د. مهدي عبد الهادي مقدمة في مناخ التطورات الدراماتيكية الدولية وأزمات ما تبقى من نظام عربي وسط الدمار وملايين القتلى والمهاجرين والمشردين، ومع استمرار الاقتتال والحروب الاستباقية الإقليمية ومحاولة توظيف المبادرة العربية "للتطبيع الأمني"، دونما انسحاب من الأراضي العربية المحتلة!، وبعد نصف قرن من الاحتلال العسكري الإسرائيلي وسياسات وممارسات الأسرلة والتهويد والعزل والإقصاء والعداء ودعاوي الأساطير التوراتية في فلسطين والقدس وعلى مقدساتها، وحيال غياب القدرة العربية على إنهاء الاحتلال وغياب الإرادة الوطنية لإنهاء الانقسام الداخلي مع استمرار تراجع الثقة في نظام سياسي لم يكتمل، وبعد سقوط أوهام المفاوضات وأوهام المقاومة وأوهام "حل الدولتين"، هل وصل المشهد الفلسطيني إلى خارطة وطريق " التصفية "! * المشهد الدولي يستعيد قيصر روسيا الاتحادية (بوتين) تاجه وصولجانه، ويتجول بدعوة من "بعضنا" في إقليمنا، ويدخل عساكره غرف نومنا، ويدمر جوامعنا وكنائسنا ومدننا ويهجر أهلنا، ويلتقي مع عدونا لترتيب حضور أمني يبدأ في الجولان وينتهي في طهران!، ويخاطب واشنطن وبروكسل، بأنه سيبقى هنا على أرضنا، وسيشارك في رسم " خارطة الإقليم" بحضور تركيا وإيران، وبعيداً عن مصر والسعودية!. وفي الوقت نفسه، يدعو القيصر بوتين "السلطة في رام الله"، إلى لقاءات في موسكو، ولكنها ستبقى معلّقة إلى حين حضور نتنياهو من تل أبيب!!. وتشهد الولاياتالمتحدة "زلزالاً سياسياً" بعد الانتخابات الرئاسية، ومن تداعياته العودة إلى ثقافة التمييز العرقي والديني ومشاريع لقوانين الإقصاء والعداء ودعاوي "الإسلاموفبيا"!، ويعلن الرئيس المنتخب (ترامب) استعداده للاشتباك مع أو الانسحاب من أو المساومة على كل الجبهات... وبانتظار دخوله البيت الأبيض، تدعو المستشارة الألمانية (أنغيلا ميركل) أقطاب أوروبا وحلف الناتو، وبحضور الرئيس أوباما، للتشاور تجنباً للمفاجآت، وتعترض الصين على "التصريحات"، وتعيد اليابان وكوريا "الحسابات"، وتنتظر الهند وباكستان مشاريع "الاتفاقات"، ولا تملك المكسيك أن تعترض على بناء الجدار، في حين تفتح حكومة كندا أبواب حدودها للعابرين والمهاجرين وتدعو لإعمال الحكمة "وقبول الآخر". * المشهد الإقليمي يختلف أقطاب الإقليم، مصر والسعودية، تركيا وإيران، في فهم وتفسير واستقراء "التوقعات" بعد الزلزال الأمريكي وعودة القيصر الروسي، وتبقى فجوة الخلافات والتناقضات فيما بينهم دون بيان أو معرفة المسافة والأولوية مع واشنطن بعد أوباما أوموسكو " ما بعد حلب "!. ويبقى النظام العربي، في مصر والسعودية، في حضور باهت يشبه العدم، ويعيش حالة الاضطراب الأمني، وعدم الاستقرار السياسي، ومظاهر الفوضى الاقتصادية والمالية!. وفي سوريا والعراق، لا تزال حروب الردَّة والاقتتال، والتي لن تنتهي بانتهاء داعش أو فاحش أو الغبراء، ما دام الحضور العسكري الروسي والأمريكي يتقاسمان الأدوار، وما دامت الأيدي في أوروبا مرتعشة لا تملك الإرادة للحراك!، وسيبقى اليمن غير سعيدٍ على مفترق الطرقات لكل الجبهات بدءاً بالحرب الاستباقية السعودية-الإيرانية على أرضه، وانتهاءاً بصراع القبائل وتعدد الولاءات وتجار السلاح، وبوابة ليبيا ستبقى مفتوحة على دول الجوار في المغرب العربي تحمل رياح التغيير وكل الاحتمالات، وينفرد حلف الناتو برسم الأجندات وتوزيع الأدوار... أما الشباب العربي، فسيبقى " حمَّال الحطب " في صمود مقاوم أمام كل التحديات، رافضاً احتواء "الإسلام السياسي" لحراكه ومقاوماً "حكم العسكر" لمستقبله، ولكن حضوره الذي تابعناه في "ميادين التحرير" يكاد يغيب خلف القضبان أو في دول المهجر... وتبقى تل أبيب الاستثناء، ترحب بالزلزال الأمريكي وتنتظر بشوق لسياساته العنصرية، وتريده شريكاً وحليفاً لاستكمال أسرلة القدس واقتحامات مقدساتها، وضم يهودا والسامرة لكيانها، وإبقاء غزة في حالة حصار وبعيداً عن مستعمراتها..