في كل دقيقة، يشهد العالم براءات اختراع لتكنولوجيات وتطبيقات حديثة، لكن هل تعلم أن مستقبل كل هذه التكنولوجيات ليس في يد مخترعيها، بل أصبح رهن أهواء دولة واحدة فقط تستطيع الإطاحة بالجميع وقتما شاءت، من خلال إتخاذ إجراء واحد بسيط، ألا وهو: وقف تصدير المعادن النادرة. من الصادم معرفة أن شرارة الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدةوالصين واحتدام الصراع فيما بينهما أشعلها الصراع على المعادن النادرة، وهي معادن لا توافر في جميع الدول، وتنتمي لفئة اللافلزات. ومنذ اكتشافها بالصدفة في أحد المناجم بالسويد، حاول العلماء صنع جدوى لها. ومع الثورة الصناعية الثالثة إلى علا فيها شأن التكنولوجيا، عرف العلماء أن الاستخدام الأمثل للعناصر النادرة هو استغلالها في تصنيع أشباه الموصلات، والبطاريات، وتطوير أنظمة الدفاع. ومع الثورة الصناعية الرابعة التي تعتمد على البرمجيات، باتت العناصر النادرة أساس تصنيع الرقائق الإلكترونية الدقيقة التي تستخدم في تصنيع الكمبيوتر، والموبايل، والصواريخ، والأقمار الصناعية، ناهيك عن استخداماتها اللامتناهية في تطوير أنظمة الدفاع، والتي بدونها سوف تصبح الدول غير قادرة على تطوير المعدات العسكرية اللازمة لضمان التفوُّق العسكري. أضف إلى ذلك، صارت تعدد استخدامها في الصناعات الميكانيكية، وأشهرها تلك المستخدمة في صناعة المركبات والروافع؛ حيث أن لبعض تلك العناصر قدرة مغناطيسية لا يستطيع أن يماريها المغناطيس العادي؛ فمثلاقطعة معدن نادر لها حجم قطعة الأصبع لها قدرة مغناطيسية تتفوق على مغناطيس زنته عشرين كيلو غرامًا. وبما أن الصين صارت المُنْتِج الرئيسي للعناصر النادرة، حيث أن حصتها 80 في المئة من الناتج العالمي، اعتلت الصين أرقى وأقوى درجات التفاوض مع الولاياتالمتحدة والاقتصادات العالمية المتقدمة. ومن ثمَّ، العلاقات الأمريكيةالصينية الحالية أصبحت بمثابة ناقوس خطر للدول الأخرى التي تثير أسئلة واسعة حول سلامة سلسلة التوريد لجميع الدول الأخرى، والتي صار مصير كل منها متربطًا بشكل كبير بتطوُّر وسلامة القطاع التكنولوجي عند الآخر. ومن المدهش أن لدى الصين ثلث الاحتياطي العالمي من المعادن النادرة فقط، لكنها استحوذت على هذا السوق تمامًا بداية من تسعينيات القرن الماضي، بالرغم من أن السيادة في هذا السوق كانت للولايات المتحدةالأمريكية والتي كان منجم «ماونتين باص» يضمن لها انتاج ضخم من العناصر النادرة تعمل على تصديره لدول العالم المختلفة، وتجني منه أرباح وفيرة. وخلال تلك الحقبة، لم تتنبه الولاياتالمتحدة أن الصين بدأت تسحب البساط من تحت أقدامها بكل سهولة، بل وبمباركة منها. ولمعرفة كيف تم ذلك، يجب تمحيص النظر، ومعرفة سبب احتفال الصين في كل عام بذكرى العالم «تسو جوانجشان» الملقب ب «أبو المعادن النادرة» في الصين. والعالم «تسو جوانجشان» هو مؤسس نهضة جمهورية الصين الشعبية الحديثة، وله اسهامات بارزة على جميع الصُّعد العِلمية والتكنولوجية. ولقد تلقى تعليمه في الولايات التحدة على يد كبار العلماء الذين أتاحوا له الاشتراك في تجارب علمية متخصصة في مجال الكيمياء الكمِّية، لكنه فضَّل الرجوع للوطن عام ،1951 تاركًا مستقبلاواعدًا له في الولاياتالمتحدة. وبوصفه أستاذ جامعة، أصبح «تسو جوانجشان» بمثابة كتيبة متحركة بتدريسه لطلابه أرقى الأبحاث الغربية في علوم