مثلما كانت أحداث ال11 من سبتمبر علامة فارقة في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، يختلف ما قبلها اختلافاً كبيراً أو جذرياً عما بعدها، كانت أيضاً على المستوى المحلي داخل الولاياتالمتحدة وبصفة أخص داخل أوساط الأميركيين المسلمين أو ذوي الأصول العربية، إذ عانى هؤلاء كثيراً جراء الارتياب فيهم ومراقبتهم والتضييق عليهم في المطارات، ولا يبدو أن ذلك الوضع انتهى أو في طريقه إلى الانتهاء، بل بات بمثابة الواقع الجديد الذي يتعين عليهم التكيف معه وقبوله والتخطيط لحاضرهم ومستقبلهم بناء عليه، وهذا ما تقوم عليه رواية حديثة الصدور، عنوانها "بين قمرين"، هي الرواية الأولى لمؤلفتها الكاتبة الأميركية المسلمة عائشة عبدالجواد. يكتب إريك أي بونس في موقع "بوك بيج" في يونيو الماضي أن عائشة عبدالجواد تمزج بين نوعين روائيين هما رواية الدراما العائلية ورواية بلوغ الرشد، وإذا كان اسم النوع الأول يكشف بدرجة كافية عما يعنيه، فقد لا تكون هذه هي حال رواية بلوغ الرشد ويقصد بها الروايات التي تتبع نضج شخص ما وانتقاله من الطفولة والصبا وتكوين وعيه وبناء شخصيته، ولعل من أشهر أمثلة هذه الروايات رواية "الحارس في حقل الشوفان" لسالنجر. أما الشخص المرصود في رواية "بين قمرين"، فهو راويها في الغالب، أي أميرة إمام. أميرة ولينة أختان توأم، تبدأ الرواية وقد أنهيتا للتو الدراسة الثانوية، وبدأت إجازتهما. أمامهما المستقبل كله، لكن أمامهما أيضاً الصيف الأخير لهما ما بين الطفولة والرشد، ذلك الصيف الذي تعيشانه تحت قمر شهر رمضان وفي خضم توترات حادة تعتري الحي الذي يعيشان فيه وهو باي ريدج في بروكلين، وتصل إلى بيتهما الصغير نفسه. فالحي يتعرض لهجمات عنف وكراهية منها ما ينال مسجده نفسه، والبيت يستقبل على غير توقع زائراً يربك روتينه. سامي أخ لأميرة ولينة، يبلغ من العمر 23 سنة، فهو أكبر من الفتاتين بنحو ستة أعوام. ومع بداية أحداث الرواية وظهور قمر رمضان، يخرج سامي من السجن قبل سنتين من الموعد المحدد لإطلاق سراحه، فيرجع إلى بيت أبويه وأختيه بعد غياب ست سنوات شخصاً جديداً. لا تعرف الأختان قط الجريمة التي عوقب بسببها أخوهما، لكنها على الأرجح تتعلق بالاتجار في المخدرات، غير أن سامي الذي يرجع إلى البيت يختلف تماماً عن سامي الذي غادره، فالنسخة الحديثة منه هي نسخة الأخ المتدين التي نعرف جيداً من المسلسلات المصرية أنها نسخة لا يسهل التعامل معها. تكتب سارة ريتشيل إيغلمان (موقع بوكريبورتر في ال17 من يونيو 2023) أن "سامي أشد أفراد الأسرة التزاماً بالإسلام وهو غامض التصرفات. تراقبه أميرة عن كثب، وفي الأسابيع التالية لوصوله يقتربان منه أكثر، لكنهما يبقيان على حذر. كما أنها تراقب لينة أيضاً وإن لأسباب مختلفة. فخلافاً لأميرة الحيية المحجبة، لينة جامحة بمعايير الحي الذي يعيشون فيه. وبسبب ارتيادها للحفلات وحاجتها إلى أن تكون محطاً للاهتمام تجد نفسها في مواقف صعبة لا تستطيع أميرة حمايتها منها". ..