ما الذي يجعل الشعوب، سواء كانت عريقة الديمقراطية كبريطانيا وأمريكا أو مستحدثة الديمقراطية كالعراق، تختار لقيادتها، في العقد الأخير، خاصة، حكاما يتميزون بأنهم غير مؤهلين أما سياسيا أو أخلاقيا أو عقليا، أو كلها معا؟ هل هناك حاجة لقراءة التاريخ البعيد لمعرفة أسباب فوزهم في عملية باتت تُقدم باعتبارها الخيار الوحيد للشعوب لتفادي الدكتاتورية؟ وهل صحيح أن المصوتين يتماهون، بدرجة أو أخرى، مع شخصيات من يختارونهم من الفائزين؟ لندع « الفائزين» في بلداننا جانبا. فمفهوم «الديمقراطية» كما بات معروفا لشعوبنا، يتخذ أشكالا متعددة، ومواصفات تختلف من بلد الى آخر، عند التطبيق، وان قيل غير ذلك. ثم أن لدينا من النماذج الحاكمة في البلدان راعية الديمقراطية ما يكفي. ولعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هو المثال الأبرز، الذي وفر لآخرين، في جميع أنحاء العالم، نموذجا يُحتذى به لتخفيض مستوى المطلوب من القيادة. لقد كُتبت عن شخصية ترامب وفوزه وأسلوب أو لا أسلوب حكمه، كرئيس لأقوى دولة في العالم، ملايين المقالات، بالإمكان اختزالها، إذا أردنا استعادة ملامح شخصيته للمقارنة مع آخرين، بالقول بأنه لم يكن مؤهلا سياسيا أو اقتصاديا. كان يتحرش بالنساء، يسخر من المعاقين، يحتقر السود والأقليات واللاجئين. شعبوي يغازل رغبات الحشود. يشجع العنصرية كغذاء روحي للمتعصبين البيض. وحين تقتضي الضرورة، لاستقطاب المتطرفين دينيا، يتفاخر بقوله «لا أحد يقرأ الكتاب المقدس أكثر مني». تم وصفه بأنه خطر على العالم، جراء استجاباته السريعة المبنية على غروره وعنجهيته، وسرعته في إتخاذ القرارات بلا تفكير جدي، وانه خطر على أمريكا بسبب سرعته في توبيخ الناس، وإهانتهم والانتقام من منتقديه، بضمنهم مستشاريه. بعض ملامح هذه الصورة كانت معروفة قبل إنتخابه والبعض الآخر كان بالإمكان الاطلاع عليه عند مراجعة محطات حياته الشخصية والعامة، خاصة وانه كان معروفا بصيته السيئ في الأوساط المالية والإعلامية. فلم انتخبه الناس؟ والسؤال ذاته يستحق أن يُطرح لفهم « فوز» تيار سياسي ب« قيادة» شخص مثل (سماحة حجة الإسلام والمسلمين القائد السيد أعزه الله) مقتدى الصدر في انتخابات العراق، على الرغم من تاريخه الشخصي والسياسي المتخبط بين القرارات الارتجالية، والقفزات السريعة، من موقف الى آخر، المتناقض بين الخطاب الموعظي التحشيدي الشعبوي بعنوان الاستشهاد والمقاومة والانكفاء التوحدي. والمراوحة بين الغضب على أحد أتباعه وإنزال العقاب به أو تسريح الميليشيا التي يقودها باسم والده، أو إعادة تشكيلها تحت اسم جديد. ويمتد انكفاؤه، أحيانا، شهورا طويلة، في مدينة قم الإيرانية، بذريعة محاولة إكمال الدراسة الفقهية التي تؤهله، كما ذكر في آخر بيان له، لإصدار الفتاوى الدينية، أو كتابة الشعر، بالإضافة إلى إرساله تغريدات تضاهي تغريدات ترامب في نزقها وتدني المستوى العقلي لمرسلها. هناك، طبعا، أسباب عديدة ومتشابكة الى حد التعقيد لظاهرة انتخاب « قادة» غير مؤهلين. يأخذنا بعضها إلى دوافع المشاركة في الانتخابات أساسا لتحقيق فوز مرشح معين. من بينها الانتماء الحزبي أو الديني أو العائلي. وقد يكون الاعتقاد بأن التصويت