انتهينا في المقال السابق إلى أن فترة خلافة الإمام عثمان شهدت أزمة دستورية خطيرة عصفت بعد ذلك بالمشهد السياسي الإسلامي، أزمة كان لها دوافع عميقة وكانت نتيجة رضوض وشقوق ازدادت اتساعا مع مضي الوقت، لعل المطّلع على ظروف مبايعة الإمام عثمان ابن عفّان سيدرك أنه كان الخليفة الذي اجتمع كلّ النّاس حوله، حيث أن عبد الرحمن بن عوف كان يسأل النساء والرجال وحتى الصبيان في ولاية عثمان، فكان الجميع مرحّبا لما عرف به الرجل من دماثة الخلق وطيبة القلب وسماحة التعامل، ولقد عرفت السياسة الداخلية في عهده تغيّرا كبيرا عن الذي كانت عليه على عهد عمر، وخاصة السياسة الماليّة، فكان عثمان يرى أن تشدّدا في السياسة المالية العُمرية، حيث وجد أن في بيت المال ما يسع الناس أكثر مما وسعهم على عهد عمر، ولعلّها كانت سياسة منه للتقرّب إلى النّاس، وقد انقسم المؤرّخون إلى صنفين في قراءة سياسته بين قائل بأنها سياسة حكيمة منه، فيقول طه حسين مثلا في الجزء الأول من كتابه (الفتنة الكبرى): " وواضح جدّا أن عثمان لم يتجاوز حقّه في ذلك، فما دام المسلمون قد عرفوا للخليفة في أن يفرض لهم العطاء، فهم يعرفون له الحق في أن ينقص هذا العطاء إن اقتضت سياسة بيت المال نقصه، وأن يزيد هذا العطاء إن وجد في بيت المال سعة "، وبين قائل بأنه أخطأ في سياسته المالية التي اتسمت بالتساهل المفرط، فالتوسعة على الناس والزيادة في العطاء باب ليس لإغلاقه من سبيل، فما دام بقدرة الخليفة التوسعة على الناس، فإن هذا الأمر لا حدّ له !، وأن مقتل الخليفة عثمان كان له أسباب موضوعية، من بينها التساهل في السياسة المالية والتوسّع في العطايا والهدايا للأقارب خاصة، وعدم معاقبة الولاة الفاسدين الذين ضيّعوا على الناس مصالحهم وحتى دينهم كما ثبت في الآثار الصحيحة !، كل هذه الظروف الاجتماعية والسياسية الخانقة خلقت ثورة غضب عارمة ضد عثمان .. أزمة عدم تحديد اختصاصات أو صلاحيات " الخليفة " !
تسارع الأحداث السياسية في عهد عثمان أبان عن ثغرة دستورية عميقة لم يتم التفطّن إليها لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر، ربما لاتّسام فترتيهما بالاقتتال والحروب المستمرة، ولكن تطوّر الأوضاع الاجتماعية واتساع رقعة الدولة وتبدّل أحوال النّاس ومظاهر حياتهم لم يكن من المعقول تجاوزها، إذ أصبحت تطرح إشكاليات غير مسبوقة ظهرت جليّا فيما نقمه الثوّار على الخليفة عثمان حين حاصروه، حيث أخذوا عليه تجاوزه لصلاحياته بتعيين أقاربه وإكرامهم وتصرّفه في خمس الغنائم !، ولقد كان لمن قرّبهم عثمان الدور الرئيسي في التسبّب فيما اصطلح عليه ب " الفتنة الكبرى "، حيث عزلوه عن الأصوات الحكيمة التي كانت تدعو إلى مباشرة إصلاحات واسعة بشكل مستعجل، وقد ساند مطالب الثوار صحابة كبار كأم المؤمنين عائشة، وطلحة والزبير وعلي، وعمّار بن ياسر وأبو ذرّ الغفاري وعبد الرحمن بن عوف – وكان أول المنكرين -، وحذيفة بن اليمان وأبو أيوب الأنصاري وأم المؤمنين حفصة بنت عمر وعبد الله بن مسعود (رضوان الله عليهم جميعا)، وغيرهم كثير ومعظمهم كانوا من البدريين أي من السابقين في الإسلام ذوي الفضل، وقد عملت حاشية عثمان وكانوا أغلبهم من أقاربه وذويه الأمويين على التفرقة بينه وبين الناصحين له، بل لقد كان لكاتبه مروان بن الحكم الدور الأكبر في كتابة عدة كُتب تقضي بمعاقبة الكثير منهم: كنفي أبي ذرّ الغفاري وإهانته، وضرب عمّار، وضرب ابن مسعود، والإساءة إلى الإمام عليّ بالكلام، حيث كان كاتبه هذا، وهو ابن عمّه، يكتب على لسان عثمان ويستعمل ختمه ويتصرف دونه بما لم يرض ولم يعلم، حتى خشي الناس أن باستطاعة مروان إنزال عقوبة بأي شخص مهما كانت مكانته بل حتى الأمر بقتله، دون الخوف أوإقامة الاعتبار لعثمان أن يلحقه منه عقوبة أوعزل!، وقد اعترف بعض كبار مؤرّخي السنّة كالذهبي وابن كثير بأن مروان هو من خان عثمان وكتب الكتاب الشهير لوالي مصر الذي وقع بين يدي الثوار بعد أن قبضوا على حامله، وبسببه فقد الناس الثقة بعثمان نهائيا وحاصروه أربعين يوما، ومنعوا عنه الزاد والشراب، ثم اقتحموا عليه داره وقتلوه وفي يده مصحف يقرأ فيه القرآ !
