اللجنة الوطنية الجزائرية للتضامن مع الشعب الصحراوي تشارك في الندوة ال48 لل"إيكوكو" بلشبونة    الجزائر تؤكد أن مذكرتي الاعتقال بحق مسؤولين صهيونيين تمثلان خطوة نحو إنهاء عقود من الإفلات من العقاب    منظمة الصحة العالمية:الوضع في مستشفى كمال عدوان بغزة مأساوي    لبنان يجدد التزامه بالتنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 1701    الرئيس الاول للمحكمة العليا: الجميع مطالب بالتصدي لكل ما من شأنه الاستهانة بقوانين الجمهورية    المجمع العمومي لإنجاز السكك الحديدية : رفع تحدي إنجاز المشاريع الكبرى في آجالها    انخراط كل الوزارات والهيئات في تنفيذ برنامج تطوير الطاقات المتجددة    اكتشفوا أحدث الابتكارات في عدة مجالات.. اختتام "زيارة التميز التكنولوجي" في الصين لتعزيز مهارات 20 طالبا    مخرجات اجتماع مجلس الوزراء : رئيس الجمهورية يريد تسريع تجسيد الوعود الانتخابية والتكفل بحاجيات المواطن    مستغانم.. فسخ أزيد من 20 عقد امتياز لاستغلال عقار صناعي    دراجات/الاتحاد العربي: الاتحادية الجزائرية تفوز بدرع التفوق 2023    إبراز جهود الجزائر في مكافحة العنف ضد المرأة    بومرداس.. ترحيل 160 عائلة من قاطني الشاليهات إلى سكنات جديدة    المهرجان الثقافي الدولي للكتاب والأدب والشعر بورقلة: تسليط الضوء على أدب الطفل والتحديات الرقمية الراهنة    وفد طبي إيطالي في الجزائر لإجراء عمليات جراحية قلبية معقدة للاطفال    تواصل اجتماعات الدورة ال70 للجمعية البرلمانية لمنظمة حلف شمال الأطلسي بمونتريال    كأس الكونفدرالية الإفريقية: شباب قسنطينة يشد الرحال نحو تونس لمواجهة النادي الصفاقسي    مجلة "رسالة المسجد" تنجح في تحقيق معايير اعتماد معامل التأثير والاستشهادات المرجعية العربي    كرة اليد/بطولة افريقيا للأمم-2024 /سيدات: المنتخب الوطني بكينشاسا لإعادة الاعتبار للكرة النسوية    حرائق الغابات في سنة 2024 تسجل أحد أدنى المستويات منذ الاستقلال    ملتقى وطني حول التحول الرقمي في منظومة التكوين والبحث في قطاع التعليم العالي يوم ال27 نوفمبر بجامعة الجزائر 3    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح السنة القضائية 2024-2025    الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي : مشروع "غزة، من المسافة صفر" يفتك ثلاث جوائز    الحفل الاستذكاري لأميرة الطرب العربي : فنانون جزائريون يطربون الجمهور بأجمل ما غنّت وردة الجزائرية    افتتاح الملتقى الدولي الثاني حول استخدام الذكاء الإصطناعي وتجسيد الرقمنة الإدارية بجامعة المسيلة    الجَزَائِر العَاشقة لأَرضِ فِلسَطِين المُباركَة    عطاف يستقبل رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية لمجلس الشورى الإيراني    عين الدفلى: اطلاق حملة تحسيسية حول مخاطر الحمولة الزائدة لمركبات نقل البضائع    الوادي: انتقاء عشرة أعمال للمشاركة في المسابقة الوطنية الجامعية للتنشيط على الركح    "تسيير الارشيف في قطاع الصحة والتحول الرقمي" محور أشغال ملتقى بالجزائر العاصمة    الجامعة العربية تحذر من نوايا الاحتلال الصهيوني توسيع عدوانه في المنطقة    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس    الخضر أبطال إفريقيا    تعزيز التعاون بين جيشي البلدين    "طوفان الأقصى" ساق الاحتلال إلى المحاكم الدولية    مازة يسجل سادس أهدافه مع هيرتا برلين    وداع تاريخي للراحل رشيد مخلوفي في سانت إيتيان    المنتخب الوطني العسكري يتوَّج بالذهب    ندوات لتقييم التحول الرقمي في قطاع التربية    وكالة جديدة للقرض الشعبي الجزائري بوهران    الجزائر أول قوة اقتصادية في إفريقيا نهاية 2030    بوريل يدعو من بيروت لوقف فوري للإطلاق النار    الرياضة جزء أساسي في علاج المرض    دورات تكوينية للاستفادة من تمويل "نازدا"    باكستان والجزائر تتألقان    تشكيليّو "جمعية الفنون الجميلة" أوّل الضيوف    قافلة الذاكرة تحطّ بولاية البليدة    هلاك شخص ومصابان في حادثي مرور    على درب الحياة بالحلو والمرّ    سقوط طفل من الطابق الرابع لعمارة        قرعة استثنائية للحج    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغيير تصورنا للوجود: اقترب اليوم الذي…
نشر في الحوار يوم 28 - 01 - 2017

