منظمة العفو الدولية: المدعو نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة الجنائية    المدعي العام للجنائية الدولية يحث كل الدول على التعاون بشأن مذكرات الاعتقال بحق مسؤولين صهاينة    وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال من يسمى نتنياهو إذا زار روما    الرابطة الأولى موبيليس: شباب قسنطينة يفوز على اتحاد الجزائر (1-0) ويعتلي الصدارة    ضرورة تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء وتكثيف الدعم لها لضمان تحقيق أهدافها    ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    دعم حقوق الأطفال لضمان مستقبل أفضل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    شايبي يتلقى رسالة دعم من المدير الرياضي لفرانكفورت    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    ماندي الأكثر مشاركة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغيير تصورنا للوجود: الثورات العربية (2): علبة باندورا
نشر في الحوار يوم 24 - 12 - 2016

عمَّ يمكن أن تتمخض الثورات العربية ونحن نعلم أن المستبدين قد فعلوا كل شيء إبان حكمهم لكي لا تتكون أحزاب ديمقراطية قادرة على الظهور بمظهر البديل لسلطتهم؟، هل توجد حياة سياسية طبيعية، بأحزاب معروفة وهيأة ناخبة متعودة على تعيين النواب وعلى تعيين رئيس الدولة؟، لم يكون من وجود إلا للأحزاب الواحدة أو لأحزاب إدارية، أحزاب للتمويه أو لا أحزاب بالمرة، كما كان الحال في ليبيا. كانت الانتخابات تُزوَّر وكانت نسبة الامتناع عن التصويت هائلة. لم يكن الإسلاميون بديلا ضمن بدائل أخرى، بل كانوا البديل الوحيد المتوفر في الساحة. بافتراض أنهم لم يكونوا موجودين: فمن يكون قد ملأ الفراغ السياسي والمؤسساتي الناتج عن السقوط العنيف للأنظمة؟.
أحد أهم المبادئ الرئيسية للديمقراطية هو ألا تُقْصَى من الحياة السياسية والمؤسساتية أي قوى اجتماعية تمثيلية تحت طائلة دفعها إلى السرية والعنف، ومنحها وسام الضحية والحصول في نهاية المطاف على حكم منقوص الشرعية، وهذا عكس ما فعلته الأنظمة العربية الإسلامية بمباركة من القوى الاستعمارية. كانت هذه الأنظمة تنظر إلى شعوبها وكأنها عبارة عن صناديق بندورا boîtes de Pandore يتوجب الحرص الشديد على عدم فتحها. لقد حرصت إيران الفهلويين وتركيا أتاتورك ثم جنرالاتها، وفي أفغانستان الملكية ثم الشيوعية، والأنظمة البعثية في العراق وسوريا، وفي مصر الضباط الأحرار ثم مصر الليبرالية وفي الأنظمة التي نُعِتت بالتقدمية في الجزائر وليبيا، كل هذه البلدان وغيرها حرصت طويلا على ترك العلبة محكمة الإغلاق، فهل تمكنوا، مع ذلك، من لجم الأفكار الإسلاموية؟
مثال آخر: لقد اجتاح الغرب أفغانستان بهدف طرد طالبان وإقامة دولة حديثة فيها، فهل نجح؟.
في كل مكان أمكن فيه إجراء انتخابات شفافة إلى حد ما، ابتداء من هذه البلدان، وفي كل مكان تم فيه فتح صندوق بندورا، برز الإسلامويون، لقد فازوا بالثورة أو من دونها. هذه الظاهرة فريدة في العالم، لم نشهد مثلها لا في بلاد المسيحية، ولا في بلاد اليهودية ولا في بلاد الهندوسية ولا البوذية. صندوق بندورا هو اللاشعور الجماعي العربي الإسلامي، وعليه يجب أن نفتش في التاريخ والمنظور الثقافي لهذه الشعوب العربية الإسلامية إذا رغبنا في فهم تصرفها الاجتماعي والسياسي، إن لها تجربة طويلة مع الاستبداد الذي وَسم نفسيتها بميسمه، ومخيالها حافل بالمثل الأعلى الإسلامي الذي يقض مضجعها منذ قرون، لكنها تفتقر إلى التجربة الديمقراطية التي هي قبل كل شيء ثقافة، وهذه الثقافة تفترض أننا استوعبنا فكرة الانتقال من حالة الشعب الأحادي النظرة إلى مجتمع تعددي في أفكاره ومتنوع في تشكيلته.
