د. حمد بن عبد العزيز الكوّاري ** وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية كثيرًا ما عُدتُ لتدبّر الأفكار الواردة في كتاب "روح الأنوار" ل"تزفيطان تودوروف"، وهو واحد من أبرز مفكّري أوروبا الحريصين على نقد الفكر الأوروبي ومراجعة تصوّراته بشأن قضايا العالم المعاصر، وما كانَ يرنُّ في ذاكرتي دائما هو ذلك الصّوت النقدي الذي يؤمن بأنّ الغرب خائن ل"عصر الأنوار"، فالأنظمة الشموليّة والاستعماريّة التي نبعت منه لا يُمكن أن تكون وليدة روح ذلك العصر، فأين هي من قيم العدل والحرية والتسامح وقبول الآخر؟! تلك القيم التي صدع بها فولتير ومونتسكيو وديدرو وغيرهم من المفكّرين، وأين هي ثقافة التنوير التي كان من المفترض أن تؤسس لعلاقات دوليّة متسامحة بين الأمم؟ وهل ما تزال آثار انحرافات هذه الثقافة مبثوثة في خطابنا الثقافي المعاصر الذي يدّعي احترام الثقافات بينما تهيمن باسمه ثقافات على حساب أخرى؟ لقد تنفّستُ هواء ثقافات العالم، فبحثتُ في الخصائص الثقافيّة للشّعوب واحترمتها، واستضأت بما قالهُ جون جاك روسّو "إذا أراد المرء دراسة الناس فعليه أن ينظر قريبا منه، ولكن عليه لدراسة الإنسان أن يُسرّح نظره بعيدًا، وينبغي قبل كلّ شيء ملاحظة الفروق لاكتشاف الخصائص". وقد تقلّدت مسؤوليات ثقافيّة ودبلوماسيّة عديدة، فخبرتُ تحوّلات العلاقات الدوليّة، ورأيتُ الجميع يحملون لواء الثقافة في ساحاتٍ تحوّل بعضها إلى أرضٍ للصّراع، لا أرض للحوار، حتّى أنّي تساءلتُ: هل "الثقافة" التي ندعو إليها غائبة أم أنّها مغيّبة في العلاقات بين الأمم؟ وهل حانَ زمن تصحيح بعض المفاهيم حولها حتّى تستعيد الإنسانيّة وضوح رؤيتها للمرحلة القادمة؟ تحوّلات الثقافة قد يبدو من الوهلة الأولى أنّ مفردة "الثقافة" مفردة مركّبة تعدّدت تعريفاتها بحسب الاتّجاهات الفكريّة والمدارس الفلسفيّة والاجتماعيّة، ممّا خلقَ تعدّدا في مقارباتها واستخداماتها. والمفهوم غربيّ المنشأ دون ريب، فهو لم يظهر في الثقافة العربيّة إلاّ في عشرينيّات القرن الماضي، بعد أن استخدمه المفكّر المصري سلامة موسى. وتتعلّق المفردة في أصلها الغربي بالعمل الزراعي، بينما يدلّ المعنى اللّغوي لفعل" ثقف" لدى العرب إعداد أداة من مادّة خام كي تكون سلاحًا، من ذلك يُقالُ: ثقّف السيف أي حدّهُ وأقامه، وثقّف العود ليكون سهما أو رُمحا. ويُذكر أنّ شيشرون هو من استخدم كلمة "ثقافة" في قوله "إنّ الفلسفة هي ثقافة النّفس"، وقد تبنّى فلاسفة القرن السادس عشر هذا الاستخدام ليطلقوا مقولة "الإنسان المتنوّر"، وفي ألمانيا استخدمه كانط وبيسمارك في خطابه عن "النّضال من أجل الثقافة". ويوحي تعدّد تعريفات "الثقافة" أهمية دورها المتجدّد عبر تاريخ الإنسانيّة، فهي ليست مجرّد مضامين وخزّان للآداب والفنون والمهارات والعادات والقيم لشعب من الشّعوب فحسب، بقدر ما هي مخطّطات لتوجيه الفكر والسّلوك، وهي ما تميّز