يوجد بحي القصبة العتيق بالجزائر المحروسة العديد من الأضرحة التي تضم في جوفها الشريف جثمانا لرجال ونساء أتقياء، وكانت تحظى تلك المباني الدينية بمكانة خاصة في قلب أهالي المدينة، نظرا لدورهم في خلق تماسك المجتمع وتوحيد صفه، كما ساهم أصحابها في محاربة تكالب الأعداء على أرض الجزائر، منها ما بقي يصارع الزمن، ومنها ما هدمه بمعول فرنسا الاستعمارية. فما ميزة هذه الأضرحة، وما هي خصوصيتها الهندسية؟ * أصل تسمية قبر الولي الصالح بالضريح الضريح وجمعه ضرائح، عبارة عن قبر، أو الشق الذي يجعل وسط القبر، والضرائح المقدسة، وهي قبور يرقد بها هؤلاء الذين حافظوا على الرسالة المحمدية، المشهود لهم بالصلاح وحسن تعاملهم مع الناس، وحسن تدبرهم مع الدين، كما شاركوا في معارك ضد الغزاة، ومناهضين للفكر الاستعماري، كما ساهموا في رفع لواء الحق وحرصوا على استكمال نشر تعاليم رسالة التوحيد، تخرج على أياديهم علماء أجلاء أناروا دروب الإنسانية عبر حقب زمنية. * النمط الهندسي للضريح الطابع الهندسي للضريح حسب ما ورد على لسان المؤرخ الدكتور علي خلاصي في حديثه معه "الحوار" شكل هندسي مربع، تعلوه قبة ويتوسطها قبر رجل يشهد له بالصلاح، وتحيط به قبور أخرى من ذويه، أو أعيان من المنطقة، كما يوجد بجانب الضريح في أحيان كثيرة قبور لحكام المدينة، وعلمائها، كما يوضع الضريح غالبا داخل مساجد صغيرة، والبعض الآخر داخل بيوت ذات أحجام صغيرة. * كانت مكانا لفض النزاعات والنظر في الخصومات يطلق على الضريح أحيانا اسم "القبة" حسب ذات المؤرخ وذلك اختصارا في شكلها، لاحتوائها على قبة وسط المكان الذي يوجد به القبر، كما نجد البعض يدعوه ب" المرابط" وهذا الأخير هو التسمية الغالبة على الأضرحة الموجودة على مستوى مدينة الجزائر القديمة وغيرها من المناطق الأخرى عبر ربوع الوطن، ويعمد إلى تغطية الأضرحة بزرابي متنوعة، وأقمشة، وهي من تبرعات الزوار خاصة أصحاب النذر، كما يتم فرش الأرضية المحاذية للقبر ليجلس عليه الزوار، كما كانت هذه الأضرحة محل احترام وتقدير وتتمتع بحماية دينية وسياسية تجاه اللاجئيين إليها، فيمكن للشخص الهارب من صاحب سلطة أو سطوة أن يلجأ إلى الضريح لينجو من العقوبة أو من المطاردين، خاصة يقول خلاصي عندما يتعلق الأمر بالحاكم العام، لكنه في بعض الأحيان يقيم اللاجئ في ذلك الضريح إلى أن يتوفاه الأجل أو يستسلم. * تقبيل قبره وأداء اليمين باسمه وكان الولي الصالح يحظى بمنزلة عالية في وسط محيطه الاجتماعي، وكان أهالي المنطقة التي ينتمي إليها يقدرون وزنه ذهبا، حيث وصل الأمر ببعض الجهال إلى تقبيل قبره وأداء اليمين باسمه، وهو ما يخالف الشرع الإسلامي، ونهى عنه سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فيما معناه أنه من حلف بغير الله فقد كفر، كما يقوم بعض زوار الضرائح بإشعال الشموع في أروقة المبنى، مثل ما يفعل سكان الجزائر العاصمة في مؤخرة الرواق الواقع بين المدخل الرئيسي للمبنى والباب الخارجي لضريح سيدي عبد الرحمن الثعاليبي، ما يفعلون كما أوضحه لخضر تمام إمام مسجد سيدي عبد الرحمن الثعالبي