هل هذا هو الحال؟، هل يمكن أن نتصور هذا في نظام إسلاموي؟، الإجابة عن سؤال التصويت الميكانيكي ليست من طبيعة سياسية، بل ثقافية، ليس لها علاقة بالثورات نفسها، ونحن الجزائريين، كنا أول من جرب ذلك في 1990 و1991. المسألة تتعلق بتصويت عفوي تفسيره يكمن في هيمنة الثقافة الثيوقراطية (ثقافة الحكم الديني)على تفكير أوساط واسعة في المجتمع. الأحزاب الإسلاموية، حيثما وُجدت، لا تمتلك قاعدة انتخابية أشرفوا هم على بنائها، لكنهم يستفيدون من استعداد عام مسبق في صالح قضيتهم قبل أن يوجدوا. إن حزب النور، في مصر، وهو تجمع سلفي ظلامي (ربما يكون هذا في أصل اختيارهم لاسم حزبهم) لم يكن موجودا قبل الثورة، ومع ذلك فقد حصل على 25 % من الأصوات، وهو ما يعادل مجموع أصوات الأحزاب غير الإسلاموية. المخزون الانتخابي الإسلاموي يكمن في الخلفية العقلية للناس، هم ليسوا في حاجة في امتلاك حزب، أو برنامج أو زعيم، فالثقافة السائدة، والأدبيات الدينية الوفيرة، والفضائيات والمساجد تغنيهم عن ذلك. سنرى أيضا في ليبيا حيث لا يوجد حزب إسلاموي، لأن القذافي قضى على أي حياة سياسية وانتخابية (هناك علماء دينيون أنشأوا مؤخرا في بنغازي حزبا أسموه "حزب الإصلاح والتنمية")، وسوف يفوز في أول انتخابات ستنظمها البلاد، يكفيهم فقط أن يتكرموا ويقدموا قوائمهم.
ليس المبعدون والمحرومون والفقراء والأميون هم من يصوتون عليهم، بل أفواج من كل شرائح المجتمع، بما في ذلك بين الجاليات في الخارج: فتونسيو فرنسا صوّتوا بنسبة 30 % لصالح النهضة. الثقافية الثيوقراطية، سواء في الحكم الملكي أو الجمهوري، هي التصرف الذي يعيد كل شيء إلى الله وابتغاء كل شيء منه أو من رجال يزعمون أنهم مُوَكَّلون من قِبَلِه، إنها خليط من الحالات النفسية، والأفكار المغلوطة أو تلك التي تجاوزها الزمن وتكونت طوال فترات الانحطاط. هذه الثقافة، المُرَوَّجة والمُلقَّنة حتى أيامنا، لم تكن تسمح للإنسان العربي المسلم بلوغ العقلانية، والأفكار الجمهورية والمثل العليا الديمقراطية. المثقفون والزعماء السياسيون الحداثيون في القرن الماضي لم يتمكنوا من إقناع الجماهير أنه من الممكن أن يكون المرء مسلما و عصرانيا في الوقت نفسه، لأنه بدل ترقية فكر جديد يأخذ بعين الاعتبار بحياتهم الروحية وقيّمهم، عرضوا عليهم الماركسية والبعثية والعلمانية، وبخاصة الاستبداد. كان هناك الإسلام المتواصل الذي فتح نصف العالم المعروف يومئذ، وقدم حتى القرن الخامس عشر الدليل على روحه الخلاقة في جميع ميادين العلوم، وطور الفكر الإنساني، وترك روائع لا تفنى في مختلف بقاع المعمورة.
وكان هناك، بعد ذلك، الإسلام الفكري الذي ظهر مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر، داعيا إلى تحرير العالم الإسلامي وإصلاحه الأخلاقي. وأخيرا، كان هناك الإسلام السياسي الذي ولد خلال النصف الثاني من القرن العشرين من فشل النهضة والحركات الإصلاحية. كان من أهم منظريه الرئيسيين: المودودي وسيد قطب. وكان دعوة إلى الاستيلاء على الحكم لفرض النظام الإسلامي بما في ذلك عن طريق اللجوء إلى العنف ضد المسلمين أنفسهم. إن التطلع إلى دولة إسلامية مثالية، بوصفها تحصيل حاصل للتطبيق الصحيح للإسلام، لم يبرح اللاشعور العربي الإسلامي منذ الخلفاء الراشدين الأربعة الذين يمثل حكمهم العصر الذهبي. الدولة التي أقيمت بعدهم عرفت فترات تاريخية بين مد وجزر إلى غاية القضاء عليها من قبل الإمبريالية الغربية. بعد مجيء الاستقلالات تأسست الدول القومية المدعومة من قبل الشعوب، ولكنها بعد بضع عشرات من السنين من التجربة فشلت في ترقية التنمية والقوة العسكرية، فما هو بديلها؟.