مجتمعا عن غيره من المجتمعات، رغم أنّ الثقافة الواحدة تتداخل مع ثقافات أخرى فتشترك معها في بعض جوانبها. وقد ذهب تيري إيغلتون في كتابه "فكرة الثقافة" إلى حصر أربعة معان لتعريف الثقافة، فهي تعني: "تراكما من العمل الفنّي والذّهني، الصيرورة التي يحصل بها الارتقاء الروحاني والذّهني، القيم، العادات، المعتقدات والممارسات الرمزيّة التي يُوظّفها الرجال والنساء في الحياة، أو الطريقة الكلية المعتمدة في الحياة". ولكنّ هذه المعاني ذاتها قابلة للتعديل، وليس من الحذلقة أن تشهد مفردة "الثقافة" توسيعًا لدلالتها من حقبة زمنيّة إلى أخرى، ولا يعني منشأ المفهوم الغربي "للثقافة" غياب الثقافة عن الأمم الأخرى. ..أثر الثقافة في تطوير العلاقات بين الأمم استفادت الشّعوب عبر العصور من الاتصال ببعضها البعض وتبادل ثرواتها الرمزيّة، فقد ظلّت الثقافة منبعا لهذا الاتّصال، وشهدت كلّ أمّة تأثيرًا متفاوتا إثر اتصالها بأمم أخرى، كما أثّرت بدورها من خلال آدابها وفنونها ومهاراتها، حتّى غدت العلاقات "الدوليّة" منذ القديم قائمة على مفهوم التبادل و"التثاقف"، رغم ما طرأ بين الحين والآخر من حروب وصراعات ونزاعات. ويُذكر أنّ الحضارة الفارسيَّة نجحت في مجال العلوم الطبيَّة بينما كان الأطباء الرومان يُقَاومون حملة اضطهاد ضِدَّهم في رومانيا، وهذا ما دفعهم إلى اللجوء للعيش وسط المجتمع الساساني الذي استقبلهم لينتفع بهم علميًّا، ممّا أدّى إلى إنشاء مدرسة لتخريج الأطباء، فكانت أفضل مدارس الطبِّ في جنديسابور آنذاك، وظلَّت هذه المدرسة مزدهرة وتُخرِّج العديد من الأطباء حتى بدايات العصر الإسلامي. وفي عهد الإمبراطور الروماني فسبازيان، افتُتحت مُستَمَعات (Auditoria) لتعليم الطب، يتولَّى التعليمَ فيها أساتذة تعترف بهم الدولة، وتُؤدِّي إليهم رواتبهم، وكانت اللغة اليونانيَّة لغة التعليم في هذه المعاهد، بينما كانت اللُّغة اللاتينيَّة هي اللغة التي تُكتَبُ بها وصفات الدواء للمرضى. ولنذكر أنّ الحروب الصليبيّة لم تقف حائلا بعد زوالها من اتّصال الأوروبيين بالعرب، فمنذ منتصف القرون الوسطى اهتم الأوروبيون بثقافة العرب وعلومهم، ولجؤوا إلى تعلّم العربيّة دون أن يكون ذلك نوعا من الانتقاص لذاتهم الحضاريّة. يقول المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون (Gustav Le Bon): "ولم يَكَد العرب يُتِمُّونَ فتح إسبانيا حتى بدؤوا يقومون برسالة الحضارة فيها؛ فاستطاعوا في أقلَّ من قرن أن يُحْيُوا مَيت الأرض، ويُعَمِّرُوا خراب المدن، ويُقيموا فخم المباني، ويُوَطِّدُوا وثيق الصلات التجاريَّة بالأمم الأخرى، ثُمَّ شرعوا يتفرَّغون لدراسة العلوم والآداب، ويُتَرْجِمون كتب اليونان واللاتين، ويُنْشِئُون الجامعات التي ظَلَّتْ وحدها ملجأً للثقافة في أوروبَّا زمنًا طويلًا". وهو ما دعا غوستاف لوبون ليتمنَّى لو أنَّ المسلمين كانوا قد استولوا على فرنسا؛ لتغدو باريس مثل قرطبة في إسبانيا المسلمة! وقال تعبيرًا عن عظمة الحضارة العلميَّة في الإسلام: "إنَّ أوروبَّا مَدِينَةٌ للعرب (المسلمين) بحضارتها". لا أحد يُنكر فضل العرب في ذلك العصر الأندلسي المشرق على أوروبا الغارقة في ظلماتها، كما لا يُنكر أحد تلك الإرادة التي تمسّك بها بعض المثقّفين الأوروبيين لينهلوا من المعرفة العربيّة في العلوم والآداب والفلسفة، فمبدأ التأثير والتأثّر قانون قائم بين الأمم لا غِنًى عنهُ، بل شهدت بعض الأمم نوعا من "التحول الثقافي" (Transculturation) الذي تعيشه بعض المجموعات عند انتقالهم لمجتمع جديد ذي ثقافة مختلفة عن ثقافتهم الأصلية، فيتأثّر الأفراد بثقافة المجتمع الجديد، أو في صورة انتشار لغة وثقافة جديدة في المجتمع بسبب قدوم حكام جدد مثلما حدث في الأندلس، حيث اعتمد السكان الأصليون العربية للتفاهم والتعامل فيما بينهم، بل فضّلها بعضهم على لغته الأصلية. وقد لعب هؤلاء المستعربة دورا وسيطا في نقل الكثير من متون الحضارة العربية الإسلامية إلى الممالك الأخرى شمال الأندلس. وفي العصر الحديث، أبرز عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر المنافع الاقتصاديّة للثقافات البروتستانتيّة، وركّز أدا بي بوزمان على دور الثقافة في صناعة القرار الوطني، ويعني ذلك أنّ الثقافة تعزّز مكانة الدولة وتحدد مصيرها وتأثيرها في العلاقات الدوليّة باعتبارها موجّهة أيضا لصناعة القرار الخارجي، وتحدد وجهات النظر حول القضايا السياسيّة الدوليّة، وبقدر ما تتأثّر الشّعوب والقيادات بثقافتهم، فإنّ صلاتهم بالأمم الأخرى تَنتج عن طبيعة تصوّراتهم الثقافيّة، لذلك ذهب هينتغتون في مقاربته ل"صراع الحضارات" إلى أنّ الثقافة ستكون مصدرا للانقسامات بين الأمم، فالثقافة برأيه هي الإطار المهيمن في العلاقات الدوليّة. ..هل تقهقرت الدبلوماسيّة الثقافيّة؟ لقد أدركتُ من خلال تجربتي الدبلوماسيّة ومسيرتي الحياتيّة أنّ السبيل إلى الوفاق العالمي يبدأ بتعزيز مكانة الثقافة في العلاقات الدوليّة. لذلك آمنتُ بأنّ الدبلوماسيّة الثقافيّة هي مفتاح التقارب بين الشّعوب، وهي صمّام أمان حقيقي للأمم التي تبحث عن السّلام، فلا تكفي السياسة لحلّ المشاكل القائمة بين الدّول، وهو ما ترجمه الواقع الدولي منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وإبّان دخول العالم في تجاذب قطبي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. فقد اكتشف السياسيّون في تلك المرحلة أنّهم بحاجة إلى وسيلة أكثر فاعلية من طاولات المفاوضات، وأدركوا ما للثقافة من دور في التأثير على الشّعوب وقدرة على تشكيل العلاقات الدوليّة. وأعتقد أنّ ظهور مصطلح "القوّة الناعمة" في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، منح الثقافة دورا دوليّا جديدا، فلم تعد قوّة الدولة تُقاس فحسب بقوّة اقتصادها أو حضورها السياسي والعسكري، وإنّما