والي ولاية الجزائر يتفقد مشاريع تهيئة وعصرنة الجهة الغربية لخليج العاصمة    العدوان الصهيوني على غزة : غوتيريش يدعو الى ضمان إيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق    توقيع اتفاقية تعاون بين المعهد الوطني للصحة العمومية والجمعية الجزائرية للقانون والأخلاقيات الطبية    البطولة الوطنية للجيدو أواسط فردي: انطلاق المنافسة بوهران    صيد بحري : شرفة يؤكد توفير التسهيلات لتشجيع منتجي أغذية وصغار الأسماك    الوادي : أكثر من 30 متنافسا في المسابقة الوطنية "ستارتون'' لإنشاء البرمجيات الإلكترونية    سطيف: الطبعة الثالثة للأيام الدولية لألعاب الخفة بداية من الأحد المقبل    حركة "بي دي آس" تدعو للضغط على المخزن لوقف استخدام موانئ المغرب في تسهيل إبادة الشعب الفلسطيني    شركة الخطوط الجوية الجزائرية تطمح أن تكون رائدا افريقيا للنقل الجوي    تأهل النادي الرياضي القسنطيني إلى نصف النهائي كأس الكونفيدرالية الإفريقية: ليلة لا تنسى بمدينة الجسور المعلقة    بطلب من الجزائر والصومال, مجلس الأمن يعقد اليوم الخميس اجتماعا بشأن الوضع في سوريا    أزيد من 1,4 مليون شخص يستفيد من المنحة الجزافية للتضامن "    بلمهدي، بزيارة تفقدية للديوان الوطني للأوقاف، بالعاصمة    إدانات الدول العربية والإسلامية لم تعد مقبولة!    اتفاقية جزائرية قطرية    الرئيس يستقبل زغيب    كأس الكونفدرالية الإفريقية /ا.الجزائر-ش قسنطينة: "السياسي" يحقق المفاجأة ويبلغ "المربع الذهبي" لأول مرة في تاريخه    صادي يُجدّد الحرص على مرافقة الأندية    تسويق السيارات تحت مجهر السلطات    زيتوني يترأس اجتماعا تنسيقيا    الحكومة الصحراوية تعرب عن أسفها العميق    الجزائر تتأسف لتأكيد الولايات المتحدة على موقفها    هذا آخر أجل لمغادرة المعتمرين    وزير الصحة يعقد اجتماعاً تنسيقياً    منصوري تلتقي بنائبة وزيرة العلاقات الدولية لجنوب إفريقيا    استرجاع 1200 متر من الكوابل النحاسية المسروقة ببوشقوف    استشهاد 30 مواطنا بينهم أطفال ونساء بحي الشجاعية    إرهابي يسلم نفسه وتوقيف 9 عناصر دعم للجماعات الإرهابية    عطاف يشرع في زيارة رسمية إلى تونس    منظومة مراقبة إلكتروبصرية ورادارات لتأمين الحدود    الجزائر كانت ولا تزال نصيرا للقضايا العادلة    رئيس الجمهورية يعزّي في وفاة المقدم جولم لخضر    اتفاقية بين الجزائر وقطر للتعاون في خدمات النّقل الجوي    هاجس الحساسية.. هذا هو الحل    مساعٍ للتعريف بمخزون "مادور" و"خميسة"    حملة تحسيسية وطنية ضد تعاطي المنشطات    بلايلي تحت صدمة إقصاء الترجي من دوري الأبطال    عرض جوانب خفية من أعظم ثورة    ملتقى وطني للنحت احتفاءً بالفنان محمد بوكرش    بهجة الحياة مع إطلالة مواسم الربيع    مازة يكشف سرَّ توهج هيرتا برلين    الفرنسيون يهاجمون بن ناصر بقسوة    لقاء علمي حول حفظ وصيانة المخطوطات    الحضارات الإنسانية لا تعادي الثقافات النبيلة    صحة : اجتماع تنسيقي لدراسة القوانين والأنظمة التعويضية لموظفي القطاع    جامعة التكوين المتواصل تنظم الدورة التكوينية الثانية في المقاولاتية    "زمالة الأمير عبد القادر": أكبر سفينة صيد بحرية جزائرية محلية الصنع تنزل المياه من ميناء المرسى بالشلف    الطبعة ال27 للصالون الدولي للصحة "سيمام" تنطلق بوهران بمشاركة 600 شركة من 38 دولة    حوادث المرور: وفاة 6 أشخاص وجرح أكثر من 270 آخرين خلال ال 24 ساعة الأخيرة    الفيفا تنظم ندوة حول بالجزائر    ورشة لتقييم نظام الأدوية واللقاحات    الجزائر محمية باللّه    اليوم العربي للمخطوط: لقاء علمي بالجزائر العاصمة حول حفظ وصيانة المخطوطات    فنزويلا "ضيف شرف" الطبعة 14 للمهرجان الثقافي الدولي للموسيقي السيمفونية    سيدي بلعباس..إبراز أهمية دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في تطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي    اللهم نسألك الثبات بعد رمضان    لقد كان وما زال لكل زمان عادُها..    أعيادنا بين العادة والعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وَصيّةٌ مِن مُشفِقٍ ! (إنَّ السَّعيدَ لَمَن جُنِّب الفِتَنَ)