عندما نؤمن مثل معظم الجزائريين بمصادفات القدر و الخرافات، فإنه يتعين علينا الارتفاع عاليا في السماء إذا أردنا العثور على جواب للسؤال الذي يراودنا أحيانا عمَّا إذا كان مصيرنا مكتوبا منذ قبل أن نظهر على وجه الأرض، أم أنه لا يعدو أن يكون ثمرة الأفكار التي تحملها ذهنياتنا، و ما ينتج عنها في واقعنا من خلال ترجمة هذا العتاد الفكري إلى تصرفات اجتماعية، ثم إلى أحداث تاريخية تتوالى عبر الأزمان و العصور. حتما سيَميلُ رجلُ الدين المتخفي داخل كل واحد فينا إلى الفرضية الأولى، فيعيد حينئذ صياغة السؤال بطريقة مختلفة: بأي واحدة من هاتين القوتين يَتّسمُ مصيرنا: بالبركة أم باللعنة؟

يبقى الجزائريون في هذا أوفياء لحالة "المسلّمين مكتّفين" التي آلوا إليها منذ أن أوصدت في وجوههم أبواب الاجتهاد و العقلانية. تُريحُهُم فكرةُ أنَّ الله يَتَكَفَّلُ بهم واحدا واحدا فَيَرَونَ بصمات إرادته في كل أحداث و تفاصيل حياتهم اليومية. و بيد أنهم يعرفون سبحانه و تعالى فإنهم لا يتخيلون للحظة أن يصيبهم فرحٌ أو مصيبةٌ إلّا و كان ذلك مكتوبا و مقررا عليهم من فَوق. إن لم يكن بالمعنى الحرفي، أي من عند الله، فبالمعنى المجازي أي من عند حاكمهم.

يمكن أن يكون تفكيرهم هذا صحيحا فعلا عندما يتذكرون أنهم عمَّروا ثلاثين قرنا من الزمان في التاريخ الذي نعرف كونه لا يرحم الكائنات الضعيفة. فنحن تمكنا بأعجوبة من البقاء على قيد الحياة طيلة كل هذا الوقت، نقتات يوما بعد الآخر، في غالب الأحيان برغيف يابس أو "قرنينة حافية" فقط، دون أن نُشَيّدَ مدناً أو نخترع و نساهم بشيء يمكن أن تَشهدَ به لصالحنا الحضارةُ الإنسانية و العلمُ الحديث ، أو أن تُدَرّسَه للخلف.

لكننا من جهة أخرى، و رغم إفلاتنا من الزوال لم نتمكن أيضا من معالجة مشكلة التطور لا باشتراكية بومدين و لا بليبرالية الشاذلي و لا بفلسفة "قش بختة" لبوتفليقة، رغم تهاطل مليارات الدولارات علينا باستمرار و دون انقطاع منذ بداية حكمه حتى الأيام القليلة الماضية. اليوم ها نحن بدأنا نرتعش رعبا من ظهور أول علامات الجوع و الفقر التي تلوح في الأفق، و ها قد انتابنا التوجس من فكرة اقتراب اليوم الذي…