في حديث مع جريدة "الحوار" أن ذلك له مرجعية تاريخية، فقد ورد في رويات تاريخية أن في عهد العلامة سيدي عبد الرحمن كان ينظم حلقات لقراءة القرآن إلى ساعة متأخرة من الليل ونظرا لرحابة المكان كانوا يكثرون من عدد الشموع لإعطاء أكبر قدر ممكن من الإضاءة، وأبدى الشيخ أسفه من تحول هذه الظاهرة إلى طقوس استحدثت لها دلالات ليس لها أي صحة إذ هناك من النساء من تقوم بإشعال أكثر من شمعة بعدد أفراد عائلتها تبركا بها وتجعلها فألا تعتقد أنه سيتحقق لا محالة. * 176 مبنى ديني لم يبق منها سوى 21 صرحا مقدسا يؤكد الدكتور علي خلاصي في تصريحه لجريدة "الحوار" أنه ما إن وطأت أقدام الاحتلال الفرنسي الاستطاني القذرة أرض الجزائر الطاهرة سنة 1830 شرعت إدارتها في هدم الكثير من المباني الدينية بحجة توسيع شوارعها تارة وتحويل بعضها إلى مهامات أخرى، وجاء على لسان الدكتور خلاصي حسب ما ورد في كتاب الأسير الإسباني الذي ألفه سنة 1612 أن مدينة الجزائر كانت تضم غداة دخول الفرنسيين سنة 1830 32 ضريحا و13 مسجدا كبيرا، و109 مسجد صغير، و12 زاوية، أي ما يعادل 176 معلم ديني، أما في عهد المؤلف ألبير ديفولكس فقد بقيت 9 مساجد كبيرة و19 مسجدا صغيرا، فيما بقيت الأضرحة على عددها وهي 32 ضريحا، و 5 زوايا، وهو ما يعادل يقول خلاصي 47 مبنى دينيا، كما تم تحويل العديد من هذه الصروح الدينية من وظيفتها الدينية إلى ممارسة أعمال إدارية إما إدارات أو حمامات، وغيرها، ونزل عدد المساجد الكبيرة المنتشرة بقصبة الجزائر إلى 4 مساجد، و 8 مساجد صغيرة، و 9 زوايا، أي ما يساوي 47 مبنى دينيا ليتقلص عددها إلى 21 مكانا مقدسا تمارس فيها طقوس دينية. وألبير ديفولكس يقول خلاصي هو إداري فرنسي تم تنصيبه على هيئة تعنى بعملية الإشراف على الأملاك العامة، تعلم ديفولكس في ثانوية باب عزون التي أسستها الإدارة الفرنسية بعد احتلالها لمدينة الجزائر، كما شغل منصب محافظ بالمكتبة الوطنية، وكان مولعا بالاهتمام بالوثائق العربية والعثمانية، توفي سنة 1876، ألبير ديفولكس هو ابن ألفونس ديفولكس الذي كان يأمل في كتابة تاريخ مدينة الجزائر القديمة. * أضرحة البهجة بعضها اندثر وبقيت الأخرى تصارع الزمن تعرف الجزائر القديمة العديد من الأضرحة بعضها اندثر وزال مع المستعمر وبعضها الآخر بقي يصارع مد الزمن، ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي الواقع في مدخل باب الوادي بالقصبة الغربية، وهو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف بن طلحة بن عامر بن نوفل بن عامر بن موصور بن محمد بن سباع بن مكي بن ثعلبة بن موسى بن سعيد بن مفضل بن عبد البر بن فيسي بن هلال بن عامر بن حسان بن محمد بن جعفر بن أبي طالب، فهو جعفري النسب ولد سنة 785ه الموافق ل 1384 م بواد يسر على بعد 86 كلم بالجنوب الشرقي من عاصمة الجزائر. ونشأ هناك بين أحضان أبويه، عرف بأخلاقه العالية والصلاح، تلقى تعليمه بالجزائر العاصمة، ثم قصد المغرب الأقصى حيث اجتمع ببعض علمائها الفطاحل، تعلم على يدهم أصول الفقه والدين ليعود بعدها إلى الجزائر ويستقر ببجاية بعد