نشر في الهداف يوم 23 - 11 - 2014

فَلَقَد حَلَّ بالأُمَّةِ الإسلاميّة رَزيّة عَظيمة ، وفِتنَة عَمياء ، أَقضَّت مَضاجِعَ الدُعاة الصالحين والمُجاهدين الصادقين ، وأفرَحَت أعداء الأُمَّة مِن الكُفَّار والمُنافقين ، ألا وهي : ما حَلَّ بإخواننا المُجاهدين في بلاد الشام مِن تَفَرُّق وتَحَزُّب تَحوَّلَ فيهِ الأمر مِن حَربٍ بارِدةٍ بالبيانِ إلى حَربٍ ساخنة بالسنان ، والله غالِبٌ على أمرهِ وهو العَليمُ الحَكيم { وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } ، نسأل الله عزَّ وجَلَّ أن يرحمَ الأُمَّة ويكشف الغُمَّة ، ويجعل فيما أرادهُ الخيرَ وحُسن العاقبة لعِبادهِ الصادقين المُتَّقين .
ولَقَد وقع في هذهِ الفِتنةِ مَن وقع ، فَمِنهم مَن شارَك فيها بِلسانهِ ، ومِنهم بقَلَمِهِ ، وِمنهم بِسنانهِ :{ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، و ( إنَّ السَّعيدَ لمن جُنِّبَ الفتنَ ) [ أبو داود 4263 ، وصححه الألباني ] ، ولَقَد حَذَّرَنا الله عَزَّ وَجلَّ في كِتابهِ الكَريم مِن هذهِ الفِتَن ، فقالَ سٌبحانه : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، وقالَ سُبحانَه : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
كَما حذَّرنا مِن هذه الفِتَن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلَّم حيث قال : ( ستكونُ فِتَنٌ ، القاعِدُ فيها خيرٌ مِنَ القائِمِ ، والقائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي ، والماشي فيها خيرٌ من الساعي ، ومَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ ، ومَنْ وجد مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ ) [ البُخاري 3601 ، مسلم 2886 ] ، وعن أبي هُريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفْسِي بيدِهِ لا تذهبُ الدُّنيا حتَّى يأتيَ على الناسِ يومٌ ، لا يَدري القاتلُ فِيمَا قَتلَ ولا المقتولُ فيمَ قُتلَ ، فقيلَ : كيفَ يكونُ ذلكَ ؟ قال : الهرْجُ ! القاتلُ والمقتولُ في النارِ ) [ مسلم 2908 ] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ويل للعرب من شر قد اقترب ، أفلح من كف يده ! ) [ أبو داود 4249 ، وصححه الألباني ] ، والأحاديث في ذلك كثيرة .
أمَّا خَوف السَلَف مِن الفِتَن ، وهروبهم منها ، ومواقفهم منها ، فكثيرة جدًا ، مِنها :
أنَّ عبدالله بن عُمَر رضي الله عنها قال : ( إِنَّمَا كَانَ مَثَلُنَا فِي الْفِتْنَةِ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا يَسِيرُونَ عَلَى جَادَّةٍ يَعْرِفُونَهَا ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ وَظُلْمَةٌ ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَمِينًا وَشِمَالا فَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكَنَا ذَلِكَ حَتَّى جَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا ، فَأَبْصَرْنَا طَرِيقَنَا الأَوَّلَ فَعَرَفْنَاهُ وَأَخَذْنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا هَؤُلاءِ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ يَقْتَتِلُونَ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ، مَا أُبَالِي أَنْ يَكُونَ لِي مَا يُفَتِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ الْجَرْدَاوَيْنِ ) . [ سير أعلام النُبلاء : 3 / 237 ] .