يبدو على ضوء هذا أن الله أحاطنا ببركته طيلة ثلاثة ألفيات، ثم أحل علينا بعد ذلك لعنته عند الاستقلال بأن وضع تحت أقدامنا كميات هائلة من المحروقات، اعتدنا على بيعها خاماً حتى جعل ذلك منا بلدا ريعيا و شعبا كسولا متواكلا نسي ما تَعَلَّمَهُ في السابق عن العمل و التكفل بالنفس. هل يجب أن نُذكّرَ بأن الفرنسيين هم من اكتشف النفط في بلادنا بدئا من أربعينيات القرن الماضي و وصولا إلى بداية استغلال حاسي مسعود في 1956؟ أم أن ذلك لا يهم أمام بديهية سيادة القدرة الإلهية على كل شيء؟

المدهش إذاً في كل هذا الأمر هو أننا لم ننقرض مثل الحضارات ما قبل الكولومبية أو الهنود الحمر، و هو ما يوافق عادةً سُنَّةَ التاريخ الذي لا يسمح ببقاء الضعفاء. لكننا أيضا و رغم ذلك لم نتمكن من الالتحاق بركب الأمم المتطورة مثلما يريدهُ عادةً منطق الاقتصاد عندما ننظر بعينه إلى الخيرات الهائلة المتوفرة لدينا. فلا أمواج طوفان التاريخ العاتية تمكنت من إغراقنا و ربما تخليصنا نهائيا من عناء قرون من المعيشة المُرَّة التي لم نستطع فعل شيئا إزائها؛ و لا نحن تمكنّا من الالتحاق بركب الأمم المتمكنة الجديرة لنستحق بذلك رضى شهدائنا و نضمن استمرار سلالتنا.

بقينا عالقين في مكان ما بين "الزلط" و "التفرعين"، بين الفقر و الثراء، و النجاح و الفشل، و الديمقراطية و الأصولية، تماما مثل حمار "بوريدان"، الذي عكسنا لم يعمر طويلا في وضعية التردد الذي انتابه و مات جوعا و عطشا وفقا لما تسير عليه قوانين الطبيعة. لا أعتقد أنه يوجد تفسير عقلاني منطقي، أو مبرر ميتافيزيقي للتشويش الذي يلتصق بجلدنا منذ قرون. لكني خلال بحثي في أعماق مخزون حكمتنا الشعبية عثرت على واحدة من المقولات الغريبة التي تبرز جيدا هذا التناقض الوجودي: "ماعندناش و ما يخصناش" (لا نملك شيئا و لا ينقصنا شيء). هل هذا معقول سيداتي سادتي؟

يمكن أن نفترض للوهلة الأولى أَنَّ حكمة كهذه تَشهَدُ على نوع من روح الزهد و التقوى عند أسلافنا الذين و إن لم يملكوا شيئا، فإنهم أكثر كبرياء من قارون و فرعون مجتمعين. قد يكون أوَّلُ من استعملها واحدٌ من أجدادنا "الموسطاش" الذي قد يكون ردَّ بها ساخطا على تعليق جارح مَسَّ حالته المادية البدائية، و ضَربَ بوقاحته الكبرياء الوطني في الصميم، فأصبح جوابه بعد ذلك منقوشا في ذاكرتنا الجماعية للأبد. لكننا عندما نتأمل فيها مرّات أُخَر نتساءل إن لم يكن لها معنى آخر، و إن لم تكن مجرد امتداد طبيعي لعبارة أتعس و أبغض منها هي " المتسول المغرور"، و هو ما يُحَوّل العبارة من فضيلة تُسجل لصالحنا إلى مجرد عاهة أخرى تضاف إلى رصيد عيوبنا الاجتماعية الثري؛ مديحٌ آخر للامعقول يدعم رأسمال أفكارنا الخاطئة.

