نبتعد يوماً بعد يوم عن النظام الدولي الذي وضعت إرهاصاته في مؤتمر يالطا (فبراير 1945)، عندما اجتمع «منتصرو» الحرب العالمية الثانية الثلاثة جوزيف ستالين وفرانكلين روزفلت ووينستن تشرشل ولم تكن الحرب قد انتهت بعد. يومها جرى التغني بتلاقي «الديمقراطيات الثلاث»، أي بشكل أو بآخر، التوتاليتارية السوفياتية والاستعمار البريطاني والإمبريالية الأمريكية، في وجه الهمجية النازية. انطلق التأسيس لنظام ما بعد الحرب من هذا. أي أن الحفاظ على ذاكرة الانتصار الثلاثي المشترك هو الضمانة الأولى لعدم نشوب حرب عالمية جديدة. بالتالي لا بد من نوع من حكومة ثلاثية عالمية. سوى أن تشرشل المرتاب من إنعدام التوازن على مستوى القارة الأوروبية لصالح موسكو، مع زوال القوة الألمانية، طالب بإضافة فرنسا. وروزفلت المهجوس بحرب لم يكن من الممكن تحديد أجلها بعد في منطقة شرق آسيا – المحيط الهادئ ضد الإمبراطورية اليابانية، طالب بإضافة الصين بقيادة تشانغ كاي تشيك والحزب الوطني، الكيومنتانغ. بخلاف تشرشل الذي كان يستشرف وبتوجس كبير، في الأشهر الأخيرة للحرب، صعوبة التعاطي مع ستالين بعدها، ويمتعض من مسلك موسكو الواضح للهيمنة على مصائر بلدان أوروبا الشرقية والوسطى وبخاصة بولندا، كانت الأولوية لدى روزفلت هي حث ستالين على الدخول في الحرب ضد اليابان، وبالتالي نقض معاهدة عدم الاعتداء السوفياتية اليابانية الموقعة في إبريل 1941، تلك التي ساهمت بشكل كبير في إراحة الجيش الأحمر وجعله يركز على الحرب ضد الغزاة الألمان، بدلاً من أن يستنزف بحربين واحدة ممتدة من بحر البلطيق الى نهر الفولغا الى القوقاز، والثانية تدور رحاها في أقصى الشرق. حيكت الكثير من المبالغات والخرافات حول يالطا، منها أن المؤتمر سمح بتقسيم أوروبا بين نفوذين سوفييتي وأمريكي. لكن ما حصل بالفعل أنه في وقت لم يظهر أن مصير بلدان شرق أوروبا أولوية أمريكية في المؤتمر، فإنّ الأمور لم تكن كذلك لدى الإنكليز. والأهم، أن التصور عن مستقبل ألمانيا الذي تبناه «الثلاثي» ستالين روزفلت تشرشل عن ألمانيا في يالطا، ثم ستالين ترومان تشرشل في بوتسدام بعد اندحار الرايخ الثالث، كان عن ألمانيا منزاحة حدودها الشرقية الى خط اودر – نايسيه، ما يعني إفقادها بروسيا الشرقية وسيليزيا وأجزاء من بروسيا الغربية وبوميرانيا. إلا أن التصور لم يكن بعد لألمانيا مقسّمة بين كيانين بأيديولوجيتين متضادتين. وإنما عن ألمانيا منزوعة السلاح ومعاقبة، يتوزع المنتصرون احتلال أقاليمها، كما يتوزعون احتلال مناطق عاصمتها. ما يحصل منذ 2014 بشكل متصاعد، ومنذ انطلاقة الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير الماضي، وبشكل يزداد احتقاناً في الآونة الأخيرة، هو أنّه حدثت القطيعة التامة مع تركة «الانتصار الثلاثي»، التي أعتبرها ستالين وروزفلت وتشرشل، رغم كل التناقض بينهم، وبخاصة في يالطا بين تشرشل وستالين، أنها الضمانة الأولى لعدم الذهاب الى حرب عالمية جديدة. لقد سمح «عالم يالطا» في واقع الحال بشيئين: تجاوز العصر الذي كانت فيه الأمم الأوروبية تتصدر الهيمنة على العالم، إنما مع إبقاء هيمنة الشمال العالمي (من موسكو الى واشنطن) على الجنوب العالمي، وفي الوقت نفسه رجحان كفة الغرب على الشرق ضمن الشمال العالمي. هذه المعادلة استمرت طيلة الحرب الباردة. ولم تتبدل بشكل جوهري لا بعد أفول الاستعمار المباشر، ولا مع حيوية حركة عدم الانحياز. الا أن انهيار الاتحاد السوفياتي من جهة، وازدياد قوة الصين الاقتصادية من جهة ثانية، أخذ يظهر