وعن ابن سيرين قال : لَمَّا قيلَ لسعد بن أبي وَقَّاص رضي الله عنهُ : " ألا تُقاتِل ؟ ، إنَّكَ مِن أهل الشُورى ، وأنتَ أحق بهذا الأمر مِن غيرك " ، قال : ( لا أُقاتِل ! حتى يأتوني بسيفٍ لهُ عَينان ولِسان وشَفَتان ، يعرف المؤمن مِن الكافِر ، فَقَد جاهدتُ وأنا أعرِف الجِهاد ! ) . [ مجمع الزوائد : 7 / 584 ] .
وقالَ علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ وهو يثني على موقف سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما في اعتزالهما الفتنة ويغبطهما : ( .. للهِ منزِلٌ نزلَهُ سعْدُ بنُ مالِكٍ وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ واللهِ لئِنْ كان ذنبًا إنه لصغيرٌ مغفورٌ ولئن كان حسَنًا إنه لعظيمٌ مشكورٌ ) . [ الطبراني : 1 / 106 ] وفي ضوءِ كلام ربنا سٌبحانه ، وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومواقف سلفنا الصالح ، أُوجِّه هذه الوصايا لأبنائي وإخواني المُسلمين ، ولا سيما الدُعاة منهم والمجاهدين ، وذلك بعدَ أن انشرح صَدري لاعتزال جميع أطراف الفتنة ، وعَقَدتُ العَزمَ إن شاء الله تعالى على إمساك اللسان ، وعَدم استقبال أي طرح أو نقاش فيها ، فلم يبق من العمر فسحة في أن يضيع في القيل والقال ، فلقد استحصدَ الزَرع ، ومالَت شمس العُمر للغروب ، ودخلتُ عشر السبعين ، معترك المنايا ، فأرجو من الإخوان المُحبين أن يلتمسوا لي العُذر في عدم التجاوب معهم في الحَديث عن هذه الفتنة حتى تنجلي ، وأرى حَقًّا عليَّ نَحو نَفسي وإخواني أن أَتوجَّه إليهم وأمواج الفِتَن تتلاطم بالوصايا التالية :
الوَصيّة الأولى : أَمسِك عليكَ لِسانك .
عن عُقبة بن عامر رضي الله عنهُ قال : قلتُ : " يا رسولَ اللهِ ، ما النَّجاةُ ؟ " ، قال : ( أمسِكْ عليكَ لسانَكَ ، وليسعْكَ بيتُك ، وابكِ على خطيئتِكَ ) . [ حديث حسن الترمذي 2406 ، وصححه الألباني ] .
هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجاة من الفتن ، ولا يَندَم مَن أمَسَكَ لسانَهُ أيام الفِتَن ، وإذا كانَ لا بُد متكلّمًا فليكن رائدهُ الإخلاص ، لا حَظَّ نفسه ، والحَذّر من الكَلام بلا علم ولا تثبّت ، فما أكثرَ الكلام اليوم بلا عِلم ، بل بالظنون السيئة والافتراءات الكاذبة وترديد كلام مَن يميل إليه ويحبه دونَ تثبّت وتوثق ، وليتحرَّ العَدل والإنصاف مَعَ مَن يُحبُّهُ ومَن يَكرههُ ، قال الله عز وجل : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ، وقالَ سُبحانه : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، ولأنَّ هذه الضوابط عَزيزة ، وقليلٌ مَن ينضبط بها ، فلا سَلامَة ولا عَافية أفضَل مِن إِمساك اللسان والقَلَم ، وقَد عَدَّ كثيرٌ من السَلَف فِتنَة اللسان في أيام الفِتَن كفتنة السيف أو أشد ، وهذا حَق ؛ لأنَّ السيف إذا ضُرِبَ به أحدٌ أَثَّر فيهِ وَحدَهُ ، وأما اللسان فيُمكِن أن تُضرَب بهِ ألف نسمة بمُجرد كَلمة يٌتَفَوَّهُ بِها ! ، بل قَد عَدُّوا المَيل القَلبي مَع فئة مِن المُسلمين ضِدَ فئة مِن الوقوع في الفِتَن .
الوَصية الثانية : التؤدة التؤدة ، والرفق الرفق .