فالشعب الجزائري يَجُرُّ منذ آلاف السنين أفكارا خاطئة كانت السببَ في المآسي التي عرفها تاريخه، و في عدم تمكنه من تأسيس مجتمع حقيقي و دائم، كما تُفسرُ أيضا حالة الفقر المادي و المؤسساتي المدقع التي يوجد عليها اليوم. مخزونه يزخر بالعديد من العبارات الشعبية الأخرى التي تفوق الأولى غرابة، لكن الناس مع ذلك يؤمنون بها بكل ما أوتوا من قوة و يطبقونها في حياتهم اليومية، و هي التي تتحكم في تصرفاتهم مع بعضهم حتى الطبيعية و العفوية منها. كما تزخر لهجتنا العامية بكوارث فكرية مماثلة توارثناها أبا عن جد من حياة بدائية قَبَليّة قروية و فوضوية. و هذا ما سمح منذ قديم الزمان لأي مغامر أو "جحاً" ممن يعبرون سبيل تاريخنا أن يكتشفَ بسهولة هذه الثغرة العظيمة في نفسيتنا، و يتمكن بفضلها من أن يبني تسلطه و إمبراطوريته.

هل منَ المعقول أن نفتقر إلى كل شيء و ألّا نحتاج شيئا في الوقت ذاته؟ عقلانيا لا يمكن ذلك، لكن هذا لا ينطبق على الذهنية الجزائرية التي تهتم بإخفاء الحقيقة عندما تكون مهينة لها أكثرَ ممّا تهتم بالتفكير المنطقي. فالشَّكلُ في عقليتنا أهمُّ من المضمون، و الذاتيُ أَولى من الموضوعي. و حكام اليوم، الذين يتحملون كامل المسؤولية عن نتائج الأزمة التي تدق بابنا، يَتَمَنَّونَ في هذه الأوقات المحفوفة بالخطر أن تعود هذه العبارة للحياة بكل ما تحمله من روح الاستقالة و الاستسلام للقدر. لكن ما يجهلونه، فضلا عن أشياء أخرى كثيرة، هو أنها أصبحت اليوم سلاحا ذا حدين.

فهذه الحكمة الظرفية ظهرت في أوقات كان فيها الفقر محتوما على الجميع و التقشف إجباريا، لكنها منذ ذلك الزمان قد فقدت إطارها و أسبابها الاجتماعيين، و بالتالي مبرراتها النفسية و الأخلاقية. لا توجد أدنى فرصة لأن نرى الملايين من جزائريي اليوم، الشباب منهم و غير الشباب، و الذين تعودوا على أن تكفلهم العائلة أو الدولة يرددون مقولة كهذه ليسكتوا بها صراخ بطونهم المتضورة جوعا حين ستلقي الأزمة بأوزارها عليهم، . هؤلاء سيحتضنون مقولة معاكسة تماما، خصوصاً بعد ما عرفَتهُ العشريةُ الأخيرةُ من فضائح للرشوة في الدولة. سوف يرددون بكل سذاجة و حسن نية: "عندنا و يخصنا"، إذ هم يعتبرون أن حقهم من المحروقات اختُلسَ من قبل حكامهم الطائشين، و بالتالي أَنَّ ما يملكونه مهما كان سيبقى دائما ناقصا. و عندما يصل اليَوم الذي تَسحقُ فيه الأزمةُ القدرةَ الشرائية للعاملين و تجعل الحياة مستحيلة على البطالين و الفقراء فالأكيد أن هؤلاء لن يقنعوا بالوطنية و الخبز و الماء فقط. هذا اليوم قد اقترب الآن و لن يمكن لأحد أن يوقفه.

هناك أيضا سؤال آخر أصبح الكثير من الناس لا يخجل من طرحه نظرا لحالة المهانة و الإفلاس التي وصلت إليها البلاد: هل الشعب الجزائري موجود حقيقة أم لا؟ السؤال مشروعٌ فعلا طالما هو يبدو ميتا في أجزاء كبيرة من جسده و روحه. حتى بعد الاستفزازٌ الأخير الذي ظهر هذه الأيام ليتحدى عقلهم و شرفهم دون أن يحرك فيه ساكنا و هو إعلان تحول "الجيش الإسلامي للإنقاذ" إلى حزب سياسي شرعي يعد الجزائريين مرة أخرى "بالإنقاذ".

