الحلقة 01 التقديم انعكس النجاح الاقتصادي الذي تمكنت عدة دول آسيوية من تحقيقه في عقد الثمانينات من القرن الماضي على الواقع العربي والإسلامي من خلال طرح أسئلة ملحة على المفكرين والباحثين العرب؛ حيث تمكنت خمسة دول (ماليزيا، سنغافورة، كورياالجنوبية، الصين، تايلاندا) من تجاوز عقدة العالم العربي في تحقيق التنمية الاقتصادية، الأمر الذي دفع إلى تزايد الدعوات العربية للإستفادة من التجربة الآسيوية في التنمية، وعلى الخصوص تجربة ماليزيا وبالتحديد ما يتعلق بالربط بين الدين الاسلامي والدولة أو بمعنى أدق بين الرؤية والمنظور الحضاري الاسلامي للتنمية والمنظور الغربي لها. وحدث الصدام في الواقع العربي الراهن بين النخب التي حكمت بعد الاستقلال على اعتبار تباين الرؤية بين النخب الحاكمة وثوابت المجتمع، ودام الفصام النكد بينهما أكثر من سبعين سنة، فلا الأنظمة العربية حققت التنمية، ولا الحركات والتنظيمات التي كانت متمسكة بالبعد الحضاري الاسلامي استطاعت أن تصل إلى الحكم وتنفذ مشروعها الحضاري. ويظهر المشهد إلى اليوم صراع محتدم ومستمر بين فريقين، الفريق المنحاز للفكرة الغربية الذي يرى أن إخفاق تجربة الحداثة كان بسبب الأبنية والتقاليد الموروثة، وعليه يجب القضاء على هذا البناء التقليدي، والفريق الثاني المنحاز إلى الموروث يرى أن استيراد الفكرة الغربية هو سبب حالة التغريب والاغتراب، وهو ما يسبب المزيد من التدهور، والحل في نظر هذا الفريق يكمن في العودة إلى الأصول الموروثة. المقاربة العربية ومن منظور المشروع الحضاري تشرح مكامن الخلل وأولويات الإصلاح ومقدماته، وترجع الأسباب والعوامل المسؤولة عن الحالة العربية إلى الاستعمار والهيمنة الغربية والوجود الصهيوني، وبالتالي فإن أولوية الإصلاح يجب أن تبدأ بالتصدي للمشروع الصهيوني والاستعماري من ناحية، ورفض واقع التجزئة القطرية من ناحية أخرى، أما النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، فهو وفقا لهذه المدرسة من الأمور الثانوية التي تساعد على تحسين شروط المواجهة مع الصهيونية والاستعمار، لكنها غير كافية لبناء الإصلاح العربي إذا ما بقيت البوصلة باتجاه تعزيز التجربة القطرية وعدم الخروج عن أنماطها التقليدية. أما المقاربة الإسلامية التي تمثلها أغلب الحركات الإسلامية فهي إما تنطلق من قراءة سوداوية للوضع وتدعو إلى ضرورة تغييره، وتختلف هي الأخرى في وسائل التغيير والإصلاح، أو تتعاطى مع الواقع بمنطق المشاركة وتنادي بأولوية الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة وتحسين شروط الحياة السياسية الداخلية، وهو منطق بدأ يبرز ويشتد عوده ويجد مساحات في الخطاب العربي الجديد وداخل مختلف التيارات الفكرية المتصارعة سابقا (الإسلامية واليسارية والقومية…الخ). في المقابل، ونتيجة لمراوحة دعوات الإصلاح السياسي مكانها وعدم حصول تقدم ملموس في ظل تمسك النخبة الحاكمة بالسلطة، وفشل التجارب الثورية العربية في تحقيق مشروع التنمية، برزت في هذا السياق مدرسة جديدة في الفكر والسياسة العربية تتجه شرقا، وتدعو إلى الاستفادة من تجربة "النمور الآسيوية" في تحقيق دولة النمو الاقتصادي بدلا من إضاعة الوقت في الصدامات السياسية والخلافات الأيديولوجية ومسألة تحديد الهوية وتأطيرها. وهي محاولات تحاول تقديم إطار فكري لتجربة دول آسيا الشرقية، التي استطاعت إثبات ذاتها وبناء شرعيتها داخليا، من خلال تقديم الأولوية لمشروع النمو والتقدم الاقتصادي، والانفتاح على العالم وعلى الخبرات وعلى الحضارات، وفي ذات الوقت تضع أمام أعينها هدفا واضحا، وهو النمو والازدهار الاقتصادي والعمل على ردم الفجوة