بمدى قدرة ثقافتها على إنشاء العلاقات بينها وبين الدّول الأخرى، وحجم مكانتها في احتلال مواقع متقدّمة في المؤسسات الدوليّة. ويُعرِّف ميلتون سي كامينغز الدبلوماسيَّة الثقافيَّة بأنَّها: "تبادل الأفكار والمعلومات والقيم والأنظمة والتقاليد والمعتقدات والجوانب الأخرى للثقافة؛ بهدف تعزيز التفاهم المتبادل". ولكنّ هذه الدّلالات لم تتبلور فحسب في عصرنا، فهي لم تكن غائبة في التاريخ الوسيط تماما، بل كانت لها جذور متنوّعة، إذ تعتبر الدبلوماسيّة الثقافيّة التطوّر الأرقى لأشكال أخرى من التواصل بين الدّول والشّعوب على مستوى تبادل الثقافات والتعبيرات الرّمزيّة، من ذلك أنّ الهديّة تُعدُّ من بين هذه الأشكال التي ترجمت منذ قرون إرادة التّواصل بين الشّعوب حتّى أصبحت رمزا للتّقارب، وقد ألّف القاضي الرّشيد بن الزبير في القرن الخامس الهجري كتاب "الذّخائر والتّحف"، وفيه يستعرض أخبار الهدايا والتّحف بين الملوك والرُّؤساء وغرائب المقتنيات، ممّا يدلّ على اتّساع الصّلات بين الشّعوب، واعتبار الهديّة أداة للتقارب. كنتُ على ثقة أنّ دور الدبلوماسية الثقافية سيزداد توسّعا في المستقبل، ولن تستطيع الدبلوماسيّة التقليديّة الاستغناء عنه، ولكنَّ هذه الثقة تُربكها أحيانا ما يتخلّل العلاقات الدوليّة من هشاشة كلّما اتّسعت سيطرة ثقافة على أخرى باسم الأفضليّة والتفوّق. ..قطر تُراهن على الثقافة في بناء العلاقات الدوليّة لقد كنّا في قطر واعين تمام الوعي بالدبلوماسيّة الثقافيّة، فمارسناها بتميّز ممّا عزّز من مكانة بلدنا وتفاعله مع العالم، فكانت تجربة السّنوات الثقافيّة بين قطر وبعض دول العالم علامةً فريدة على نجاح الثقافة في بناء جسر بين الشّعوب، وتعزيز التفاهم من خلال تبادل التجارب الإبداعيّة واستكشاف التنوّع الثقافي والتفاعل الحضاري. ورأت قطر أنّ السّنوات الثقافيّة، تُطوّر الدبلوماسيّة الثقافيّة مع الدّول المشاركة، وتضمنُ ديمومة العلاقات الثقافيّة مع تلك الدّول، فلا تذهب بزوال السّنوات الثقافيّة. وكان الاهتمام بالترجمة علامة فارقة لترسيخ التّواصل مع الأمم الأخرى، وأذكرُ أنّي سارعتُ حين كنتُ وزيرا للثقافة والتراث والفنون إلى إنشاء مشروع الترجمة، فتمّت ترجمة عدد كبير من الكتب التي أثّرت في حركة الفكر والأدب العالميين، وكشفتْ للقارئ العربي الأفق الجديد للثقافة العالميّة وتياراتها الكبرى، وجعلته مطّلعا على أسئلتها التي تحرّك سواكن الإبداع. وتَعزّز دور الترجمة في قطر بفضل جائزة الشيخ حمد للترجمة والتّفاهم الدّولي التي تُكرّمُ المترجمين وتقدِّر دورهم في تمتين أواصر الصداقة والتعاون بين أمم العالم وشعوبه. ولإيماني بالدّور المستمرّ للترجمة، فقد آليتُ على نفسي أن لا أدّخر جهدا لترجمة كتبي إلى لغات العالم، حتّى يتعرّف القارئ في دول عديدة على وجه من وجوه ثقافتنا القطريّة. وشاركت مختلف المؤسسات الثقافيّة في قطر ضمن هذا