روابط أسرية في البيت إذاً، أب وأم وثلاثة أبناء. بنتان على الحافة ما بين الطفولة والرشد، إحداهما أميرة، ملتزمة خجول قارئة، تهيئ نفسها لمستقبل جامعي، والأخرى لينة، هي الأجمل والأكثر جموحاً وارتياداً للحفلات وتهيئ نفسها للعمل عارضة أزياء. والثالث هو سامي، ذو التصرفات والعلاقات الغامضة الذي يحاول بطريقته التكيف من جديد مع المجتمع. يجد الثلاثة أن "الروابط الأسرية والإيمانية تجمع بينهم، لكن هذه الروابط قد تستعمل في تقييد حريتهم وكبتها" على حد قول إريك أي بونس. يرصد بونس مزيداً من التعقيد في العلاقات بين الأخوة الثلاثة. "من سوء حظ أميرة أنها تكتشف أن تحرير نفسها من أغلال الأسرة، بخاصة العلاقة بأخويها، أسهل قولاً منه تنفيذاً. وعلى رغم أن لينة تنظر إلى أميرة بتقدير كبير، فأميرة لطالما شعرت بأن توأمها الجامحة الطامحة إلى أن تكون عارضة أزياء تطغى عليها وتطفئ أي بريق لها. في الوقت نفسه يكتنف الغموض سامي الذي يرجع من السجن ليرضى بالعمل مع أبيه في محل 'أبي نواس' للحوم فلا تتقبل التوأمتان ذلك بارتياح". على رغم رحلة الأسرة إلى الشاطئ، لتجديد الروابط والاحتفال بتخرج الفتاتين وإطلاق سراح الشاب، لا تطول هذه اللحظات الوردية، إذ يلقي "رهاب الإسلام ظلالاً كثيفة على القصة. وكثيراً ما تتبادل الشخصيات النكات عن معتقلي 'غوانتانامو' و'أبو غريب'، لكنها نكات ناجمة عن الألم الجمعي والعذاب الذي عاناه الجميع من جراء خطر الكراهية". للوهلة الأولى قد يبدو لقارئ هذه الرواية أن عنوانها البسيط هذا (بين قمرين) ما هو إلا إشارة إلى شهر رمضان الذي يبدأ بميلاد قمر وينتهي بميلاد قمر آخر، لكن مزيداً من القراءة يكشف عن وقوع أميرة التي تعد نفسها شخصاً باهتاً بين شقيقين أطغى حضوراً، أو ربما تكشف عن وقوعها بين مصيرين عليها أن تختار أحدهما، جموح لينة وتدين سامي. في استعراضها للرواية التي "تحبس الأنفاس" على حد عنوان مقالتها، تكتب الروائية نينا لاكور (نيويورك تايمز في السادس من يونيو 2023) عن المشهد الافتتاحي في رواية عائشة عبدالجواد الأولى، إذ "يوقظ الأب ابنته أميرة التي أنهت دراستها الثانوية للتو في اليوم الأول من شهر رمضان لتشاهد القبض على الليبي، صاحب المقهى القريب. في الوقت نفسه تحاول توأم أميرة، وتدعى لينة، أن تواصل نومها. تهرع أميرة برفقة أبيها إلى النزول لمشاهدة ما يجري بينما "الفجر المقبل ينتشر كأنه كدمة أرجوانية هائلة على نيويورك، والمقهى مضاء أسفل مصباح الشارع وكأنه مصباح مسلط عليه في غرفة الاستجواب. مضى الرجال وكلابهم يندفعون داخلين وخارجين، يتكلمون في أجهزة اللاسلكي ويلتقطون الصور الفوتوغرافية". "يقدم هذا المشهد الافتتاحي كثيراً من أجواء الرواية، فهو يكشف شيئاً عن اختلاف طبيعتي شخصيتي الأختين التوأم، ويكشف شيئاً عن الحي الذي تقيم فيه الأسرة وطبيعة جيرتهم، ويكشف أيضاً عمن يوشك أن يتولى دفة السرد ويرينا العالم عبر عينيه، أو بالأحرى عينيها، أي عيني أميرة". تكتب لاكور أننا "نرى العالم بالدرجة الأساسية عبر أعين أميرة، الأخت التوأم الملتزمة التي تبالي بالنظر إلى ما حولها، سنشهد حياة المسلمين في ما بعد ال11 من سبتمبر في ظل مراقبة لا تفتر، وسنحسب مرور الوقت بالشروق والغروب وساعات الجوع والظمأ الطوال في ما بينهما، وسيبدو وقع ذلك كله أشبه بوقع كدمة، مؤلمة وضعيفة، وفي بعض الأحيان جميلة". ..