كان مروان بن الحكم باعتباره رأس حاشية عثمان قائده إلى الانتحار السياسي، إذ كان يستطيع بمكر وخبث شديدين أن يثنيه في كل مرة عن الإصلاحات والوعود التي كان يطلقها، وذاك ما أغضب منه كبار الصحابة كالإمام عليّ الذي كان ذو مكانة عند الناس، فلو توسّطه عثمان لما تجرّأ عليه أحد، لكن مروان لم يكن ذو مكانة أو وقار ما جعل الناس لا تراع مقام الخليفة عثمان وتفقد الثقة فيه، وعندما قامت الثورة ضده قام في الناس خطيبا، فكان من جملة ما قال " ألا فما تفقدون من حقكم؟، والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، ولم تكونوا تختلفون عليه (يعني عمر بن الخطاب) فَضَلَ فَضْلٌ من مال، فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد ؟، فلم كنت إماما ؟! " ، وحين طالبه الثوار قائلين " اعزل عنّا عمّالك الفسّاق واستعمل علينا من لا يتهم على دمائنا وأموالنا واردد علينا مظالمنا "، قال عثمان " ما أراني إذن في شيء إن كنت أستعمل من هويتم وأعزل من كرهتم، الأمر إذن أمركم !"، لقد أبانت هذه الثورة عن الثغرة الدستورية المتعلقة بالصلاحيات بشكل جليّ، إذا كان عثمان يرى أن من صلاحياته التصرّف فيما فضل من المال، وأن من اختصاصه وحده تعيين وعزل الولاة وعمّاله على الأمصار، وأن تنازله أو تجرّده من هذه السلطات يُفقد السلطة -الحكم معناه وجدواه، كان ردّ الثوّار " والله لتفعلنّ أو لتعتزلن أو لتُقتلن، فانظر لنفسك أو دع ! "، فرفض عثمان التنحّي عن منصبه، قائلا " لم أكن لأخلع قميصا قمّصنيه الله "، ثم انتهى الأمر به مقتولا (رحمه الله) بعد الحصار كما بينّا آنفا. وإذ بنا نصل إلى نهاية تبيان الثغرات الدستورية للخلافة الراشدة، فإنه وجب التوضيح أن هذه التجربة السياسية الإنسانية كانت مثلها مثل أي تجربة أخرى لها نجاحاتها وإخفاقاتها، فمن الخطأ التاريخي والإنساني محاولة استنساخ هذه التجربة بأي دعوى دينية مثالية، فما حقّقته المجتمعات الإنسانية اليوم من مكاسب في المجال الدستوري السياسي كفيل بأن يمكّننا من استلهام نموذج أفضل وأعقل من نموذج الخلافة لو أردنا، لأن المسلمين حينذاك لم يكن بمخيالهم السياسي سوى نموذج أمير الحرب والذي بيده كل شيء وجميع الصلاحيات، ومع اتساع رقعة الدولة وتطور الوعي السياسي والمجتمعي وتغير الإشكاليات السياسية لم يعد ذاك النموذج قادرا على استيعاب كافة التحديات التي واجهت المسلمين، فسرعان ما انهار نظام الخلافة الراشدة، وقام على أطلاله الملك العضوض الاستبدادي الجبري بقوة السيف ولغة الدم والتبرير الديني المؤسف، الذي تناقلته كتب التاريخ والتراث على أنه منتهى التديّن أو الورع أو العدالة والحكمة أو من قبيل ذلك من تبريرات واهية لعمل حكام طغوا وتجبّروا على المسلمين، واستباحوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم باسم " الله " وباسم الإسلام، والله ورسوله منهم بريء ! ، فالمسلمون اليوم مطالبون باستلهام نماذج سياسية تحترم الإنسان وحقوقه وحرياته وكرامته، وتقوم على المؤسسات الدستورية لا على نموذج الحاكم الفرد المطلق، مقيمين أركان دولة القانون بحقّ، حينها سيتمكنون من تحقيق غاية الله من خلق الإنسان وهي الاستخلاف الحضاري الإنساني.