الاتّجاه، لتمنح الدبلوماسيّة الثقافيّة محتوى متجدّدا، وهو ما عكسته البرامج الثقافيّة لهيئة متاحف قطر ومؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع والحيّ الثقافي كتارا ومكتبة قطر الوطنيّة على امتداد سنوات، فتوطّدت العلاقات مع دول العالم، بل صرنا نرى الدّوحة مفترقا حضاريّا للثقافات العالميّة. إذ يُعدُّ مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان المؤسَّسة الرائدة في قطر المعنية بالحوار بين الأديان والثقافات، وبناء القدرات في مجال الحوار وثقافة السلام. فدولة قطر تؤمن أن بناء الأمم يبدأ ببناء الإنسان، وهذا البناء يُقام على أساس التعاون المتبادل بين مكوّنات المجتمع الإنساني، فالحضارة لا تنهض إلاّ بمشاركة الجميع في خوض تحدياتها. ويُساهم المركز منذ تأسيسه في إيجاد وسائل متنوّعة في تفعيل ثقافة الحوار لتحقيق التقارب والتعايش من أجل السّلام. ومنذ انعقاد المؤتمر الأول للمركز في 2003، والمؤتمرات السنويّة تتوالى بين أتباع الأديان السماويّة الثلاث، كما أنّ تعاون دولة قطر مع المنظمات الدوليّة من أجل تعزيز الدور الثقافي لم يفتأ يتطوّر ويتّسع، من ذلك ما أثمره التعاون بين الإيسيسكو واللجنة القطرية لتحالف الحضارات بوزارة الخارجية القطرية، وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، من إطلاق جائزة قطر العالميّة لحوار الحضارات في عام 2018، كما أثمر كرسي الأستاذية في تحالف الحضارات. وسعيًا لمدّ جسور التّواصل مع ثقافات الشّعوب، قامت دولة قطر بدعم إنشاء المحطات الإذاعية الخاصة بالجاليات، والتي تعمل على إثراء المشهد الثقافي في الدولة، وخلق فرص أكبر للحوار بين الثقافات. وليس أدلّ على إيمان دولة قطر بما للثقافة من دور في العلاقات الدوليّة، من ذلك البيت الثقافي العربي ببرلين الذي كان لي شرف زيارته وتدشين الترجمة الألمانيّة لكتابي "على قدر أهل العزم" فيه، وكم سررتُ لمزايا هذا البيت الذي اتّخذ اسم "الديوان"، في إشارة إلى شاعر ألمانيا الكبير غوته الذي نادى في شعره بالتّواصل بين الشّرق والغرب، ولا شكّ فإنّ إنشاء هذا المركز الثقافي سيعزّز العلاقات التاريخية الوثيقة بين الثقافتين الألمانية والعربيّة. ولا يُمكنني أنْ أنسى مبادرات "التّعليم فوق الجميع" و"علّم طفلاً" في تعزيز الروابط الدّبلوماسيّة، لما تحمله رسالة التّعليم من تنمية ثقافة السّلم، وقد كانت دولة قطر سبّاقة في هذا المجال، ومؤمنة بما لهذه المبادرات من دور في مدّ الجسور بين الشّعوب. الدبلوماسيّة الرياضيّة سندُ القيم المشتركة ومرآة الخصوصيّات الثقافيّة سيعزّز احتضان قطر لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، الصّلات مع سائر دول العالم، حيثُ تلعب الرياضة دورا أساسيّا في هذه القوّة الناعمة، فالرياضة ليست مجرّد أداة من أدوات الترفيه، وإنّما هي أداة فعالة في الدبلوماسيّة الثقافيّة وفي توثيق العلاقات