وفي الوقت نفسه، لا تعارض حضور عساكر القيصر الروسي للإقليم، ولا تختلف مع أدواره وسياساته ما دام "التنسيق الأمني" معها يبدأ من الجولان وينتهي في طهران. وتعتمد تل أبيب، على استمرار النفاق الأوروبي، وسيولة الإنفاق المالي على كيانية الاحتلال، والتي أصبحت فندقاً بخمسة نجوم في رام الله، وأجهزة أمنية منتشرة في مدن وقرى الضفة دونما قدرة لوقف انتشار التسونامي الكولونيالي الإحلالي (700 ألف مستوطن) في الضفة الغربية، وإنهاء حصار السكان في كانتونات خلف الجدار، وبعد ترك الأهل في غزة في دمار وحصار لا ينتهي... وتمتد أجهزة تل أبيب الأمنية، لتصافح ما تبقى من نظام عربي " للتطبيع "، وتعمل أدواتها الاقتصادية " للتسييس " مع عواصم القارة الإفريقية، ونجلس في الفنادق والمقاهي والمؤتمرات نترحم على أيام ناصر ونهرو ولومومبا... * المشهد الفلسطيني بعد ستة عقود من الشتات والمهجر والمنفى حتى داخل الوطن، كنا نبحث عن حاضنة عربية أو دولية أو اشتراكية، وكان خطابنا في الداخل رواية إيميل حبيبي " المتشائل "، وخطابنا في الخارج رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا"، ونلخص سياستنا في كلمة صلاح خلف (أبو إياد) " لعم " الرافض والموافق في وقت واحد، والتي وصفها فيدل كاسترو بالفهلولة قائلاً: " أتقن الفلسطينيون "الفهلوة"، و" اللعم " في أحسن الأحوال ". وبعد خمسة عقود من الاحتلال الإسرائيلي (نصف قرن) وتنقلنا بين مسارات الخطاب الديني والسياسي والوطني، كان همنا إحياء الوطن فينا والوطنية منا والهوية لنا، ولكننا وقفنا طويلاً في حالة من التردد أمام مقولة الفيلسوف الإيطالي غرامشي: " تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة". وبعد عقدين من الزمان، كان خطاب "الخارج" مقولة ياسر عرفات: " لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي"، وخطاب "الداخل" في برنامج المجتمع الأهلي "تنمية من أجل الصمود"، واعتمد الطرفان كلمات محمود درويش: "ما أكبر الفكرة (فلسطين) وما أصعب المرحلة (مقاومة وصمود) وما أصغر الدولة (كيانية فلسطينية على 22% من الوطن الفلسطيني) ". وتصدى الاحتلال الإسرائيلي للفكرة وطوال المرحلة "لمشروعنا الوطني"، واشتبك معنا وقتل قادتنا في الداخل والخارج حتى اجتياح لبنان ومذبحة صبرا وشاتيلا، و"خروج" أو "إبعاد" منظمة التحرير الفلسطينية بتنسيق أمريكي وشهود عربي وسكوت إسرائيلي عبر الموانئ اليونانية إلى تونس الخضراء. وبعد انتظار طال لاثني عشرة عاماً، لتفعيل أو تفاعل إرادة الشرعية الدولية أو تدخل أوروبي أو فعل ولو طارئ أو مؤقت من الأخ والرفيق العربي، لوقف " النزيف " الفلسطيني في الداخل، أو عودة قيادة المنظمة من المنفى، وفي حالة هذا الانتظار تضاعفت المعاناة في الداخل وابتعدت غربة القيادة في الخارج حتى جاءت انتفاضة الحجارة وقيادة وطنية موحدة، لتجمع الداخل والخارج، وتعيد الثقة أننا "نحن الحقائق على الأرض!". كانت فلسفة الانتفاضة " ثورة بيضاء " وصياغة جديدة للاستراتيجية الفلسطينية ومقولتها: " لا أستطيع أن أقضي عليك (إسرائيل) وأنت كذلك لا تستطيع أن تأخذ مني وطني (فلسطين) " أدعوك لطريق ثالث: نتعارف، نتفاوض، نتصالح! نحو حل سياسي قائم على دولتين!