طوال الزمن الذي كانت فيه الجزائر منحنيةً أمام مهانة الاستعمار الفرنسي، لم تكن الأناشيد الوطنية الرنانة المؤثرة مثل "من جبالنا طلع صوت الأحرار…" قد خلقت بعد. الجبال الشامخة كانت موجودة منذ ملايين السنين، و الأمازيغ كانوا يعيشون في سفحها منذ عشرات القرون لكنهم لم يكونوا قد ارتقوا بعد إلى مرتبة "الرجال الأحرار" (معنى كلمة أمازيغ). ظلَّ قَدَرُهم لوقت طويل أن يعيشوا تحت خزي الاستعمار و عاره مرارا و تكرارا، و لم تكن بَعدُ قد حانت ساعة ايقاظهم من الخضوع و الاستسلام الذي كانوا عليه، و الإلقاء بهم في تضحيات 8 ماي 1945 و 1 نوفمبر 1954 التي بفضلها استعادوا الحرية و الكرامة.

إذا كان على هذا الشعب أن يثبت مرة أخرى أنه لم يمت فسيُبرهنُ عن ذلك بانتفاضه ضد سياسة الإفلاس و الإذلال التي تُفرَضُ عليه بمزيد من التهور و الاحتقار كل يوم. و سيبرهن على هذا بإيجاد وسائل سلمية تنجح في التعبير عن رفضه النهائي و قطيعته الأبدية. ليس عليه هذه المرّة الانتقام من مستعمر أجنبي أو التخريب للمطالبة بخفض أسعار المواد الاستهلاكية، لكن أن يَقفَ لإعادة ترتيب البيت. بل لبناء البيت الذي استشهد هباءً في سبيله مئات الآلاف من الشهداء بين 1945 و 1962: "الدولة الديمقراطية الاجتماعية" التي قرَّرَها بيانُ أول نوفمبر، و التي ما أن جاء الاستقلالُ حتى مَنَعَ قيامَها مغامرون و محتالون اخترقوا القواعد الخلفية للثورة و ظلّوا في الكواليس يتربصون و يتآمرون.

لقد اقترب اليوم الذي… من رحم هذا الشعب المخدوع بالأوهام و الأكاذيب التي يُسقى بها منذ 5 جويلية 1962، سيولد 11 ديسمبر 1961 جديد. و سوف نسمع يومها نشيدا وطنيا جديدا يدوى عاليا و يعلن: "من صدورنا طلع صوت الأحرار…" ليحرر الجزائر من الشياطين و الفشل و المافيا السياسية المالية التي تحكم قبضتها عليها. ستعلن هذه الصرخة حينئذ عن ميلاد عهد جديد لها و لأجيال المستقبل، عهد لم تشهد مثله خلال الألفيات الثلاثة من تاريخها المعروف.

لا يجب لهذا اليوم الذي يقترب أن يكون موعدا للكارثة و الفوضى الانتحارية، بل لنهضة الأمة الجزائرية، ليس بمبادرة "جيش إنقاذ" إسلاميا كان أم علمانيا و الذي سيتحول لا محالة إلى زمرة حاكمة أو كهنوت ديني جديدين؛ بل انطلاقا من الإرادة الشاملة لجميع أبناء الوطن.

وراء كل حدث تاريخي عظيم في حياة شعوب العالم، و خلف كل ثورة سياسية أو علمية أو اقتصادية أو تكنولوجية فاصلة، نجد أن حجر الأساس هو دائما فكرةٌ جديدة، نظرةٌ مختلفة للعالم و طموح جماعي جديد. و قد بدأ اليومَ الكثيرُ من الجزائريين الذين كانوا لا يفرقون بين الولادة الديموغرافية و الولادة الاجتماعية، يتقبلون فكرة أن البشر يولدون "شعوبا" يمكنُ لها بعد المرور على مسار طويل و معقد من التربية المدنية أن تتحول إلى "مجتمعات". عندما يتعمم هذا الإدراك في أذهان أجزاء كبيرة من الشعب، سيمكن لنا أن نفكر جماعيا و نردد معا: "ما عندناش و يخصنا".

