّة ضمن هذه المحاولة، بخاصة من طرف اليمين الشعبوي المحافظ اتجاه يراكم على ما مسعاه منذ سنوات لتجريم التوليفة اليساروية الفوضوية المختلطة المسماة «انتيفا» (حركات «العمل المباشر» ضد الفاشية)، ووصمها بالإرهاب، أو اطلاق العنان لحركات عنيفة مقابلة «الأنتي أنتيفا». ثمة من ناحية موقف فيه فائض ذكورية «أبوية» يريد للمحتجين أن يكونوا مهذبين أو يمضي للتعامل معهم بعين التجريم ليس إلا، وثمة من ناحية ثانية فائض ذكورية «ماتشو« يعزل «جمالية التخريب» عن كل سياق اجتماعي وسياسي وثقافي، ويريد منها أن تشبع نهمه الرغبوي إلى فكرة مبهمة عن التمرّد على الأنساق القائمة. في هذه الزحمة من الإسقاطات، تفيدنا العودة الى هوبسباوم لرؤية أن الحاجة الى تطوير «دليل استخدام» مفهوم البربرية لا تزال قائمة. في المقابل، ينبغي الاحتراز بعض الشيء قبل المضي في محاكاة موقف هوبسباوم من حركات اليسار المتطرف العنيفة التي عاصرها. لا ينفي هذا صحّة ما يقوله حول فرص الظفر الأكيدة في أي مواجهة تتم على قاعدة «التنافس بين البربريات»، للبربرية الأكثر استقراراً ومكنة، تلك التي تقودها أجهزة الدولة، لكن الأمور في قرننا هذا تحتاج إلى الإقرار أكثر بأننا أمام «هوشة» متنقلة بين بلد وآخر، هوشة لا يمكن المصادرة عليها بثنائية «الاحتجاج الحميد والتخريب المضرّ». هذه الهوشة المتنقلة والمزمنة على ما يبدو هي نتيجة» طبيعية» لوضع لم تعد فيه ثورات كاملة ممكنة في أي بلد على حدة ممكنة، وليس من الواضح فيه بعد كيف يمكن أن تقوم ثورة عالمية في كل البلدان. في هذه الهوشة يجتمع الشيء ونقيضه: مطالبة فئات اجتماعية وإثنية بحقها في المساواة الإندماجية بالنسق القائم، وبحقها في الإنفصال التام عنه في نفس الوقت. القدس العربي