، واحتضن المجلس الوطني الفلسطيني الانتفاضة وأعلن وثيقة الاستقلال من الجزائر!. تعاطف القريب والغريب وحتى اليسار الإسرائيلي مع الانتفاضة البيضاء في الأرض المحتلة، وتم الاعتراف الأمريكي بالمنظمة، ودعت أمريكا (جيمس بيكر أيار "ماي" 1989) إسرائيل أن تطرح جانباً رؤيتها غير الواقعية لإسرائيل الكبر، وتتخلى عن ضم الأراضي والأنشطة الاستيطانية (و) تتعامل مع الفلسطينيين على أنهم جيران يستحقون حقوقاَ سياسية". ولكن إسرائيل واصلت سياستها الكولونيالية الإحلالية والقمعية للقضاء على انتفاضة شعب ورسالة قياده!، فكانت مجزرة باحات المسجد الأقصى بقتل 21 مصليا في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 1990، وأيضاً، جاءت أحداث الإقليم تفرض حضورها على الجميع! فكانت حرب الخليج الأولى، واحتلال العراق لدولة الكويت عام 1990. وتحركت المظلة الأمريكية لاحتواء دول الإقليم لإنهاء العدوان، وتوظيف الورقة الفلسطينية لتبرير الحضور العسكري الأمريكي، والضغط على إسرائيل (اسحق شامير) لقبول المفاوضات مع وفد فلسطيني-أردني مشترك وحضور إقليمي ودولي في مؤتمر مدريد 30 أكتوبر 1991. ومنذ مدريد، ونحن مشغولون في " عربة المفاوضات " وتعدد الأدوار فيها والخطاب عنها، ففي المرحلة الأولى، كان الداخل والخارج على العربة وفي داخلها في واشنطن. وفي المرحلة الثانية قادها الخارج بعيداَ عن نخب الأرض المحتلة إلى أوسلو. وفي مرحلة ثالثة، كان الخارج في تونس مع العربة، يدفع بها خارج الطرقات المشتركة مع عمان أو القاهرة، وأيضاَ خارج الأنفاق الطويلة مع أهل الأرض المحتلة. وفي مرحلة رابعة، كان الخارج والداخل خارج العربة في" صندوق السلطة "، يدعون لها بعد أن ذهبت لعواصم الإقليم، ولعلها تعود إليهم وبهم، وبعد أن اعتادوا عليها، وأصبحت لهم " المفاوضات حياة "!. وعندما راجعنا دفاتر وقرطاسيه المفاوضات، وتابعنا أوراق " ويكيليكس "، لم نجد ما ناضلنا من أجله لإنهاء الاحتلال أو تحرير وطن، أو ما اتفقنا عليه لوقف الاستيطان الكولونيالي ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات. ولم تُفتح أمام شعبنا أبواب القدس ومساجدها وكنائسها، وأنزلت أعلامنا من على بيت الشرق وأسوار القدس وأقيم جدار العزل العنصري (708 كم) ولم يطلق سراح الأسرى (70 ألف أسير وموقوف) والذين يرفعون صوتهم ويسجلون حضورهم في إضراب مفتوح عن الطعام لأربعة وخمسة أشهر وذلك لوقف معاناتهم وتحقيق الحد الأدنى من كرامتهم خلف القضبان! وتضاعف الألم والمعاناة بسلسلة أربعة حروب على غزة ولم تتدخل عمان أو القاهرة... وبعد الدمار واحتواء تداعياته، اجتمعت الدول في شرم الشيخ تعرض البلايين الوهمية لإحياء غزة وإعمار السلطة! وغدا همّنا اقتسام " كعكة السلطة " في مهمات وخدمات إدارية (180 ألف موظف). القسم الأول؛ في الضفة الغربية وأجندته " تنسيق أمني مقدس " وخطابه "المفاوضات حياة ". والقسم الثاني؛ وفي قطاع غزة، أجندته محطات من التهدئة حتى الأنفاق، وخطابه " هدنة لسنوات "، وفي كل منها، لا مفاوضات ولا مقاومة، بل حالة بؤس ويأس في المخيمات وغدا الحديث عن اللاجئين في الجامعات والمناسبات والمهرجانات، وانتشرت صالات الفنادق وقروض البنوك وأسهم الشركات، وشهدنا ولادة نخب جديدة، ففي الأولى ولادة قيصرية لنخب تجارية أهلية، وفي الثانية نخب فصائلية ما زالت على "الكنبة"، والثالثة نخب أمنية شبه عسكرية تزهو باعتقال السكاكين في الحقائب المدرسية، ورابعة