الحلقة 20 أبو العباس برحايل وصرت أنام وحدي في حجرة المؤونة التي كانت قد رصت مزاودها المصنوعة من جلود الشاه على سدة عالية، وفي فصل الشتاء تفتح الغرفة للشاه والعنز أيضا للدفء، وكنت أنهض صباحا فأجد أبوال العنز والجدي قد بللت أطراف برنسي الذي أتدثر فيه .. وبتلك الحال من القذارة والرائحة الكريهة التي لا نحس بها نحن أبناء الفلاحين وقد ألفناها وصارت جزءا من كياننا كنت أذهب إلى الجامع أو المدرسة، أو ربما كان تصنيفي بسائق أني التحقت بالمدرسة متأخرا؛ وكان والدي غير متحمس للالتحاق بالمدرسة لما تتطلبه أولا من مصاريف لاقتناء الكراسات والمحفظة وغير ذلك من الأدوات الضرورية رغم تواضعها .. وتحت ضغط الأم التي كانت ترجماني ووسيطي إليه لفق لي عند خياط المشتى بدل المحفظة ما يشبه عمارة أو مخلاة كنت أضع علاقتها في رقبتي وأمضي .. ثم إنه عليه أن يجد لي مأوى قريبا من المدرسة، وحيث إنه لا أقارب لنا قرب المدرسة فقد وجد لي مأوى عند إحدى عماتي في منتصف الطريق بشرط تزويدها ببعض المؤونة وخاصة الدقيق، فقد كانت أسرتها معدمة في مستوى أسرتنا كفاف عيش وعنتا بل وأدنى .. أي عليّ قطع ثلاث كيلو مترات يوميا ذهابا وثلاثا إيابا .. كان الالتحاق بهذه المدرسة التي كانت منفذا من منافذ الالتحاق بالتعليم في تونس من خلال البعثات التي كانت توجهها جبهة التحرير إلى ذلك البلد الخلاب المستقل، وقد تم الشروع بعد في إرسال تلك البعثات بما يلفها بالنسبة لنا نحن الصبية من أحلام غامضة عن حياة خلابة مأكلا ومشربا ومناما.. فضلا عن دراسة اللغات المختلفة والعلوم المتنوعة وما لا يخطر ببال قط .. وفي الحق لم يذهب من مشتانا في تلك البعثات التعليمية غير اثنين، وصادف ذهابهم محاكمة قيادة الولاية الأولى وإعدامهم، لذلك فإن أفراد تلك البعثة قد حيدوا عن المهمة التي ذهبوا من أجلها، وجندوا عنوة ومن غير إرادتهم في صفوف جيش التحرير المرابط في تونس قرب الحدود.. أرسل أحدهما رسالة عبر البريد العادي؛ قرأها أحد أبناء عمه.. وحيث إنه لم يفهم منها شيئا، وإذ استشهد في تلك الآونة الرجل الصنديد ذائع الصيت الشيخ سعد قاضي المنطقة الأولى، فقد زعم قارئ الرسالة أن يوسف عضو البعثة قد ارتقى واستخلف في منصب الشهيد قاضيا للمنطقة!! فيما الواقع أن الفتى يوسف لم يكن يعلم أصلا باستشهاد الرجل الفذ؛ وهو يذكره في الرسالة على سبيل التحية وتبليغه سلامه؛ وفي صبيحة الاستقلال عاد الشابان جنديين بسيطين من غير أي رتبة أو وسام، ما عدا أن أحدهما الذي ندعوه موسى لاسكوم قد فقد إحدى ساقيه جراء انفجار لغم عليه في الحدود أثناء عبور العودة…