قد يختلف الناس حول مدى تأثُّر الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، بظهور فيروس "كورونا" في بلدان العالم المختلفة، بيد أنه يوجد إجماع عالمي على أن الحياة في "زمن الكورونا" تختلف عن ذي قبل. في محاولة لفهم هذا الفيروس، والتعرف على طبيعته، ومعرفة مدى تأثيره على حياة البشر، صدر كتاب "زمن الكورونا" للدكتور خالد عبد الرحمن، وهو طبيب بشري، وعضو مؤسس في حركة أطباء بلا حدود، سبق له إصدار مجموعة قصصية "صندوق الألعاب"، وكتاب "مقالات في نقد الخطاب الطبقي"، بالإضافة لبعض المقالات المنشورة في مواقع إلكترونية. في 144 صفحة من القطع المتوسط. جاء الباب الأول بعنوان "الرأسمالية والأوبئة"، وجه فيها الكاتب أصابع الاتهام للرأسمالية: "أعلنت منظمة الصحة العالمية أن العالم شهد في الثلاثين سنة الماضية ظهور ما يعادل مرضا وبائيا جديد كل سنة، وهو مؤشر خطير على أن الرأسمالية تدخل الكوكب عصر الأوبئة" ص17. "كورونا والعالم" هو عنوان الباب الثاني الذي سرد فيه الكاتب ردود الأفعال العالمية حول انتشار الفيروس، وما ترتب عنه من إغلاق، وحظر تجوال، وإيقاف حركة الطيران، وظهور رؤيتين الأولى تقدم صحة البشر على المكاسب المادية، يطالب أصحابها بوقف عجلة الإنتاج عن كل ما هو غير حيوي حتى زوال الخطر، والأخرى تقدم الأرباح على حياة البشر، وترى أن عجلة الإنتاج لا يجب أن تتوقف، وعلى كل شخص تقبل قدره، أو كما جاء على لسان وزراء بريطانيا، بوريس جونسون: "استعدوا لوداع أحبابكم". بعد الانتشار السريع لفيروس كورونا وحصاده لأرواح البشر، قررت شركة ميدروتونيك، إسقاط الملكية الفكرية عن تصميم أجهزة التنفس الصناعي، لتبدأ شركات مثل جنرال موتورز، وفورد، وسيات، وغيرهم في تصنيع أجهزة التنفس لتلبية احتياج المستشفيات، كما قامت شركة أبل بتخصيص جزء من خطوط إنتاجها لتصنيع الكمامات الطبية. وهو ما يبرهن على إمكانية التخلي عن قانون السوق لصالح حاجة المجتمع، ولو بشكل مرحلي خلال الأزمات. ..كورونا والأزمة الاقتصادية هناك من يعتبر الأزمة الاقتصادية الحالية هي نتاج انتشار فيروس كورونا، وهو ما ينفيه المؤلف، حيث يعيد السبب في الأزمة الاقتصادية لزيادة العرض على الطلب الناتجة عن ثقافة "الاسثمار في المضمون"، وجشع المستثمرين فيقومون بالضغط على العمال وتقليل الرواتب، وبالتالي تتناقص قدرتهم الشرائية وهو ما يتسبب في حالة الركود، ومن ثم يقومون بالضغط على الدولة لفتح حد الائتمان من أجل تنشيط الاقتصاد، بل ويصل الأمر للضغط على الدولة لضخ الأموال لمساندة المستثمرين بدلاً عن زيادة الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي. يدحض خالد أيضا في كتابه القول بوجود تناقض بين الاقتصاد وحياة البشر: "إن التناقض الحقيقي ليس بين صحة الإنسان والاقتصاد، كما يتم الترويج له، ولكن بين صحة الإنسان والسبيل الرأسمالي في إدارة هذا الاقتصاد.. فما يتم الترويج له من فتح كل القطاعات الانتاجية بغض النظر عن حاجة المجتمع الفعلية لها لمجرد الخوف من تدفق الأرباح، وهو الذي يخلق التناقض الحقيقي بين الاقتصاد وصحة المواطن" ص42. يدعم المؤلف الديمقراطية حلًا لمواجهة أزمة الكورونا، والمقصود هنا بالديمقراطية هي تلك العملية المتمثلة في تنظيم الجماهير أنفسها وتفعيل الدور السياسي والاجتماعي للنقابات العمالية، ومنظمات المجتمع المدني، وأن تقوم الدولة بدعم العمال، والمهنيين، والبحث العلمي بديلًا عن دعم رجال الأعمال. يعيد خالد تعريف العولمة "العيش المشترك الذي يعني أنك لن تعيش في رفاهية وحدك طالما غيرك يعاني شظف المعيشة.. كسبيل وحيد لعلاج هذا الشكل من أشكال التهديد المعولم، فالأولوية يحب أن تكون للعلماء والأطباء والمعلمين والباحثين.. الأولولية يجب أن تكون لمراكمة العلم والتقنية وليس السلاح…" ص54/ 55. "كورونا ومصر" هو عنوان الباب الثاني، يستهل الكاتب الباب بالحديث عن أوضاع الأطباء والصحة في مصر، ودور أطباء مصر النضالي من أجل رفع مستوى الخدمات الصحية في مصر عمومًا فضلًا عن تحسين أوضاعهم كأطباء ورفضهم الفصل بين مطالبهم كأطباء وبين تطوير منظومة الصحة ككل، وكذلك يسرد المؤلف وهو المكوي بالنيران كطبيب مصري، ما يتعرض له الأطباء من تعسف إداري ونقل دون مراعاة لظروفهم، وكنتاج على هذا التعسف يذكر حادث المنيا الذي راح ضحيته أربعة أشخاص بينهم طبيبتين بالإضافة إلى 17 مصاب. الأمر الذي جعل من القطاع الطبي قطاعا طاردا لأبنائه وهذا لم يتوقف باجتياح فيروس كورونا فالإعلام بدأ في تصوير كل من يرفع صوته بمطالب توفير الأجهزة اللازمة أوالأدوات الواقية كخائن وكأن المطلوب من الأطباء أن يموتوا صامتين، دافعين ثمن عقود من التدني في ميزانية الصحة، والفساد.
