يحظى تزفيتان تودوروف، الفيلسوف والنحوي البلغاري، المقيم في فرنسا حاملا لجنسيتها، بمكانة محترمة في أوساط المثقفين الفرنسيين، حتى أن باسكال بونيفاس وصفه بالمفكر الأكثر احتراما. وهو لا يقل أهمية عن ادوارد سعيد، حيث إن كليهما تناول الظاهرة الاستعمارية الغربية نقديا. بدأ تودوروف مشواره الفكري ناقدا أدبيا، وكان من المؤسسين لتيار الشكلانية الذي تخلى عنه في السنوات الأخيرة، بعد أن قدم لنفسه نقدا صارما في كتابه الشهير ''الأدب في خطر''، هذا الكتاب الرائع الذي يسعى لإعادة الاعتبار للحكاية داخل النص الروائي الفرنسي. ثم انتهى مفكرا إنسانيا مع مطلع التسعينيات، عندما شرع في تأليف سلسلة من الكتب التي تعيد النظر في المنظومة الثقافية الغربية، فانخرط في مساءلة الفكر الغربي، وأسس لفكر جديد ''خارج عن قيود العقائدية الفكرية'' التي نجدها عند أنصار اليمين الجديد في فرنسا وأمريكا. في العام 2006، نشر تودوروف مؤلفا مرجعيا على شكل محاولة، لتقديم مرجعية فكرية لغرب لم يعد يستمع لأجراس المثقفين، بعد أن أصيب بمزيد من الغرور عقب نكسة اليسار الستاليني. وكان هذا الكتاب الصادر بعنوان ''روح الأنوار''، بمثابة دعوة للعودة إلى فكر الأنوار الذي صنع مجد الثقافة الغربية، بل تجرأ على اعتبار أن الشرق هو المصدر الأساسي الذي أضاء الغرب. والأهم في هذا الكتاب، أن تودوروف وضع التنوير في سياقه التاريخي والإنساني، وجعله إرثا إنسانيا ليس حكرا على الغرب لوحده. واعتبر تودوروف أن الحملات الاستعمارية التي سبق له أن فضحها في كتاب سابق بعنوان ''نحن والآخر''، عبارة عن انحراف مقيت عن عصر الأنوار، وليست امتدادا له. وفي كتابه الحديث الصادر بعنوان ''الأعداء الحميمين للديمقراطية''، يعتقد تودوروف أن الديمقراطية أضحت تحتضر، رغم اختفاء أعدائها عقب انهيار المعسكر الاشتراكي. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفكر الغربي، برمته، قائم على فكرة ثنائية الخصم والعدو، وعلى الفكرة ''المانوية'' القائمة بدورها على فكرة ''الخير والشر''، فإن وجد العدو الشرير استقام حاله، وإن اختفى أحس بالخطر. فالرواية التي كتبها الإيطالي دينو بوتزاتي بعنوان ''صحراء التتار''، تُعبّر تعبيرا صادقا عن هذا الحال وتقدم صورة عن انتظار ''عدو لا يأتي''. أصبح الخطر الذي يهدد الديمقراطية، حسب تودوروف، يأتي من الداخل وليس من الخارج، وأعداؤها هم أبناؤها غير الشرعيين داخل المنظومة الليبيرالية نفسها. كما لم يعد للديمقراطية خصوم يثيرون النقاش حول مبادئها، حتى تجدد نفسها لتبقى حية وتتجنب الموت والنهاية، علما أن أهم العناصر الحضارية التي تدفع للتطور، حسب تودوروف، هو نقد الذات والتجديد، داعيا في كتابه ''روح الأنوار'' إلى خلخلة العقليات والسلوكيات من أجل بلوغ معنى وروح عصر الأنوار، والتي حددها في ما يلي: الاِسْتقلالية، وغائية الأفعال الإنسانية، ثم الكونية التي تعني الاِنتماء إلى الجنس البشري''. كما أن الديمقراطية تحتضر، حسب تودوروف، لأن واقعها في أمريكا أضحى مشبوها، ومحل سؤال، فالحرية المطلقة الموجودة مكّنت أصحاب رؤوس الأموال من التأثير على الحياة السياسية، ما يتناقض مع روحها. ووقف تودوروف، مرة أخرى، ضد العداء الشديد للديانة الإسلامية التي ملأت المخيال الغربي الذي يريد الدفاع عن خصوصياته الثقافية، رافضا فكرة الصدام، مفضلا روح التواصل. وإذا كان فوكوياما قد تحدث عن نهاية التاريخ، فها هو تودوروف يتحدث عن نهاية الديمقراطية. يعدّ كتاب تودوروف بمثابة الجزء الأخير من ثلاثية نقد الديمقراطية الغربية، وهو مسار فكري بدأه بكتاب ''ذاكرة الشر.. غواية الخير'' سنة 2000، فأخذنا إلى عمق الفكر الغربي مع مطلع القرن العشرين، فاقترب من أعمال كامي وبريمو ليفي ورومان غاري. ثم جاء كتاب ''الفوضى العالمية الجديدة ''2003 و''الخوف من البرابرة'' (هذا الكتاب الرائع المليء بالإحالات الفكرية والفلسفية والأدبية). وفي العام 2008 نشر كتاب ''ما وراء صدام الحضارات''، ليقف بالمرصاد للفكر العنصري الغربي، معتبرا وصف الآخر بالمتوحش، بمثابة اعتداء على فكر الأنوار.