عندما سنقول ذلك لن نفكر في بطوننا، و إنّما سنفكر في تجميع و تحصيل المبادئ و التصرفات المدنية الضرورية لنصبح مجتمعا حقيقيا، و في تحقيق الإنجازات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي تنقصنا لنحقق ذلك. سوف نبدأ حينها بجمع الوسائل و الرجال و الأفكار اللازمة لبناء الأمة الجديدة، و لبناء "نحن" الذي سيعوض مجموعة "الأنا" التي نحن عليها اليوم.

يجب علينا أن نستعد ليوم التغيير، و أن نُحَضّرَ للمنعرج التاريخي، للثورة الأخلاقية و الفكرية و السياسية و الاجتماعية التي ستقودها الأجيال الجديدة بمساعدة البيولوجيا التي تنجز عملها بتجديد الأجيال. لا نزال نجهل إن سيكون هذا يوما مشئوما أم يوما سعيدا. لكن المؤكد أن العشريات و القرون التي ستتبعه سوف تُصنَعُ من المعدن الذي يأتي به. هذا بدوره مرتبطٌ بالأفكار التي ستصنع هذا اليوم: فإن هي كانت ذات طابع رجعي فإننا سنلتحق بالصومال و اليمن و أفغانستان و سوريا؛ أما إذا كانت ذات طابع واقعي و عقلاني و تقدمي فإننا سنسير على الطريق الذي سبقنا إليه إخوتنا التونسيون. إن كان لنا هذا كله فإننا سنكتب دستورا جديدا من أجل مستقبل جديد يحقق القطيعة الحقيقية مع قرون قابلية الاستعمار التي أدت إلى احتلالنا عديد المرات من عديد المستعمرين، و قادتنا إلى قابلية الإذلال التي وَضَعَت على رأسنا الجهلة و اللصوص.

يُمثلُ الدستورُ للشعب ما يمثلهُ القانونُ الأساسيُ للمؤسسة الاقتصادية. فمن هذا المنظار، المؤسسة الاقتصادية و المجتمع هيكلان متماثلان. كلاهما ينبثق عن مبادرة متفق عليها و عمل مشترك، و اتحاد لجهود جميع الأطراف من أجل هدف مشترك: أرباح توزع و أخرى يعاد استثمارها، إبداع، تجديد، تنافسية، نمو… دستور الدولة و قانون المؤسسة كلاهما يحدد حقوق و واجبات الشركاء (الشعب)، و يُعيّنُ هيئات التسيير (الحكومة، الرئاسة)، و يُفَصّلُ الصلاحيات المخولة لكل طرف، و يضع هيئات للمراقبة (البرلمان، المجلس الدستوري، مجلس محاسبة، مجلس دولة…)

مدير المؤسسة أو رئيس الجمهورية عندما يُعَيّن لا يمكنه أن يتجاوز حدود عهدته و صلاحياته ليحل محل الشركاء، أو أن يغير صلاحيات هيئات التسيير و المراقبة الأخرى من أجل مصالحه الخاصة أو ليبقى في منصبه إلى أن يموت، أو أن يتصرف في الأملاك المشتركة كملكية خاصة له. لكن هذا بالذات هو ما حدث مع مسيرينا السياسيين و الاقتصاديين منذ أول يوم من الاستقلال و يستمر في الحدوث، وسط تواطؤ و صمت الجميع.

في اليوم الذي سيستوعب فيه الجزائريون هذه الأفكار الأساسية و العالمية، سوف يدخلون في مسار تغيير واقعهم الذهني و السياسي و الاجتماعي و التاريخي. لكننا للأسف لا نعرف هذه الأفكار و لا نسمع بها إلا عند الآخرين، الأمريكان و الأوربيين خاصة. ما نعرفه نحن من أفكار عن التنظيم السياسي للمجموعة هو أنها ينبغي أن تخضع لقائد واحد فقط ("و إلّا ستغرق السفينة عندما يكثر رُّيَّاسها" كما يقول المثل). زعيم يمكن إن يكون صالحا فيخدم الله قبل كل شيء ثم الناس و البلد، و إن كان عكس ذلك فمصيره في الآخرة جهنم أين سيتكفل الله وحده بحسابه و ليس نحن.