هو الطريق الأسلم للتغيير، أو الدعم المالي والوظيفي الذي يوفره حزب لأتباعه، أو نتيجة الانصياع لضغوط إعلامية مكثفة تهدف الى «صناعة» موقف. كما يرى علماء الاجتماع والنفس أن فعل التصويت هو تعبير عن الانتماء إلى مجموعة أو التعبير «عمن أكون» فضلا عن الأحاسيس المثالية بأن من يُصوت هو مواطن صالح. مقابل ذلك، توصل عدد من علماء النفس، الى أن العقلانيين الذين يهتمون بأنفسهم، لا يعيرون الانتخابات أية أهمية ويرونها مضيعة للوقت. جوابا عن سؤال عدم الأهلية، وصعود اشخاص لا يستحقون موقع القيادة، يذكرنا من لم يصوت لهم، بأنه لم يتم انتخاب الشخص غير المؤهل من قبل كل الشعب، وأن أقلية متنفذة تملك المال والاعلام والسلاح استحوذت على الأصوات. وأن الناخبين يفضلون، عمومًا، السياسات ذات الحلول الآنية السريعة التي تساعدهم على حل مشاكلهم المعيشية وتعزز رفاهيتهم على حساب الحلول الاستراتيجية. بينما يذكرنا آخرون بأن للديمقراطية، أمراضها ومساوئها حتى في « أمهات الديمقراطية». ثم قد يكون الشخص غير المؤهل هو الأقل ضررا في حالة الفراغ الأخلاقي، وكما أشار أحد المعلقين أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية التي خاضها ترامب مقابل هيلاري كلينتون عام 2016 «لا يوجد مرشح رئاسي جيد أخلاقيا في هذه الانتخابات» وأن ترامب «مرشح جيد وإن كانت لديه عيوب». في تلك الحالة، حُسمت الانتخابات، من وجهة نظرهم، باختيار السيئ من الأسوأ أو أهون الشرين. ولا تخلو عملية الاختيار الديمقراطي من الانتقام العام. حيث يلجأ المواطن للتصويت ضد مرشح حزبه الذي طالما ناصره حين يُصاب بخيبة أمل في سياسة الحزب تجاه مسألة أو قضية يعتبرها مبدئية. أو تلجأ الجماهير للتصويت لصالح شخص لا ينتمي لأي حزب كان وغير معروف نسبيا انتقاما من الأحزاب المنشغلة بالفساد والمصالح الشخصية، وهو ما حدث في تونس، حين أُنتخب قيس سعيد رئيسا للجمهورية وبأعلى نسبة من الأصوات. وإذا كانت الديمقراطية قد وضعت حدا لديمومة حكم الرئيس، مهما كانت أهليته، فإنها أسقطت، في الوقت نفسه، وهم الرئيس – القائد بما يحمله من مواصفات تاريخية وبطولية تغذي مخيلة الجماهير على مدى عقود. وظهر رعيل جديد من الرؤساء، بمواصفات مغايرة لما كان مألوفا. فرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون المتقلب المواقف، الذي يتفوه بما يخطر بباله بلا تفكير، مهما كانت العواقب، لا يجد غضاضة في التراجع عما تلفظ به ضاحكا، مازحا. مرسخا صورته، وبالتالي دوره، كشخص يعيش اللحظة، بروح شبابية مرحة، وتسريحة شعر متطايرة، بعيدا عن كوابيس التاريخ الثقيلة التي طالما غلّفت حزبه، وبعيدا، بالتأكيد عن شخصية منافسه في الانتخابات جيريمي كوربن، رئيس حزب العمال، المبدئي الجاد. كان فوز جونسون نجاحا كبيرا للاستنساخ الأول لترامب. ولن تتوقف عملية الاستنساخ عند هذه النماذج بل تشير نتائج الانتخابات في عديد البلدان، العراق مثالا، إن بروز هذه النماذج، بعيوبها وهذيانها، وأضرارها الآنية وبعيدة المدى، سيستمر إلى أن تتخلص الشعوب من حقبة الأكاذيب المُغلّفة بالزيف الدعائي، لتعيش آمالها في الحرية والعدالة والكرامة التي طالما ناضلت من أجلها. القدس العربي