ابتعاداً عن هذه المعادلة. اذ صارت هيمنة الشمال العالمي على مجموع الكوكب منزاحة أكثر بكثير مما عرفناه في مرحلة الحرب الباردة، لصالح امبراطورية غربية، يشكل حلف الأطلسي صيغتها الضاربة المحققة. وفي المقابل، لم تعد الصين جزءاً من الجنوب العالمي ليس الا، ودخلت شيئا بعد شيء في المعضلة التي عاشتها اليابان أواخر القرن التاسع عشر: إما أن تكون اليابان إذا أرادت استكمال نهضتها التحديثية قوة إمبريالية هي الأخرى، أو تكون شبه مستعمرة، شأن واقع الصين آنذاك، نسبة الى الغرب، ثم نسبة الى اليابان بشكل أساسي. نعيش اليوم، رغبة روسية محمومة في استعادة موقعها ضمن الشمال العالمي. وفي المقابل ثمة إجماع غربي أنه لا مكان لروسيا في هذا الشمال بعد زوال الاتحاد السوفياتي. لا مكان شرقاً إلا لأوكرانيا. النتيجة هي أن الصراع التدميري لأوكرانيا سيتجذر. ويصعب الى حد كبير رؤية كيف يمكن أن تخرج روسيا أقوى من هذه الحرب مما كان عليها حالها قبل دخولها إليها. ليس هناك ما يحول دون أن ينتهي هذا الصراع الى وضع تكون فيه أوكرانيا منكوبة بالكامل، وروسيا تتجرع أقصى أنواع الخيبة، بكل ما يمكن ان تؤدي اليه هذه الخيبة. لكن، هل هذا سيعطي اقتداراً أكبر للغرب؟ أم للصين؟ أم لنظام دولي يصاغ هذه المرة بين الغربيين وبين الأمم الآسيوية الكبرى بشكل أساسي، أي الصين والهند واليابان؟ لكن عندها كيف المرور الى توليد لحظة تأسيس جديدة لنظام دولي جديد؟ لحظة تحاكي يالطا 1945 وتطوي صفحتها في آن؟ هل من سبيل الى ذلك طالما ظلت الحرب محصورة في أوكرانيا؟ هل يمكن التأسيس لنظام دولي جديد بالمستوى الحالي من التدمير والرعب أم أن التشاؤم أكثر لؤماً من المأساة الحالية؟ لم نعد في «عالم يالطا». يالطا نفسها، الموجودة في شبه جزيرة القرم، نقطة في مركز الصراع الحالي. يصعب أكثر فأكثر ان يجتمع مجلس الأمن على أي قرار جديد. لا تبدو اللحظة للديبلوماسية وفنونها. في الوقت نفسه ثمة ما يعرقل انفلات الكارثة من عقالها. ليس الرعب من استخدام السلاح النووي والرد على النووي بالنووي فقط. ثمة أيضاً كوابيس الحربين العالميتين الماضيتين. والأهم الأثر الديموغرافي المستمر لهما بالنسبة الى بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، وبخاصة روسيا. لقد ارتبطت الحربان العالميتان السابقتان بخطابية تمجد جيل الشباب على الجبهات، في الخنادق. فالشاب الذي يكمل بلوغه ويشتد عوده بعد ان يكون قد واجه الموت وغلبه على الجبهة هو غير الشاب اللائذ بنفسه بعيداً عن ساح القتال. اليوم، في مجتمعات تعاني من الركود الديموغرافي، لم تعد مثل هذه النغمة متاحة، ومعها صار النهم الى الحرب محدوداً، هذا في مقابل استمرار الرغبة العدوانية بالتدمير. في الحرب الروسية على أوكرانيا اليوم هذه الرغبة بالتدمير هي أعلى بكثير، بخاصة من الجانب الروسي، من الرغبة في انبعاث جيل جديد من الشباب المتفولذ بالحرب. إنها الحرب الهرمة، المتثاقلة، المكتئبة. حرب «لا يُسقى فيها الفولاذ». حرب ليس عندها حل لمشكلة الركود الديموغرافي، مع أن هذا الركود يلعب في حال روسيا دوراً كبيراً في الغيرة على مكانتها الضائعة بين الأمم، رغم رقعتها الشاسعة، وثرواتها الطبيعية، وصواريخها النووية. في الوقت نفسه، مشكلة الركود الديموغرافي لم تعد تنحصر بروسيا، بما يعنيه ذلك من أن الحرب الروسية المكتئبة، والتدميرية بشكل مهول، الحرب من أجل التدمير لا من أجل القتال ولا حتى من خلاله، هي كابوس يعتمل في دخيلة أي مجتمع لا يجد عن الركود الديموغرافي فكاكاً. القدس العربي