طبعا، البديل هو ما كان قد نجح في الماضي البعيد والذي ظلت تمجده الثقافة الثيوقراطية: إنه الدولة الإسلاموية، حتى في الوقت الذي كانت فيه الإسلاموية محبوسة في صندوق بندورا، احتفظت هذه الثقافة الملتبسة في عقول الشعوب، بكل زخمها، كانت تنتظر الإسلاموية كما كانت بينيلوبا تنتظر أوذيس، أما المستبدون، من جهتهم، فقد حرصوا على عدم دفع الإسلاموية نحو الترقي، نحو ثقافة مستنيرة وحداثية لأنها تخدمها كما هي.
إلى حد الآن، استخدمنا عبارة "الشعب العربي" وكأننا نقصد بذلك كل سكان تونس ومصر أو غيرهما، هذا تعبير اقتضته اللغة وليس اقتناعا بالتباس شائع يتوجب علينا أن نميط عنه اللثام الآن. لقد خلّد الشعب التونسي شعارا اقتبسه من نشيده الوطني وصاح به الجميع حيثما قامت ثورات: "الشعب يريد…"، أي الشعب كان يريد إسقاط الأنظمة التي كانت تحكمه بيد من حديد منذ أن تأسست دوله القومية، وحقق ذلك. لكن، بعد ذلك، ظهر أن "الشعب" الذي أطلق الحراك الثوري و"الشعب" الذي منح الأغلبية للإسلاميين كانا يشكلان شعبين متمايزين. في مرحلة أولى، كان هناك الثورة متبوعة بسقوط النظام، وفي المرحلة الثانية كان هناك الانتخابات.
المرحلتان تعاقبتا لكن إحداهما لم تسفر عن الأخرى وليستا من الطينة نفسها، أولئك الذين أسقطوا المستبدين ليسوا أولئك الذين رفعوا الإسلامويين على كواهلهم وأوصلوهم إلى الحكم. في المرحلتين كنا إزاء صنفين من الممثلين، إزاء جَمْعَين مختلفين، وكأن في هذه البلدان كان هناك شعبان في كل منهما، الشعب الذي قام بالثورة كان يتكون من "شباب الفيسبوك" المنحدر من الطبقة الوسطى (من المثقفين، المحامين، القضاة، الفنانين.. الخ)، وانضم إليهم فيما بعد خليط من كل حدب وصوب، بينما من صوّت للأحزاب الإسلاموية كان متشكلا من المناضلين الإسلامويين ولكن أيضا وخاصة من الشريحة المحافظة في المجتمع. الأوائل كانوا من أنصار الأفكار العصرية والثواني كانوا من المتشبثين بالأفكار التقليدية. القاسم المشترك الذي كان يجمع بينهما لم يكن صالحا إلا للمرحلة الأولى، رفض النظام الحاكم. غير ذلك، فقد كان لكل منهما، بدرجات متفاوتة، فكرته عما سيفعل بحريته المسترجعة. يجب أن نعترف أن الثاني كان أفضل إعدادا للمرحلة القادمة لأنه كان يعرف بالغريزة لمن يتوجب عليه أن يصوت عندما يحين الحين، بينما الأول لم يكن له، عمليا، من يصوت عليه. "الشعوب" التي أطلقت الثورة في تونس ومصر واليمن وسوريا وحتى في ليبيا، هي هي.
إنها هي التي مسها "المفعول البوعزيزي"، كرد فعل انفعالي متداعٍ، وألقى بها هي الأولى إلى الشارع لمواجهة المستبدين. مثلهم الأعلى كان الحرية، مع نبرات ديمقراطية. كانوا يشكلون شعبا واحدا ووحيدا رغم انتمائه إلى جنسيات مختلفة. "الشعوب" التي انتخبت لصالح التيار الإسلاموي في تونس والمغرب ومصر يمكن مع ذلك أن تشكل شعبا متجانسا، متلاحما بقناعات واحدة. هؤلاء ينظرون بعين الريبة للديمقراطية "على الطريقة الغربية" وللأفكار الحداثية، وكل تَمَثُّلاتهم العقلية متشبعة بالثقافة الثيوقراطية. الأوائل يتصورون ما يمكن أن يكوّن مجتمعا ديمقراطيا عربيا، يتألف من مسلمين متفتحين عصرانيين ومتسامحين كما كان شأن مسلمي قرطبة والصين في القرن الثالث عشر، أو الهند في القرن السابع عشر. الثواني سيكونون أسعد في دولة شريعستان، يعيشون فيما بينهم، يجمعون بين السلفيين والجهاديين والمعتدلين والمحافظين. هذه التجمعات تحصل تلقائيا لو كان من الممكن مبادلة السكان والجنسيات والأراضي. ولكن، في الوقت الراهن، لم يحدث ذلك إلا مع التقسيم بين الهند وباكستان، وبين باكستان وبنغلادش، وبين أثيوبيا وإريتريا، وبين السودان والسودان الجنوبي، وبين البوسنة وصربيا.. من أجل تسوية مشاكل تعايش صار مستحيلا. يمكن أن نصل يوما ما إلى هذه الفكرة في تجميع الإسلامويين في شريعستان.
