قد يبدو هذا السؤال في نظر البعض من الأوليات، لكن لا بأس من الرجوع إلى الأساسيات إذا كنا لا نستوعب الدروس جيدا، نحاول فهم دوافع الكيان الصهيوني للاستماتة في رفض حتى فكرة تجميد الاستيطان، ناهيك عن إزالته كليا على رغم ثمنه الباهظ لجهة الإضرار البالغ بصورة إسرائيل دوليا.نحاول الفهم بعيداعن الأفكار الجاهزة التي يتم التمترس خلفها منذ زمن طويل. ونلتزم التركيز والإيجاز لأن الإسراف في اللغو غالبا ما يكون مرادفا لضحالة الفكر وانعدام الرؤية. هناك ثلاثة أسباب رئيسة تشكل روافد تغذي"الهوس الاستيطاني"لدى العدو، وتعكس كلها قوة العقل الاستراتيجي الجبار للنخبة الحاكمة في تل أبيب في مواجهة السطحية النسبية التي تميز السياسة الرسمية العربية المنتهجة منذ عقود. يتعلق السبب الأول بفكرة (العمق الاستراتيجي)، لديك دولة صغيرة جداجغرافيا وسط مساحات شاسعة مملوءة ب"الأعداء". لن تكون آمنة مطلقا بعرض في إقليمها لا يتجاوز كيلومترات محدودة، ظلت الجغرافيا أحد الهواجس الكبرى للمشروع الصهيوني،لا يتعلق الأمر بالتعنت والغطرسة والصلف إلى غير ذلك من مفردات الشتيمة العربية البالية، إذ إن هناك رؤية، والرؤية تحتاج إلى أرض وإلى إقليم ذي مساحة كافية كي تتجسد عليه، وبما أن الرؤية طموحة وذات آفاق بعيدة فمن البديهي أنها تتطلب إقليما يتمدد باستمرار، أو على الأقل يحافظ على قدر مقبول ومعقول استراتيجيا من المساحة. سؤال: كيف ستواجه إسرائيل شعوبا انفلتت من عقال حكوماتها(التي قد تتحول إلى دول فاشلة) بينما تقف على شبر أو شبرين من الأرض؟ حينها لن تكون مقولة رمي إسرائيل في البحر بعيدة عن الواقعية. من وجهة النظر هذه يعتبرالاستيطان/التوسع الجغرافي حاجة مصيرية ووجودية لهذا الكيان، وهو في هذا الشأن بصدد المقارنة بين تكلفتين: عبء ضغط دولي وصورة مهتزة في العالم، أو سقوط أحد أهم مقومات المشروع الصهيوني ممثلا بالجغرافيا. لدى النخب في إسرائيل وعي فذ وجدير بالإعجاب-مع الأسف-بالوضع العام للدولة وتطورها،انطلاقا من مراحل ما قبل التأسيس وصولا إلى مخاطر ما بعد الوجود. وجدوا حقائق التاريخ تناقض بشكل عام مقولاتهم عن حقوقهم الأصيلة في الأرض المقدسة، فاتجهوا نحو الجغرافيا. أنا أزعم أن الاستيطان بالنسبة لأولئك هو أهم قضية تخوضها إسرائيل الآن وفي المستقبل، وحتى أهم من التهديد الإيراني المزعوم بحسبهم، مع عدم التقليل من شأنه بطبيعة الحال، مع إيران هم في مواجهة دولة، وحلفاؤهم كثيرون وسيقفون بجانبهم في أي تصادم محتمل، لكن في مواجهة ثوابت الجغرافيا (بفرض أنهم لم يكونوا على وعي بأهميتها) من المستحيل أن يفعلوا شيئا. تكلفهم السيطرة على الضفة عناء أمنيا وسياسيا، لكنه عناء من النوع الذي يمكن احتماله والتعايش معه ما دام أنه يوجد في المعسكر المقابل من يرى الخضوع حكمة والمقاومة عبثا.حادث هنا وحادث هناك، والأمور تسير،أما التخلي عن الضفة فهو-دون مبالغة-بداية النهاية، وربما بأسرع مما يتصور حتى أشد المتفائلين عندنا والمتشائمين عندهم. من الأفضل أن نهرع لعقولنا، ونكف عن الركون لآمال كاذبة تغذيها مفاهيم مغلوطة لدى العرب أو أضغاث أحلام من اليسار الإسرائيلي البائد الذي أصبح تاريخا، ففي صميم العقل كما في وجدان الإسرائيليين ثوابت منها بلاد (يهودا والسامره كما يسمونها) وغور الأردن،لا تفاوض إلا على قاعدة السماح للفلسطينيين العيش فيها كجالية من درجة دنيا. لن تجامل إسرائيل أمريكا على حساب مقوماتها الوجودية، وهذا درس آخر للمراهنين على"الحليف" الأمريكي، ومن هذا المنطلق يمكن رؤية بوضوح أنه لن تقوم دولة فلسطينية بالمعنى المعروف أبدا، اللهم دولة (أو نظام أمني واقتصادي تابع) يتبنى وظيفة المقاولة من الباطن لإنجاز عدد من مهام الضبط والسيطرة، وتلك مهمة بائسة نشفق على من يسعى لشغلها. لنفترض أن قيادة فلسطينية ما رضيت بالتخلي عن حق العودة، وقبلت إسرائيل بمبدأ قيام الدولتين، هل يستطيع أحد منع فلسطيني العالم من زيارة دولتهم والعيش فيها، وكذا الاستثمار وإعادة تشكيل الكيان الوطني سياسيا واقتصاديا؟ من يملك التاريخ ولا نقاش في شرعية وجوده(الفلسطيني)أي بقعة من الأرض تكفيه للانطلاق. وهذا ما ينقلنا إلى السبب الثاني للاستيطان، أي مسألة الديموغرافيا. سيطرة الاحتلال على الضفة وإغلاقها يحقق التحكم في عدد البشر الموجودين فيها، ومن جهة أخرى يجعل حياة الفلسطيني على أرضه لا تطاق بواسطة الحواجز والهدم وغير ذلك من الممارسات التي تتيح التوسع على أرض جديدة بأقل عدد ممكن من البشر. إن التمسك بحق العودة والتذكير به لا ينبغي أن يُفهم من منطلق المبادئ وإرجاع الحقوق لأصحابها فقط، بل من منطلق أن نتيجته حاسمة في الصراع الدائر. من المؤلم حقا ألا نرى رموز السلطة يترددون باستمرار على مخيمات اللاجئين في الداخل وفي الشتات، ههنا تقصير واضح لا مبرر له، ولا أحد يتصور أن الضعف يصل إلى الإهمال أو التغافل عن الرافد البشري الأول الذي أبقى القضية حية إلى يومنا هذا. فيما يتصل بالديمغرافيا يتضح أن المواطن الفلسطيني البسيط وزوجته قد هزما الغايات الإسرائيلية في هذا الصدد.مقوم أساسي من مقومات البقاء والصمود صنعه وحافظ عليه الفلسطيني في بيته، إسرائيل تهجّر إليها آلافا من يهود العالم كل عام، إنها مشروع يبحث له عن بشر، والفلسطينيون أقول بكل أسف ومن ورائهم نحن هم بشر يبحثون عن بقايا مشروعهم، بعد الجغرافيا والديمغرافيا تأتي الموارد، إن الموارد المتاحة في الضفة الغربية هي وسيلة وغاية في الوقت نفسه، وسيلة إخضاع للفلسطينيين والتحكم في نشاطهم الاقتصادي، وغاية تخدم الاقتصاد الإسرائيلي. أهم موارد الضفة المياه، إذ تستولي إسرائيل على معظمها كما تتحكم في منابعها، وتحرم منها أصحابها الشرعيين.وأمر آخر، يعيش على الضفة الغربية عدد كبير نسبيا من السكان، وهم يمثلون سوقا لتصريف المنتجات الإسرائيلية، لا جمارك لا ضرائب ولا مراقبة على النوعية، وأضيف إلى ذلك أن الضفة الغربية هي مصدر للعمالة الرخيصة نسبيا، ونذكر بمرارة أن عدد الفلسطينيين العاملين في بناء الجدار والمستوطنات يقدر بعشرات الآلاف. يجني الجانب الإسرائيلي مكاسب هائلة من تشغيل الفلسطينيين في مشاريعه، بتوجيه الجهد الفلسطيني لتنمية اقتصاد عدوه وضمان ارتباطه به، وبالتالي حرمان اقتصاده الوطني من طاقاته وقدراته، يسعى العدو الصهيوني إلى جعل الاقتصاد الفلسطيني تابعا له غير قادر على النهوض بنفسه، ولا يمكن إهمال الآثار النفسية السيئة بإشعار الفلسطيني بالانهزام النفسي، وبأنه عالة عليهم في لقمة العيش، ومن هنا أيضا إصرار إسرائيل على عزل الضفة الغربية عن محيطها الطبيعي وعرقلة تدفق السلع والأشخاص. وباختصار هي تقوم باستغلال الإمكانات الفلسطينية لصالحها، وتمنع استخدامها من أصحابها خشية تحقيق كيان وطني قادر على التقدم والازدهار، هذا الجهد يأتي بطبيعة الحال متكاملا مع البعدين الجغرافي والديمغرافي. أظن أنه ليس في إمكاننا بعد هذا الحديث عن دولة قابلة للحياة، لا أريد الدخول في"الينبغيات"،فقط أقول إن المستقبل يتحدد على الأرض وبين الناس وليس بالسير في طريق المفاوضات اللانهائية في الصالونات المكيفة،ولا أمام الكاميرات. لا بأس بكل ذلك، فهو على الأقل أداة من الأدوات المتاحة لإدارة الصراع،لكن في الوقت الذي يتطلب فيه الأمر يجب العودة إلى"الأوليات"،ودفع الضريبة على الأرض..ما أبعد ربطات العنق الأنيقة عن أن تكون سلاحا للتحرير! وللقدس في مسألة الاستيطان كلمة أخيرة، لكل مشروع رمزأو قيمة عليا تتجاوز الأبعاد المادية(جغرافيا وديمغرافيا وموارد أو غيرها)،والقدس رمزية بالنسبة للصهيونية.الحفاظ على الرمز هو حفاظ على جوهر المشروع، وعلى التعلق العاطفي والوجداني، وإبقاء الحماس متقدا في نفوس المؤمنين به وشحذ همتهم للإقبال عليه. أي أنها تمثل رمزا بعيدا كل البعد عن الأشخاص والوثنيات الجديدة التي غالبا ما تكون محل خلاف (أرجو من القارئ الكريم أن يكون حسن النية لأني لا ألمح في هذه النقطة بالذات إلى شيء مما فهمه). يجد أصحاب القضية أنفسهم في حلقة مفرغة، والحلقة المفرغة لا تُكسر إلا بشيء من خارجها..ويا لبيب الفهم تكفيك الإشارة. أحمد طيباوي/ أستاذ جامعي