الاقتصادية بينها وبين العالم الغربي. فلم تكلف دول النمور الآسيوية نفسها بالبحث عن الشرعية، لكنها صنعت شرعيتها بذاتها من خلال دولة "المجتمع المنتج"، كما أنها لم تشغل نفسها بصراع الهوية والحداثة وال"أنا" و"الآخر"، وإنما استثمرت كل وقتها في البحث عن النمو وتوفير عوامله أيا كان الاتجاه، وأعطته الأولوية على كل الجوانب الأخرى. الدراسات التي حاولت تقديم إطار عربي وفكري لفهم "التجربة الماليزية" مازالت قليلة، ولم تدخل إلى العمق المطلوب الذي يسمح لنا بالمقارنة بين ماليزيا والواقع العربي الحالي من ناحية، ويمكِّننا -من ناحية أخرى- من الإجابة عن الأسئلة الرئيسة: هل الإسلام هو المحفز والعامل الرئيس للنمو الاقتصادي، أم أن دوره كان عاملا مساعدا ؟ أو على الأقل اقتصر دور الإسلام على أنه لم يكن "حجر عثرة" في طريق التنمية؟ وعندما نختار دراسة وبحث موضوع لماذا تخلفت الجزائر وتقدمت ماليزيا ، لا لشيء إلا لأن التجربة الماليزية في اعتقادنا تمثل أفضل نموذج وحالة من حالات قراءة العلاقة التي تربط بين التنمية الاقتصادية والمنظور الحضاري الاسلامي، على اعتبار أن الرجل الذي قاد مشروع التنمية الماليزي وخطط له، ونجح في وضع ماليزيا على السكة الصحيحة بعد أزمات خانقة منذ عقود هو مهاتير محمد، وهو سياسي إسلامي له فهم وإدراك خاصين للإسلام يتسمان بالواقعية، ويبدو أنه أقرب في التسمية إلى "العلمانية المؤمنة" أي بناء نظام سياسي إسلامي قوي، لكن بتفسير متقدم للإسلام، مختلف تماما عن طرح الأحزاب الإسلامية العربية. كما يحدد مهاتير طبيعة العلاقة بين الإسلام وحركة السياسة في ماليزيا ب"التعايش"، والتي تعني التسليم بقدر من التقبل المشترك من قبل الحركة للإسلام ومن قبل الإسلام للحركة، وبعد استقالته تطور المشروع إلى رؤية متجددة يقودها السيد عبد الله بدوي نائب مهاتير محمد فيما سمي بالمبادئ العشر. هذه الرؤية المتقدمة جدا استطاعت أن تحل مشكلة التنمية من خلال توازن العلاقة بين الدين والدولة، وتضع ماليزيا في زمن قياسي في مصف الدول المتقدمة، وهي مشكلة تعتبر من أهم التحديات التي تواجه التنمية في الدول العربية والإسلامية. ويطرح الموضوع عدة إشكاليات وتساؤلات، غير أننا نحاول من خلال هذه الدراسة الإجابة على سؤال جوهري ومركزي محدد وهو: لماذا تخلفت الجزائر وتقدمت ماليزيا ؟ ذلك أن الحالة الماليزية تثير عدة تساؤلات،أهمها نجاح السلطة في بناء الدولة الماليزية وتطبيق برامج اقتصادية واجتماعية، وتطوير فكرة مشروع الإسلام الحضاري في مجتمع نصف سكانه غير المسلمين. فكيف نجح النموذج الماليزي في إثبات الحضور المؤثر والفاعل للهوية وتحويل قيم الإسلام إلى منتج نهضوي وحضاري حقيقي يلمسه الناس في واقع حياتهم، وهل هناك خصوصية آسيوية من حيث روح الانضباط والتجويد والعمل وارتفاع معدلات الادخار وغيرها من العناصر غير القابلة للاستنساخ ؟ أم أن نهجا للتنمية المعجلة يمكن للجزائر أن تتبعه مع اختلاف الظروف والمقومات ؟ هل الظروف التاريخية الجديدة تسمح بتكرار تلك التجربة في وطننا العربي، وإن لم تسمح الظروف والملابسات التاريخية الجديدة، فماهي أهم الدروس المستفادة من التجربة الماليزية، من أجل إعادة تأسيس قضية النهضة والانطلاق الاقتصادي والحضاري في الجزائر. وموضوع ماليزيا والقفزة التنموية النوعية التي حققتها وأسباب التخلف العربي من منظور المشروع الحضاري تناولته دراسات عديدة، ولكن بالنسبة لبحث إطار فكري منهجي للاستفادة من النموذج الآسيوي، وماليزيا على الخصوص، لم تتناوله بإسهاب الدراسات والبحوث، ولاسيما ما تعلق بدراسة التجربة الماليزية وإمكانية الاستفادة منها عربيا . يتبع…