يجمل الطبيب خالد ما يريده الأطباء بالقول: "لا يريد الأطباء لقبا أو أغنية أو هاشتاغا. ما يريدونه حقًا هو توفير راتب محترم يضمن لهم التفرغ لآداء مهنتهم والبحث العلمي في مجالهم وتطوير خبراتهم الطبية.. يريدون توفير المستلزمات الطبية، ويريدون تقديم خدمة صحية حقيقية وجيدة تليق بالمواطن المصري وليس الدعاية الكاذبة" ص77. يُضمن الكاتب في هذا الباب العديد من المخاطبات والوثائق الرسمية، منها ما يتضمن مطالبة الدولة للأطباء بترشيد استهلاك أدوات الوقاية، في ذات الوقت يتفاخر إعلام الدولة بإرسال مساعدات لإيطاليا والصين لمكافحة الوباء، ومنها ما يفيد عدم عمل مسحات للأطباء العاملين بمستشفيات العزل والاكتفاء بالاختبار السريع الذي لا يتعدى نسبة صوابه ال30%. يتناول الباب نفسه ممارسات الإعلام الخاطئة، والترويج للخرافات حول العلاجات الشعبية للكورونا، الأمر الذي يتنافى مع المنهج العلمي، وما زاد الطين بلة تصريح وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد "أن الفيروس غير خطير، وغيرها من التصريحات على ألسنة مسؤولين في الدولة، التي تسببت في مزيد من عدم الوعي والإستهتار من قبل المواطنين وبالتالي المزيد من حالات الوفاة، المقيدة وغير المقيدة". يختتم المؤلف كتابه ب "نماذج من التوظيف السياسي لأزمة الكورونا"، فمن التبرع للدول الأخرى بالمواد المطهرة والأدوات الواقية، والتي يعاني القطاع الطبي من النقص الشديد فيها؛ إلى الإعلان عن وفاة لواءين أثناء عمليات التطهير ضد فيروس كورونا على الرغم من أن عمليات التطهير لم تكن قد بدأت بالفعل وقت إصابتهما. وكذلك اعتماد أسلوب الفرقعات الإعلامية، فيتم الإعلان عن 300 مليار لمواجهة فيروس كورونا، ليُكتشف فيما بعد أن نصيب القطاع الصحي من هذا الدعم لا يتخطي 182 مليون جنية في في حين ذهبت المليارات لدعم رجال الأعمال والبورصة. قدم لنا الدكتور خالد عبد الرحمن، كتابه حول موضوع معاصر، يشغل الرأي العام، وسيظل يشغله لعقود، ولن يكون الكتاب الأخير في هذا الصدد، وقد أجاد تقديم مادته العلمية، بشكل مبسط وشيق، يجعل الكتاب يصلح للقارئ العادي وكذلك، لباحث التاريخ، والسياسة، والاقتصاد. كما استطاع أن يقدم تشريحا دقيقا للأزمة، ربما كشف مبكرًا عن اتهامة للرأسمالية، بالتسبب في الوضع الحالي، فكانت الإجابة قبل السؤال، إلا أنه أجاد شرح وجة نظره وساق الحجج في ذلك كثيرًا. كما قدم لنا الدكتور خالد نموذجا للطبيب المثقف والمناضل المعايش لطبقات المجتمع، الملم بأوجاعهم، الذي لم تمنعه الحياة العلمية عن كونه مشروع كاتب مميز.