دكاكين مجتمعية تبحث عن مشاريع ارتزاق واستثمار في العمران والميناء والمطار، وتُركت القدس وحدها خلف الأسوار، يبكي أهلها سرقة تراثها التاريخي وإرثها الديني، وينتقد شبابها العروبة والعربا ويستصرخ مسجدها الأقصى وكنيسة قيامتها الضمير الإنساني لحرية العبادة وتهجو القدس المسلمين والمسيحيين والغربا. أما أهل الشتات، فهربوا إلى الأمام في طقوس من "جلد الذات" بحثاَ عن هوية ووطن وذاكرة... ويُشغل المجتمع المدني الأهلي بقضايا حقوقه ومستحقاته في السكن والعمل والصحة والتعليم وحرية التعبير، وانتشرت ظاهرة المؤتمرات، والمهرجانات والاحتفالات، حتى في الذكرى المئوية لجريمة بلفور ووعده المشؤوم. وكان الاستثناء ظاهرة النجاح والتفوق الفردي للإنسان الفلسطيني؛ واحدة في التعليم وثانية في الفن والرسم وثالثة في الابتكار ورابعة وخامسة! ووسط هذا كله، كانت تل أبيب تحاول إقحام سيناريوهات "السلام الاقتصادي" ومرجعيتها أوراق هرتسليا 2009 لإقامة جزر الازدهار الاقتصادي ووعود بملايين الدولارات للاقتصاد الفلسطيني ومحاولة رشوة موظفي السلطة برفع رواتبهم بنسبة 40% وتأجيل قضايا الحل النهائي، وترك قطاع غزة للمجهول (2 مليون) بحثاً عن معبر في رفح أو مشروع ميناء بواسطة تركية أو قبرصية أو حتى أمريكية! وإلى جانب ذلك، استمر في الضفة الغربية نظام الأبارتهايد العنصري، بفرض حقوق ومصالح غير متساوية وتمييز على أساس العرق والدين والهوية، وحصر التواجد الفلسطيني على 12% من فلسطين واستباحة حوالي (700) ألف مستوطن لأراضي الضفة الغربية في مصادرة الأراضي وبناء المستعمرات وتوسيعها . وفي الجانب الآخر يرتفع صوت مجتمع " الداخل الفلسطيني "، والذي يمثل 20% من "السكان" يقول بأنه "يناضل سياسياَ" من أجل حقوق المواطنة في المساواة والعدالة، ولا يزال طريقه طويلاً وصعباً بعد عقود من النكبة، ويضيف أنه يدعم المقاومة الشعبية في ألأرض المحتلة ولكنه لا يتدخل فيها، وحتى لا يفقد ما حققه من " مواطنه " في كيان الدولة! وأن مهمته الآن، العمل مع الجميع للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي في محاولات لإسقاط حكومة اليمين الصهيوني... وحتى لا يقودنا هذا المشهد إلى مزيد من البؤس أو خارطة طريق " تصفية " ما تبقى لنا من وطن وشعب وحقوق، فإن الاستراتيجية الفلسطينية، يجب أن تعمل على " تدويل القضية " بدءاً في مجلس الأمن الدولي، واستكمالاً للإجماع الدولي بإدانة الاستيطان وعدم شرعيته والمطالبة بإزالته خاصة بعد قرار مجلس الأمن الأخير ودعوة هيئة الأمم ودول العالم "للاعتراف" بدولة تحت الاحتلال، والانضمام لمحكمة الجنايات الدولية ومنظمات دولية أخرى. وأن شعبنا يريد استراتيجية جديدة موضوعها: تدويل القضية، توحيد الداخل، مقاطعة ووقف كل أنواع التنسيق، ومقاضاة الاحتلال. وفي الجانب الأهلي، يبقى حراك الشباب الفلسطيني ورسالته: "قاوم من أجل البقاء في كرامة وحرية وعدالة"، ويجتهد في تعريف "أدوات المقاومة". الأولى، العلم والقلم للتسلح بالرواية الوطنية والتراث والإرث، والثانية بالمقاطعة BDS وامتدادها من الداخل إلى الخارج، والثالثة بترحيل "ثقافة الخوف" إلى الطرف الآخر، والرابعة بإسقاط القناع عن الفساد والفوضى والفتن في البيت الفلسطيني على أمل ولادة جديدة وشرعية جديدة تزهو بنضال الأمس وتنهي معاناة اليوم وتفتح الآفاق للمستقبل!!، ولعلي أذكر في الخاتمة مقولة الإمام الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا ونهجو الزمان بغير حق ولو نطق الزمان لنا هجانا