يؤنسن الجزائري عبد الوهاب عيساوي الأمكنة التي يصورها في روايته "سينما جاكوب"، التي يسبر فيها واقع ولاية "الجلفة". يقف على المتغيرات التي طالت بنيتها الاجتماعية والاقتصادية بالتناسب مع الطراز المعماري الجديد الذي أدخل عليها، ما أفقدها معالمها الأصيلة، وأبداها غير منتمية إلى تاريخها وجوارها وطبيعتها، فبدا التطوير تشويها والتحديث امتهانا واستلابا. سلطة الغرباء وتسلطهم على مقدرات البلاد، تحظى بالاهتمام الرئيس لدى عيساوي في روايته - التي نشرتها مؤخرا دار "فيسيرا" بالجزائر-، وكأنه يستعرض تحول الاستعمار المتجدد وأدواته وتغييره لبوسه ليزيد إحكام قبضته على البلاد. في الفصول الستة التي تشكل بنيان الرواية وهي: "العودة"، "الفارس الآشوري"، "اعتراف"، "سينما جاكوب"، "الوهم"، "الجسر وهواجس العبور"، ينتقل عيساوي بين محاوره التي تعاين تقاطع الداخل والخارج لضرب الانتماءات. ينطلق من توصيف "جلفا" عبر التركيز على حالة الغزل التي يستهل بها، والتي قد توصَف بأنها وقفة على الأطلال، وكأنه بصدد إنشاد قصيدة رثاء تستبطن هجاء المتحكّمين بمفاصل البلدة وحياة أبنائها. يحكي عيساوي عن سعي الغرباء للهيمنة على المكان، يستذكر حقبة الاستعمار التي يعرج عليها سريعا، ثم ينتقل إلى الوافدين بعد مرحلة الاستقلال، وتغول الفساد، بعد أن تقاطعت مصالح أولي الأمر والمتنفذين والسماسرة لتقاسم المصالح والامتيازات، ورسم خريطة البلدة بما يتوافق مع سياساتهم ورغباتهم. والأحلام الماضية والأمكنة الأثيرة تسكن روح أبطال عيساوي. تراه يحمّل بطله "محمود" كثيرا من الحنين المتشذر في مختلف الاتجاهات، حتى أن ذلك الحنين قد يصل إلى درجة مرَضيّة أحيانا، وقد يوصَف بأنه "حنين إلى الاستعمار"، بخاصة حين استذكار الحقبة التي سيطر فيها على البلاد، والإيحاء أنه برغم ممارساته الرهيبة إلا أنه كان يداري جانبا من الرأفة بالمعالم أحيانا، أو أنه يبني معالم تشهد عليه مستقبلا بنوع من السعي لتملك الفعل المستقبلي وتوجيهه، وتدين الحكام الجدد جراء إهمالهم المريع. شخصيات الروائي تحمل خطابه السياسي والاجتماعي، فالراوي "محمود" يلملم شتاته وتردده ويجمع خيوط المحيطين به في شبكة محبوكة، و"عمران" يكون حصان الرهان القادم إلى بلده متحفزا للمبادرة الإنقاذية، في حين أن "الباهي" يعكس صورة الشر المتمثلة في تزاوج الفساد السلطوي بالجشع ومن ثمّ يؤدي الأمر إلى التكالب على المقدّرات.