في الانتخابات، تَقَدَّم الإسلامويون في شكل كتلة موحدة وعبّر خطابُهم عن العقلية والتربية التي تلقنتها غالبية الشعب، بينما تقدم الديمقراطيون ضمن طيف عريض تعددي (116 حزب تقدمت للانتخابات التونسية) رافعين عقيرتهم بخطاب لا يثير أي صدى في نفسية الجماهير. بالنسبة لهذه الجماهير، فإن هذا الخطاب الغامض والليبرالية المتساهلة التي يحملها هي في أعينهم منتجات مستوردة من الغرب وتشكل خطرا ماكرا على هويتهم وقيمهم. الإسلامويون، والعلماء الدينيون قبلهم، أقنعوهم أن الديمقراطيين، الذين هم بالضرورة لائكيون (وإذن هم ضد الدين) يروجون في البلاد لنمط حياة غربي فيه تم شرعنة الشذوذ الجنسي، الزواج المثلي والعائلة وحيدة الأب أو الأم، دون أن ننسى الأحقاد القديمة: الاستعمار، الدعم غير المشروط لإسرائيل، العنصرية المعادية للعرب وكراهية الإسلام. ومن هنا يأتي رد الفعل النافر والرفض الغريزي التام.
إن الأحزاب العصرية والديمقراطية وهي تتموقع في الوسط أو على اليسار، ظنت أنها بذلك ترتبط بالجماهير لكن هذه الأخيرة تحتقرها، لأن القيم الأخلاقية، عندها، لها الأولوية على الحلول السياسية أو الاجتماعية الاقتصادية. فقبل أن يكون المسلم مواطنا، فهو قبل كل شيء مؤمن. ومهما فعلوا فلم يجدوا عند الجماهير استجابة للتمكين لهم لأنهم لم يوقظوا عندها أي صدى، ولم يمسوا أي وتر من أوتارها، ولم يعبروا عن أي مثل من مثلها العليا . لم يكن يجمع بين غير الإسلامويين الذين قاموا بالثورة إلا الشبكات الاجتماعية ولم يكونوا موحدين إلا ظرفيا حسب مناهضتهم للاستبداد ورغبتهم في الحرية. وما أن بلغوا الهدف حتى لم يجدوا ما يفعلون معا. لم يكن لديهم لا الفكرة ولا الوقت الكافي لينتظموا في قوة سياسية قادرة على التأثير في الانتخابات التي جرى تنظيمها على عجل. وهم، وإن لم ينتخبوا لصالح الإسلامويين فهم لم يفكروا في تثمير قواتهم ليجعلوا منها ثقلا سياسيا. ومن المحتمل أن الكثير منهم لم ينتخبوا بتاتا. كانت الأحزاب اللبرالية التي تواجدت في عهد الاستبداد تتنازع على فُتات، مفضلة التحالف مع السلطة على التحالف فيما بينها. وواصلوا السير على هذا النهج الوعر، في العهد الجديد، بينما، من الناحية الحسابية، فقد حصلوا في تونس وفي المغرب على عدد من الأصوات والمقاعد يفوق ما حصّلته الأحزاب الإسلاموية.
وعندما توحدوا، فقد كان توحدهم حول النهضة في تونس وحول حزب العدالة والتنمية PJD في المغرب. وحتى الشيوعيون دخلوا في هذه التحالفات المتنافرة. الإسلامويون لا يؤمنون، في قرارة أنفسهم، بالسيادة الشعبية بوصفها مصدر السلطة، ولا بالديمقراطية كإطار للحياة الدستورية، ولا بالمواطنة كمجموع حقوق وواجبات مناطة بالفرد. إنهم يتأقلمون مع هذه الأفكار التي تتعارض مع مبادئهم الرئيسية ماداموا لا يملكون خيارا آخر، وإلا كانوا قد مشوا بخطى ثابتة نحو نظام الخلافة ونموذج طالبان. السلفيون، الأكثر صراحة، لا يشعرون بأي حرج ليعبروا عن ذلك على رؤوس الأشهاد. لا سيادة إلا لله، وحتى عندما ينتخبهم الناخبون، فهم يرون أنفسهم منتخبي الله. المتظاهرون الذين أسقطوا المستبدين لا يعتبرون في نظرهم إلا أدوات سلبية (خاصة إذا كانوا أقباطا) لتجلي الإرادة الإلهية. وهم بذلك لا يدينون لهم بأي شيء، ولا يرون قتلاهم "شهداء" وكل حمدهم وشكرهم لا يكون إلا لله.
