بينما كانت أخبارُ الوباء الفيروسي، في آخر تطوراته وتبدلاته تستحوذ على وسائل الإعلام الدولية، قفزتْ إلى السطح أخبارُ مقتل رئيس دولة صغيرة في الكاريبي – هايتي – اغتيالاً بالرصاص، على يد مجموعة من المرتزقة، تبين أنهم من كولومبيا، ومن ضمنهم، أميركيان من أصول هايتية. عام 2021 لم ينته بعد، وإلى حد الآن، شهد العالم مقتل رئيسين تفصل بينهما فترة زمنية قصيرة. أولهما الرئيس التشادي إدريس ديبي يوم 19 أبريل (نيسان)، من جراء إصابته بجروح في اشتباكات حربية، شمال العاصمة أنجمينا، أدت إلى موته. وثانيهما الرئيس الهايتي جوفيين مييس، الذي مات مقتولاً بالرصاص يوم الأربعاء الماضي، 7 يوليو (تموز) الجاري، في مقر إقامته بالعاصمة بورت أو برينس. قد لا يعرف كثيرون بوجود صلة تاريخية ومهمة بين ليبيا وهايتي منذ عام 1949 رغم بعد المسافات بينهما جغرافياً، وأن تلك الصلة كانت سبباً في سقوط مشروع الوصاية على ليبيا، التي جاءت في خطة مشروع عُرف باسم مشروع بيفن – سفورزا. المشروع من بنات أفكار وزير الخارجية الإيطالي، آنذاك، كارلو سفورزا. وتمكن من إقناع نظيره البريطاني إرنست بيفن بفكرة فرض وصاية على ليبيا من قبل إيطاليا وبريطانيا وفرنسا، على أقاليم ليبيا الثلاثة، بحيث تكون طرابلس الغرب تحت الوصاية الإيطالية، وبرقة تحت الوصاية البريطانية، وفزان تحت الوصاية الفرنسية. وقدم المشروع للجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت عليه يوم 17 مايو (أيار) 1949 وكان تمريره يتطلب حصوله على ثلثي أصوات الأعضاء الحاضرين وكانوا 58 مندوباً يمثلون بلدانهم. ومن ضمنهم كان حاضراً إيميل سان لو ممثل دولة هايتي لدى الأممالمتحدة. وكان صوت السفير سان لو هو الصوت الذي حسم الأمر، لدى تساوي الأصوات، بسقوط مشروع الوصاية، ومهد الأرض لاستقلال ليبيا. وعقب الاستقلال، وتقديراً وامتناناً من حكومة الملك الراحل إدريس الأول ملك المملكة الليبية المتحدة نحو دولة هايتي، أطلق اسمها على أحد شوارع العاصمة طرابلس. كما قامت الحكومة بتوجيه دعوة رسمية للسفير إيميل سان لو وحرمه لزيارة ليبيا، واحتفي بحضورهما رسمياً وشعبياً. الغريب، أن نظام العقيد معمر القذافي، رغم هوسه الدائم بتغيير أسماء الشوارع والميادين، نسي أو تجاهل تغيير اسم الشارع، وظل إلى يومنا هذا محافظاً على اسمه. اللافت حقا للاهتمام، أن ليبيا وهايتي، تمران في ذات الوقت، بأوقات عصيبة، ناجمة عن احتداد الصراع على السلطة في البلدين، مدفوعاً بتأثيرات التدخل الأجنبي. هل هي صدفة الأقدار؟ الغموض في هايتي يخيّم على الأحداث، كما يخيّم الخوف على عقول وقلوب المواطنين. ولم تعلن جهة داخلية أو خارجية مسؤوليتها عن الاغتيال. والتحقيقات لمعرفة من يقف وراءه تجري على قدم وساق، كما تؤكد التقارير الإعلامية الأولية، الأمر الذي يفاقم في تزايد مخاوف السكان البالغ عددهم 11 مليون نسمة، أكثر من ثلثهم يعيشون تحت خط الفقر، في بلد تتنافس وتتكالب على نهب موارده الاقتصادية القليلة نخبة سياسية صغيرة، ومنظمات إجرامية، ورجال أعمال. إدارة الرئيس بايدن في واشنطن وعدت بإرسال فريق تحقيق أمني اتحادي، يساعد في كشف ملابسات الحادث. ولم تستجب لطلب من رئيس الحكومة المؤقت في هايتي بإرسال وحدات أمنية تساهم في حفظ الأمن بالبلاد. لكن الشكوك، إلى حد الآن، تتجه نحو خصوم الرئيس السياسيين، وقادة العصابات الإجرامية، وبعضها تشير إلى قوى خارجية. آخر الأخبار أشارت إلى اعتقال طبيب هايتي الأصل مقيم في كاليفورنيا، قيل إنه المسؤول عن تجنيد المرتزقة الكولومبيين. عملية الاغتيال أثارت العديد من الأسئلة حول المستفيدين منها. فالرئيس المقتول كان مقيماً في دارة محاطة بحراسة مشددة. وأفراد الحراسات كانوا موجودين بالمقر، وتبين أنهم جميعا لم يصابوا بأذى. كما أن المهاجمين دخلوا المقر وقتلوا الرئيس وجرحوا زوجته، ولم يفروا هاربين كما هو متوقع، بل ظلوا في مسرح الجريمة. التقارير الإعلامية، سواء البريطانية منها أو الأميركية، تتحدث عن غموض مريب يحيط بالحادثة، وبعضها يشير إلى تورط أيادٍ خارجية. الكاتب الصحافي البريطاني ستيفن جيب يقول: العنف السياسي ليس غريباً على هايتي، لكن أسوأه كان منذ زمن بعيد، يمارس من قبل السلطة ضد شعبها، وليس ضد قادتها، حيث لم يمت أي من رؤسائها السابقين مقتولاً منذ عام 1915. ويشير تحديداً إلى أحد رؤسائها السابقين المشهور باسم (بابا دوك) الذي كان يقود بنفسه فرقة اغتيالات، إلا أنه مات ميتة طبيعية عام 1970. الأيام القادمة ستكون حُبلى بالتطورات في ذلك البلد الكاريبي الفقير. وسرعة تمكن الجهات الأمنية من كشف المسؤولين على اغتيال الرئيس قد تساعد على سرعة إغلاق الملف، والتحرك باتجاه عقد انتخابات رئاسية في شهر سبتمبر (أيلول) القادم كما هو مقرر. لكن يظل السؤال قائماً: هل حادثة اغتيال الرئيس ستكون الأخيرة من نوعها، أم الأولى في حقبة سياسية دموية جديدة؟ الشرق الأوسط