علم أمريكي صغير في مقالة نشرت قبل أسابيع قليلة في موقع "ليت هب" تكتب عائشة عبدالجواد عن انفراد وكالة أنباء "أسوشييتد برس" بخبر عام 2012 مفاده بأن شرطة نيويورك كانت تتجسس فعلاً على الأميركيين المسلمين والعرب، وتخصص مقالتها كلها تقريباً لتصوير أثر الإحساس بالمراقبة عليها. تقول "على مدار السنين، تكونت لدي ردود فعل مختلفة تجاه الإحساس بأنني مراقبة. في البداية، كنت أتصرف وكأنني العلم الأميركي الصغير الذي ثبته أبي في حديقة بيتنا بعد ال11 من سبتمبر، فكنت أجعل من نفسي دليلاً حياً على أن المسلمين أميركيون أيضاً. كنت أتحول إلى النوع 'الصحيح' من المسلمين، أي المعتدل، المعتذر، ذلك تقريباً هو الوقت الذي تظاهرت فيه لوهلة أنني أحب الموسيقى الريفية بقدر حب زملائي في مدرسة فرجينيا الثانوية لها". والحق أن ثمة تماثلات لافتة للنظر بين شخصية أميرة وشخصية عائشة عبدالجواد نفسها وليس أقلها أن الاثنتين عملتا في "اتحاد العرب الأميركيين بنيويورك"، وهو هيئة خدمية اجتماعية تدعم المهاجرين، لكن لعل أهمها أنهما عانتا طويلاً إحساس الخضوع للمراقبة المفروضة على الاتصالات وحسابات التواصل الاجتماعي وكل نشاط يجري على الإنترنت، الأمر الذي أدى بكلتيهما إلى محاولة الاختفاء. تكتب لاكور أنه "مع تقدم رمضان، تداعب أميرة ولينة رؤى ذاتيهما في المستقبل. تقع لينة في شرك المخدرات والجنس والنوادي الليلية والرجال الكبار وتقع فريسة للاستغلال والاعتداء الجنسيين في سياق سعيها المشؤوم إلى أن تصبح عارضة أزياء. على النقيض منها، تتوق أميرة إلى أن تكون شخصاً لا يمكن التعرف إليه، لا يمكن تعقبه، لا يمكن تتبعه، فيما تقع في قصتها الغرامية الخاصة". تعلق لاكور بأن "ثيمة الظهور والاختفاء مطروقة كثيراً في أدب بلوغ الرشد النسائي وبأن كثرة تناولها ترجع إلى سبب وجيه، فطري تقريباً "فمن منا لم يرد أن يظهر أجمل ما في نفسه للناس؟ ومن منا لم يرد أن يختفي أحياناً عن الحملقة الدائمة؟". وتضيف، "بسبب إحساسهما بالكراهية خارج الحي الضيق الذي تعيشان فيه وإحساسهما بالانحصار والخضوع للسيطرة داخله وبسبب الاضطراب الناجم عن النشأة في ظل الرقابة التي فرضتها شرطة نيويورك على الوسط العربي في المدينة، تعلمت الفتاتان أنه لا يمكن الوثوق بأحد، ولا حتى بنفسيهما". تكتب عائشة عبدالجواد في مقالة بموقع "ليت هب" أنها كانت تخشى من مجرد إجراء البحث اللازم لتأليف هذه الرواية من خلال "غوغل"، وتحكي عن واقعة مشاهدتها بعض فيديوهات "داعش" بهدف معرفة علم الجماعة لوصفه في الرواية، قائلة، "كنت أغادر صفحة الفيديو فور أن أشاهده وأسارع إلى محو تاريخي البحثي. وأضحك من نفسي بعد ذلك، لكن في بعض الأحيان، في ذلك البيت الهادئ الساكن في الرابعة صباحاً، كنت أتخيل حذاء عسكرياً يركل بابي وكيساً يوضع على رأسي وشاحنة تنتظر على العتبة مفتوحة الأبواب". تكتب لاكور أن التوتر الناجم عن كون أميرة فتاة مسلمة مراهقة في نيويورك ما بعد ال11 من سبتمبر يحتدم في أعقاب عمل عنيف غامض تعرض له مسجد الحي، ويتأكد ذلك مع كل ظهور لسامي في صفحات الرواية. سامي خرج للتو من السجن الذي قضى فيه ست سنوات