الكيمياء ومقدمة العلوم النووية. وبينما كانت الصين في السبعينيات لا تمتلك تكنولوجيا لتنقية المعادن النادرة، وتتكبد أموال هائلة لاستيرادها، قام «تسو جوانجشان» باختراع نظرية كيمائية حديثة لاستخلاص العناصر النادرة بخمس التكلفة العالمية الحالية. وبسبب إنجازاته السابقة التي دفعت الصين على مسار التنمية، قامت الحكومة الصينية بدعم تجاربه، والتي وصلت مرحلة الاكتمال والقدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية بحلول تسعينات القرن الماضي. ولقد ساعد الصين في ذلك الوقت اهتمام الدول الغربية بقضايا المناخ، وعزوفها عن استخلاص وتنقية المعادن النادرة لأنها تسبب تلوُّث شديد للبيئة، بالإضافة إلى النفايات النووية التي تنجم عند الاستخلاص؛ لأن العناصر النادرة لا تستخرج في صورة نقية، بل مختلطة بمواد مشعة ضارة من الصعب التخلص منها بسهولة، وخاصة وأنه قد تأكد للعلماء أنه عندما يتم التخلص من النفايات المشعة في الصحراء كما اعتادوا فإنها تهدد مصير الشعب الأمريكي؛ لأن تتسرب للمياه الجوفية، والتي لا يزال يستخدمها بعض من سكان الغرب الأمريكي المتمركزين في الصحراء. فكان من المحتمل البحث عن بديل للتخلص من مشكلة التلوث البيئي والتلوُّث الإشعاعي. وبزغت الصين في الأفق حينئذِ بمثابة المنقذ لجميع دول العالم، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة، التي وجدت فيها الضالة المنشودة، فضلاعن ميزة الصين التنافسية التي لا ينازعها فيها أحد؛ ألا وهي أن الاستيراد سيكون فقط بخمس تكلفة الانتاج في الولاياتالمتحدة. والصين الغنية بالعناصر النادرة، ولا تهتم بالقضايا البيئية فرضت هيمنتها على السوق، بل وتسابقت جميع دول العالم على تصدير المعادن النادرة الغير نقية لها بأسعار بخس، بسبب سهولة الاستيراد ورخص المنتج. وفي عام 1995، نمت حصة الصين السوقية في تصدير العناصر النادرة وبلغت 90 في المئة، وظلت تتعاظم حتى صار لها هيمنة كاملة بحلول عام 2000، وأما الولاياتالمتحدة، فوجدت خارج السوق وغير قادرة على المنافسة بالرغم من بذل العديد من المحاولات، والتي باءت ليس فقط بالفشل، بل جلبت خسائر فادحة تقدر بالمليارات. وقوة هيمنة الصين على سوق العناصر النادرة لم يتحقق من خلال الأسعار وحدها، بل من خلال السياسة الصناعية التي انتهجتها منذ الثمانينيات لتطوير خبرات استخراج العناصر النادرة وفصلها وصقلها. وما فعلته الصين كان محاكاة لنهج الولاياتالمتحدة في الخمسينيات والستينيات عندما دعمت الاستثمارات الحكومية مختبر «أميس» كوسيلة لتعزيز جهود القطاع الخاص. لكن سرعان ما تناقص دعم الدولة في أمريكا إلى أن تلاشى تمامًا بحلول عام 2002، في حين أن الصين لا تزال تمد يدها بقوة لهذا القطاع، وتعمل على حماية المنتجين المحليين باستخدام ميزة التسعير التفاضلي لمنحهم الامتياز على المشتري الأجنبي. ومع تزايد الانتاج، توافر لدى الصين خبرات عميقة بالمجال جذبت المواهب الأجنبية لها، وكذلك أكبر مصنعي التكنولوجيا لأراضيها؛ فعلى سبيل المثال، نقلت بعض الشركات اليابانية أنشطتها الصناعية التي تعتمد على استخدام العناصر النادرة للصين. لكن، استفاقت الدول من حلم الاستيراد الرخيص والتخلص من المشكلات المناخية والبيئية على كابوس مريع عندما بدأت الصين تلوِّح بعصا الإنذار في وجه العاصي، وتهدد بالاستفحال. فهل ستُخضِع العالم؟ القدس العربي