إنهم يرون أن هؤلاء "الرومنسيين" قد أدوا نحوهم دورا شبيها بالدور الذي أدته العنكبوت نحو النبي وأبي بكر عندما لجآ إلى غار ثور للنجاة من ملاحقيهم قبيل الهجرة. هؤلاء الملاحقون شكوا أن يكون الغار مخبأ فعسكروا عند مدخله، لكنهم وهم يرونه مسدودا بنسيج العنكبوت، وَلّوا الأدبار. الإسلامويون يحملون بطبيعتهم عقلية الراعي تجاه رعيته، وهم بذلك يرون أن نتيجة التصويت تمنحهم الحق في سوق قطيعهم نحو المرعى الذي يبتغون. وهم يجنحون أيضا إلى البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة لأنهم مقتنعون بأنهم الواسطة التي سوف يعيد بها الله بعث العالم الإسلامي.
إن الشعبوية هي فكرة هابطة عن الأيديولوجيات التي أرادت ترقية المصلحة العامة للجماهير ظهرت على هامش النظريات الاشتراكية والشيوعية. ولقد مس تأثيرها الفكر الإسلامي أيضا. المهم في هذا المعطى الجديد، هو أننا نتوفر على أرقام دقيقة لقياس الفرز السياسي ومعرفة الوزن الحقيقي لهؤلاء وأولئك. وبوسعنا الآن قياس المساحة المحتلة من طرف الإسلاموية في الخارطة السياسية العربية. لم نعد الآن رهينة الوهم بل رهينة الحقيقة والواقع. فعلى مجموع الهيأة الناخبة المقدرة ب 7,6 مليون، تقدَّم 4 ملايين إلى الصناديق لانتخاب الجمعية التأسيسية التونسية. تحصل حزب النهضة على 37,02 من الأصوات و41,47 من المقاعد (90 على 217). المقاعد الأخرى عادت إلى عشرة أحزاب، و16 للمستقلين. في المغرب، كانت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية 45,40 %، من مجموع من الناخبين يساوي 13 مليون. حزب العدالة والتنمية الإسلاموي تحصل على 27,08 % من الأصوات المعبر عنها و107 مقعد من مجموع 395. في مصر، البلد الأصلي للأيديولوجية الإسلاموية، ليس هناك حزب بل ثلاثة أحزاب إسلاموية تتبارى، والأكثر اعتدالا بينها هو الذي تحصل على أقل الأصوات. الإخوان المسلمون (حزب العدالة والحرية) تحصل على 36 %، سلفيو النور على 25 %، والوسط على 5 %. وأخيرا، اللبراليون المنقسمون إلى 6 قوائم، حصلوا على 29,39 %. إذا نحينا التصويت القبطي، لم يبق سوى 20 % من المصريين ليسوا مع الإسلامويين. هذه الأرقام، فيما عدا مصر، تجعل فوز الإسلامويين نسبيا وكذا الخطر الذي يمكن أن يشكلوه على بلدانهم. في المغرب، أبعد الملك الخطر بعد أن أخذ المبادرة منذ بداية المظاهرات في بلده. نزع فتيل القنبلة قبل أن يسقط ضحايا وتنفلت الأوضاع. سبق الأحداث واقترح دستورا لقي قبولا في الاستفتاء، ثم دعا إلى انتخابات تشريعية. بنص هذا الدستور الجديد احتفظ بهيمنته على وزارات حساسة مثل الدفاع والشؤون الدينية، تاركا إدارة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للحكومة. في حالة تذمر الناس سوف يغضبون على الحكومة وليس عليه مما يجعله طليق اليد لعزلها والدعوة إلى انتخابات جديدة. فهو بهذا رابح على جميع الأصعدة. الخرقة الحمراء التي سوف تثير الثور الهائج مستقبلا لن تكون القصر الملكي، بل الحكومة.
بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: عبد القادر أنيس
صدر المقال في:24 جانفي 2012
…يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.