هذا كل ما نملكه من الفلسفة السياسية. فلسفةٌ سطحيةٌ باليةٌ أكل عليها الدهر و شرب، نتوارثها عبر التقاليد عندنا و في باقي البلاد العربية-الأمازيغية-المسلمة، و ذلك منذ قبل مجيء الإسلام. أفكارٌ ترجع إلى تراكم قرون من الحكايات و الأساطير، و من وعظ ديني يخدم و يتماشى و يتلاقى مع مصالح أصحاب الحكم السياسي: الله يهيمن في السماء و الحاكم في الأرض. لا تهم الألقاب التي تطلق عليه: أغليد، خليفة، شيخ، ملك، أمير، زعيم، رئيس أو …جحا، فكلها، عدا فوارق بسيطة، تتمتع بذات الصلاحيات و نفس السلطة المطلقة. عندما يُبايَعُ أحد هؤلاء فإن عهدته أبدية حتى يموت، و له علينا الطاعة الكاملة إلى أن يخلفه وريثه أو الذي ينقلب عليه أو يقتله. هذا هو الصرح الذهني و الثقافي الذي بُنيَ عليه الاستبداد في بلاد الأمازيغ-العرب-المسلمين، و لا يزال يستمر.

أفكار أخرى مختلفة عن هذه مثل "العقد الاجتماعي"، القانون الأساسي"، "عقد الشركاء"، "سلطة الشعب"، "حق الشعب الدستوري"، "الانتخاب"، "الديمقراطية"، "عدالة مستقلة يمكن أن تحاكم أخطاء المسيرين"، لا مكان لها في ثقافتنا، في لا شعورنا، في ماضينا و في تاريخنا. هل اقترب اليوم الذي ستأخذ فيه هذه الأفكار مكانها كضرورة حيوية، و تُسَجَّلَ ضمن أولويات مستقبلنا و مشاريعه؟

يجب علينا لنتحرر من هذا التصور الاجتماعي و السياسي و الفلسفي المستوحى من الجوهر الديني أن نغير كل شيء تقريبا فينا: الدستور الحالي، مناهج التعليم السارية المفعول، الخطاب السياسي العام، تفكير الشعب، "العلم" الديني و نظرة الإسلام للعالم. ففي هذا المجال أكثر من أي مجال آخر يتداخلُ الدين مع السياسة و يتشابكان بما لا يدع مجالا لعلاجهما على انفصال. و هذا ما يحتم علينا الانكباب على المهمتين في آن واحد: إصلاح الفكر الإسلامي أولا ثم الدفع بفكر جزائري حديث يتماشى مع مسيرة عالم اليوم. هذا ما أسعى شخصيا لتحقيقه منذ سنوات عدة.

عرفت الجزائر منذ استعادت سيادتها أربعة دساتير (1963، 1976، 1989، 1996)، لكن أحدا منها لم يولد من رحم إرادة الشعب، من استشارة نزيهة له أو من مجلس يمثله. جميعها صيغت في السر و كُتبت في الظلام. حتى الانتقالُ من أحدها إلى الآخر أو التعديلات التي مسّتها من حين لآخر جاءت نتيجة صراعات كواليس على السلطة، كما لم يكن هدفها تأسيس السيادة الشعبية، الحريات الأساسية، التسيير الديمقراطي و الشفاف للمؤسسات أو مراقبة التصرف في الثروات العمومية.

كذلك مع مرور الوقت، ساد خلط في الصلاحيات داخل مبدأين أساسيين في الدستور: "سلطة المدستر"، أو حق صناعة الدستور، و هي المهمة التي يتمتع بها الشعب وحده، و بين "حق المبادرة بتعديل الدستور" و التي يُفَوَّضُ لها رئيس الجمهورية. هذا الخلط المتعمد و المغرض الذي فرضَ نفسَهُ باطلاً سَهَّلَ من حدوث اختلاس الصلاحيات هذا، و مَكَّنَ من مصادرة حق سيادي يعود في الأصل و في القانون للشعب، لكنه رغم هذا لم يُمارسهُ و لو لدقيقة واحدة منذ الاستقلال. الآن اقترب اليومُ الذي يَجبُ فيه على الشعب أن يَستَعيدَ حقَّه.
بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: بوكروح وليد (بتصرف)
صدر المقال في :03 سبتمبر 2015
…يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.