الدّوليّة، حتّى أننا بدأنا اليوم في الحديث عن "الدبلوماسيّة الرياضيّة"، وكم أفتخر بما بلغته الرياضة في بلدي الحبيب قطر، بفضل الرّؤية الحكيمة لقيادتنا. فعلاوة على توفّر البنية التحتيّة المتقدّمة، فقد أضحت الرياضة جزءا من بناء الوعي ووسيلة للترابط المجتمعي وشأنا عامّا في حياة القطريين، بعد أن خصّصت الدّولة يومًا للرياضة يتفرّغ فيه جميع أفراد المجتمع لممارسة كلّ أنواع الرياضات، فيحصّلون الصّحة النفسيّة والجسديّة ويدركون الأبعاد العميقة لرسالة الرياضة. لا شكّ أنّ الرياضة حمّالة للقيم، وهي قيم إنسانيّة مشتركة بين الجميع، في زمنٍ لحق فيه القيمَ تدهور كبيرٌ -لا بالمعنى الأخلاقي فحسب- في سياق فرض العولمة لثقافة واحدة عالمية تسعى لتنميط القيم ونفي الخصوصيّة. فالقيم باعتبارها مجموعة من التّصورات والمفاهيم التي تُحدّد للإنسان نمط سلوكه ليست أمرا هيّنا في مسار العلاقات الدوليّة بين المجتمعات، خاصّة إذا ما شعرت بعض المجتمعات بأنها مستهدفة في نسق قيمها، وأنّها واهمة في الاعتقاد بوجود قيم نسبيّة وغير مطلقة كما روّج لذلك عصر التنوير والفكر الأوروبي على المستوى النظري، بينما خانت الوقائع كلّ مخرجات تلك الترسانة النظريّة التي أصبحت مثل البضاعة "المغشوشة" التي انتهى أجل صلاحيتها. وإن كانت القيم على هذه الأهمية في تعبيرها عن الخصوصيات الثقافيّة لتحديد هويّة مجتمع عن غيره من المجتمعات، فإنّ الهيمنة الثقافيّة الغربية تتقدّم في اتجاه إحلال النموذج الثقافي الواحد محلّ النظم الثقافية التي تميّز شعبا عن آخر وثقافة عن أخرى، ممّا جعل المجتمع الواحد يعيش توتّرا في نظامه القيمي مثلما يشهد نوعا من الصّراع والرفض لفرض قيم مجتمعات أخرى لا تُبالي بخصوصيّة قيمه. وأعتقد أنّ الحدث الرياضي العالمي من شأنه أن يرفع من مستوى تقبّل الخصوصيّات الثقافيّة، حيثُ يجتمع مئات الآلاف من المشجّعين الوافدين من ثقافات مختلفة ليكونوا في ضيافة قطر، بلد التسامح وقبول الآخر في كنف الاحترام المتبادل. ونشير إلى أنّ كأس العالم 2022 هو بمثابة محكّ حقيقي للمنتظم الأممي، ولهذه الثقافة العالميّة المكتسحة، هو محكّ لمدى قدرتها على قبول المختلف واحترام ثقافة غير ثقافتها، ومراعاة الخصوصيات الثقافيّة التي تمثّل أساسا للعلاقات الدوليّة. إننّي أستحضر المضمون العقلاني الرشيد الوارد في خطاب سموّ الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله، حين قال في معرض حديثه عن استضافة قطر لكأس العالم "نؤكد أننا لن نمنع أي شخص من القدوم إلى بلدنا والاستمتاع بكرة القدم، ونتوقع من الجميع احترام ثقافتنا". ويحرص هذا الموقف على مبدأ الاحترام المتبادل لثقافات المجتمعات، حيثُ لا أفضليّة لثقافة على أخرى، فجميع ثقافات العالم تساهم في بناء حضارة البشريّة التي هي بعبارة الأديب المصري توفيق الحكيم "ليست سوى عمل استخلص من زهرات مختلف الشّعوب على مرّ الأجيال".