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأشجُّ عبْدِالقيسِ : ( إن فيكَ خصلتينِ يحبهُما اللهُ : الحلمُ والأناةُ ) [ مسلم 17 ] ، ومَدَحَ صلى الله عليه وسلم التؤدَة والأناة بقوله : ( التُّؤدةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلَّا في عملِ الآخرةِ ) [ أبو داود 4810 ، وصححه الألباني ] ، وقال صلى الله عليه وسلَّم : ( إنَّ الرِفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانهُ ، ولا يُنزَعُ مِن شيءٍ إلا شَانَهُ ) [ مسلم 2594 ] ، وإذا كَانَت التؤدَة والحلم والرِفق مَحمودة في كل وقت ، فإنها في أيام الفِتَن تَكون الحاجة إليها أشد ، وآثارها الحَميدة تَكون أكثر ، وقَد مَرَّ بِنا موقف ابن عمر رضي الله عنهُ مِن الفِتنة ، وتشبيهُهُ لها بقومٍ غَشيتهم سَحابَة وظُلمَة ، حيث لم ينجُ مِنها إلا المتريَثون على الجَادة الأولى ، وهَلَكَ من عجل ، وذهبَ ذاتَ اليمين وذات الشِمال . ويقول مطرّف بن الشخَير رحمه الله تعالى : ( لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إليَّ مِن أن ألتمِسَ فضل الجِهاد بالتغرير ) . [ سير أعلام النبلاء : 4 / 191 ] .
وإنَّ مما يُعين على التؤدَة والأناة : كَثرَة المشاورة لأهل العِلم الراسخين الربَّانيين وأهل العقل والتجربة ، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهوَ مَن هُوَ دينًا وعِلمًا وعَقلًا ويُنزل عليه الوحي ، يقول عنهُ أبو هريرة رضي الله عنهُ : ( ما رأيت أحدًا أكثر مُشاورةً لأصحابه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . [ صحيح ابن حبان : 11 / 217 ] ، وينبغي الحَذَر من مشاورة المُسارعين إلى الفِتَن ممن قلَّ عِلمهُ وتَقواهُ .
ومما يُعين على السَداد وموافقة الَحق وتجنّب الفِتَن كَثرة استخارة الله عزَّ وَجلَّ ؛ لأنهُ الذي يَعلم ولا نَعلم ، ويقدِر ولا نَقدر ، وهو عَلّام الغيوب .
والتؤدة اليوم تتحتَّم في نقل الكَلام والتثبّت مِن صحتهِ ،وعدم نشره بلا بينة توثقه كَما تجب في الحُكم على الناس بالكفر والتبديع والتفسيق ، وتكون في اتخاذ المواقف في الحب والنُصرة والمُوالاة ، وفي البغض والهجر والمُعاداة ، كما تَنبغي التؤدة في الحكم على الوقائع والنوازل .
الوصيّة الثالثة : اعتزل جَميع أطراف الفِتنة ، كلهم !
هكذا كانَ عمل أكثر السَلَف رحمهم الله تعالى ، ففيه السَلامة والعافية ، فمَن أراد لنفسهِ النجاة من الفِتنة ، فليعتزل أطرافها ، بقلبهِ ولسانهِ ويده ، وهَذا ما وَجَّهَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومما يتَعلَّق بالعُزلَة في زماننا اليوم : اعتزال مواقع الشبكة العنكبوتية ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، وهجر الكتابة فيها ، ومتابعة الشائعات والمهاترات التي تدور فيها ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ... ومَن استقرأ أحوال الفِتَن التي تجري بين المسلمين ، تَبيَّنَ لهُ أن ما دَخَلَ فيها أحد فحَمِدَ عاقبة دخوله ، لما يحصل من الضرر في دينه ودنياه ، ولهذا كانت من باب المنهي عنه ، والإمساك عنها مِن المأمور به " . [ منهاج السنة 4/ 410 ].
ولا يُنجي العَبد المتورِّط في الفِتَن أن يُقَلِّد في ذلكَ أحدًا مِن المَتبوعين المُحرِّضين عليها بتأويل أو غير تأويل ، فلا ينفعهُ ذلك عندَ الله عز وجل : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، ولا ينفعهُ ما يُقال لهُ من وُجوب طاعة الأمير ؛ فإنَّهُ لا طاعَة في معصية الله تعالى ، والمُسلم لم يترك أهله ووطنه إلا لقتال الكفار يبتغي بذلك رضى الله عز وجل وجَنَّتَهُ ، فإذا تَحوَّلَ هذا الجِهاد إلى قِتالٍ بين المسلمين ، فليعتزل لئلا يدخل بمشاركتهِ في ذلك نار جهنم بقتل نفس مسلمة .
الوَصية الرابعة : الإكثار من العمل الصالح .