وفور عودته تقول أميرة "حاولت أن أتجاهله، ذلك الشريك الغريب في السكن، ذلك الطالب الأجنبي المقيم معنا، ذلك المتطفل على غرفة معيشتنا، لكنني لم أستطع ألا أرقبه. وهو الآخر يرقبها، فالاثنان مشتركان في رقصة رهيفة ينفطر لها القلب، رقصة توق مكتوم إلى التواصل". ولكن على رغم القلق الذي يتسبب فيه حضور سامي، تبقى شقة الأسرة ملاذاً لأميرة ولينة، فهي مكان يسهل فيه الحصول على الغفران والفهم ويتجسد الحب ويحوي مساحة للاختلاف. في حوار مع عائشة عبدالجواد في إذاعة أميركا الوطنية (في السادس من يونيو 2023) يسأل آري شابيرو عن العبارات والكلمات العربية الكثيرة المتناثرة في ثنايا الرواية مما قد يفهمه القارئ غير عربي الأصل من قبيل كلمة "حبيبي" أو لا يفهمه. فتقول عبدالجواد، "لم أشأ أن تكون هذه الرواية أشبه برواية تعريف تقدم العرب والمسلمين إلى الأميركيين البيض. لكنني أردت قارئي أن يتقبل لحظة لا يفهم فيها ما يقرأه فهماً كاملاً. أردت أن يقول لنفسه، حسناً أنا خارج بعض الشيء عن هذا العالم وهذا إحساس يعتري المهاجرين في هذا البلد طيلة الوقت". ويسأل شابيرو "في روايات بلوغ الرشد تتخذ الشخصيات لا محالة قرارات خاطئة. وأعتقد بأن أبناء أي مجتمع مهمش كثيراً ما يشعرون بأنهم لا بد من أن يرسموا صورة مثالية لأنفسهم يعرضونها على العالم. لكنك كتبت بعض الوقائع المتعلقة بالمخدرات والجنس ومشاهد أخرى مروعة، ألم تخشِ من أن ذلك قد يجعل المجتمع يبدو في مظهر سيئ؟ ألم يحذرك أحد من ذلك؟". تقول عبدالجواد إن "هذه الفكرة خطرت لي ولا شك وكان علي أن أصرفها بطريقة ما عني. وأرجو أن يقرأ العرب والمسلمون هذه الرواية ويرونها لا بوصفها نقداً لمجتمعاتنا، وإن يكن فيها بالطبع انتقادات للمجتمع شأن أي مجتمع، لكن بوصفها في حقيقتها رسالة غرامية. وأعتقد بأن أفضل أنواع الرسائل الغرامية هو ما يكون معقداً". ..أشباح "أبو غريب" و"غوانتانامو" يكتب إريك بونس أن أشباح "أبو غريب" و"غوانتانامو" ومراقبة الشرطة تسيطر على أجواء الرواية، فضلاً عن الخوف من الكراهية المحيطة بالمسلمين في أميركا "وتجد بعض الشخصيات سبلاً لمقاومة هذا البغض، ومن هؤلاء فرج، الأميركي الأكبر سناً من الإخوة الثلاثة، وهو ليس من أصل عربي، وحينما يقترب من أميرة تشعر بأنه أكثر اهتماماً بسامي عنها، وتحذرها لينة من المضي قدماً في علاقتها به، لكن علاقة عاطفية تنشأ على رغم ذلك بين أميرة وفرج "الذي يعلمها كيف تجمع بين الناس" ويقنعها بالعمل معه في منظمة لرعاية المهاجرين. وفي الوقت نفسه يتفانى سامي في تدينه حتى تنشأ له في جبهته "عين ثالثة" من أثر السجود. ثمة إذاً مساران واضحان، مسار لينة، عارضة الأزياء الجامحة، ومسار سامي البائع المتدين. وفضلاً عن المسارين، هناك مسار أميرة التي تحاول، بإرشاد من فرج، الجمع بين أبناء الأصل الواحد والمسارات المتباينة. يكتب إريك بونس أن "الرواية تنتهي من دون أن نعرف هل أثمرت هذه الجهود تغيرات ملموسة، ولكن لا قيمة حقاً لهذا. فالتقارب بين الناس وإحساس بعضهم بالآخر، مهما يكن ما مر به كل واحد منهم من تجارب، هو ما تدعو إليه رواية عائشة عبدالجواد وتناصره. وهي رسالة بالغة القوة".