وفاة والده، حيث قضى ما يقارب السبع سنوات تلقى خلالها دروسا في مختلف العلوم على يد زمرة من كوادر العلماء الأجلاء، ثم انتقل إلى تونس حيث مكث بها حوالي ثماني سنوات نهم من علمائها الذين أجازوه فيما بعد، قصد مصر ثم تركيا، حيث استقبل استقبالا كريما، وقد أقيمت له زاوية هناك، وما تزال تلك الزاوية وقفا محبسا على الثعالبي إلى يومنا هذا. ومن هناك توجه صوب الحرمين الشريفين، حيث أدى فريضة الحج واغتنم الفرصة فأخذ عن بعض علماء الحجاز شتى أصول العلم والمعرفة. وفي سنة 819 ه 1414م عاد إلى أرض الوطن بعدما غاب عنها حوالي عشرين سنة قضاها كلها في اغتراف العلوم، حيث استقر بمدينة الجزائر، تولى الثعالبي القضاء بالجزائر ولكنه تخلى عنه ورفضه وفضل القيام بالتعليم، وبقي في وسعه أن يصلح بين الناس ويرشدهم لما فيه الخير والفلاح حيث عمل على نشر قيم التسامح والعلم وأصول الفقه والدين بين أبناء ملته، خصوصا في الجامع العتيق (جامع الكبير) الذى ألف فيه كتابه "العلوم الفاخرة في النظر فى أمور الآخرة" و"الجامع الكبير" وغيرها من المؤلفات. وتوفي سنة 872 الموافق ل 1468. وتم نقل جثمانه من منزله إلى مكان يقع على ربوة خارج "باب الوادي" تعرف آنذاك بجبانة الطلبة ودفن هناك، ومنذ ذلك اليوم أصبح ضريحه مزارا يتبرك به، أما الضريح الثاني ضريح سيدي هلال بمدخل باب الوادي، ضريح الشيخ الغبريني البحري بالأميرالية، ومن الأضرحة التي اندثرت نجد ضريح سيدي عبد القادر الذي كان يقع بباب عزون – إحدى أبواب المحروسة- وهي ممتدة نحو فندق السفير – السكاور- وقد اندثر هذا الضريح بفعل فرنسا، وكان يتكفل بهذه الأضرحة وكلاء هم في غالب الأحيان من سلالة صاحب القبر، ضريح بنت جعفر الكتانية، ضريح محمد باشا بباب الوادي، ضريح حسن باشا، ضريح النشا، ضريح الشيخ الزر، ضريح سيدي الكتاني، ضريح سيدي الياقوت وكانت تقع خارج باب الوادي وغيرها. * حاربوا الغزاة .. واجتهدوا في تثبيت أحكام الشريعة الإسلامية وفي الأصل كان لأولياء الله الصالحين حسبما أكده الدكتور علي خلاصي دور بارز في الحياة المدنية سواء من الناحية الدينية والاجتماعية أو السياسية فقد كان الأولياء يظهرون البعض من الكرامات والخوارق، التي يكسبونها بفضل مكانتهم الخاصة عند الله سبحانه وتعالى، وبتنسكهم وتعبدهم ولذلك فقد كانت أوامرهم عند الناس مطاعة حيث يلجأ إليه لحل النزاعات الاجتماعية والقبلية والحصول على الرأي السديد والدعاء عند العزم على فعل شيء مهم، وكان هؤلاء الأولياء كذلك يقومون بواجبهم التعليمي المتمثل في تفسير القرآن والحديث وأحكام الشريعة للناس كما كانوا يحفزون الناس على جهاد الكفار، وكان البعض من هؤلاء ينتسب إلى سلالة النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك كله فقد كان أحفاد هؤلاء الأولياء يحظون بالمكانة المرموقة في المجتمع ويرثونها عن آبائهم وأجدادهم، وعند موتهم يدفنون بقرب بعضهم. وكانت في بعض الأحيان قبب الأولياء وأضرحتهم تندثر بفعل الزمن أو مع انقراض السلالة التي انحدر منها ذلك الولي الصالح بعد مرور الزمن. ربرتاج : نصيرة سيد علي