إنَّ للعمل الصالِح وكَثرة العِبادة وكثرة ذكر الله عز وجل واستغفارهِ أثرًا عظيمًا في الوقايةِ من الفِتَن والكُروب ، قبل وقوعها والنجاة منها إذا وَقَعتَ ، قال تعالى عَن نَبيّه يونس عليه الصلاة والسلام : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، قال السعدي رحمه الله تعالى أي : " في وقته السابق بكثرة عبادته لربه ، وتسبيحه ، وتحميده ، وفي بطن الحوت حيث قال: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} " .
ومِن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( بادِروا بالأعمالِ فتنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ ، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا ، أو يمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا ، يبيعُ دينَه بعرضٍ من الدنيا ) . [ مسلم 118 ] ، وفي هذا حَثٌّ على الأعمال الصالِحة قبل تعذّرها والانشغال عنها بما يحدث مِن الفِتَن الشائكة المُتكاثِرة .
ومِن الآثار الواردة أيضًا في فضل العمل الصالح والعبادة أيام الفِتَن ما رَواه مَعقل بن يسار رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٌ إليَّ ) . [ مسلم 2948 ] ، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : " وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين ؛ فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ، ويتبع مراضيه ، ويجتنب مساخِطه ، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤمنا به ، متبعا لأوامره ، مجتنبا لنواهيه " .[ إتحاف الجماعة للشيخ حمود التويجري : 1 / 93 ].
الوصية الخامسة : الدعاء ، الدعاء !
دُعاء الله عَزَّ وَجل ، والتضرّع إليه ، والاستعانة به ، والتبرؤ من الحَول والقوّة ، مِن أنجع الوسائل وأنفعها في الوقاية مِن الفتن والنجاة منها ، وفي الِهداية إلى الحق والثَبات عليه ، لا سيما عند التباسهِ بالباطل واختلاف الناس فيه ، وذلكَ لأنَّ مالِكَ القلوب ومُقلّبها هو الله عز وجل ، لا يهدي إلى الحق ، ولا يثبّت العَبد عليه إلا هو :( من يَهدِهِ اللَّهُ فلاَ مضلَّ لَهُ ، ومن يضلل فلاَ هاديَ لَهُ ) ، قال الله عز وجل : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء } ، وقال سبحانه عن نبيّه نوح عليه الصلاة والسلام مع ابنه : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } ، وقال عز وجل عن دعاء كليمه موسى عليه الصلاة والسلام بعد ما أخذت قومه الصاعقة : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } ، ومِن أنفع الأدعية في ذلك ما كانَ يدعو به صلى الله عليه وسلم ويحافظ عليه كل ليلة في الاستفتاح به في قيام الليل : ( اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ ، أنت تحكم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدِني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِك إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم ) . [ مسلم 770 ] ، ومِن ذلك ما رواه زيد بن ثابت رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تعوَّذوا باللهِ من الفتنِ ، ما ظهر منها وما بطن ) ، قالوا : " نعوذُ باللهِ من الفتنِ ، ما ظهر منها وما بطن " . [ مسلم 2867 ] .
وكذلك ما رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيتُ ربِّي في أحسَنِ صورةٍ ) – يعني في المنام - .. إلى أن قال : ( إذا صلَّيتَ قل اللَّهمَّ إني أسألُكَ فعلَ الخيراتِ وتركَ المنكراتِ وحبَّ المساكينِ وإذا أردتَ بعبادِكَ فتنةً فاقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ ) . [ الترمذي 3231 ، وصححه الألباني ] .
وهكذا كاَن دأب السَلَف عند الفِتَن ، حيث يلجأون إلى الله عز وجل ، ويَدعون بأن يُنجّيهم من الفِتَن ، فعَن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال : " لما طعنوا على عثمان رضي الله عنه ، صلى أبي في الليل ، ودعا ، فقال : " اللهم قني من الفتنة بما وقيت به الصالحين من عبادك " ، فما أخرج ولا أصبح ، إلا بجنازته . [ سير أعلام النبلاء 2 / 335 ] .
ومما ينبغي الإلحاح عليه والدُعاء به : سؤال الله عز وجل أن يجمع كلمة المجاهدين ، وأن يوحِّد صفوفهم ، ويؤلِّف بين قلوبهم وأن يُعيدهم من الفرقة والإختلاف وأن يرفع ما حل بهم من الفتنة .
أسأل الله عز وجل أن يقيني والمسلمين من الفِتَن ما وقى به الصالحين من عباده ، كما أسأله سبحانه أن يوحِّد صفوف الدعاة والمجاهدين وأن يؤلِّف بين قلوبهم ، وأن يقيهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.