دكتور محيي الدين عميمور لعل التعليق الرئيسي الذي تتطلبه مداخلة السيد إدريس جزائري هو "اتق شرّ من أحسنت إليه". لكنني آخذ على صحيفة "الحوار" الغراء، خطأ أتصور أنه غير مقصود، إذ جاء في عنوان فرعي على الصفحة الأولى منسوبا للمتحدث القول بأن "محيي الدين عميمور كان يشي بي للرئيس بومدين"، وهو تعبير لم يرِد على لسان المتحدث، الذي قال، حسب النص الذي أوردتموه في صلب الموضوع: محيي الدين عميمور (كان هو الآخر يؤثر على قرارات الرئيس رغم منصبه "المتواضع" داخل المؤسسة، بحيث كان يقتضي عمله كاتب مقالات، ملحق اعلامي، لكن ليس ان يتخذ موقفا معاديا مما اقدمه من مواقف وآراء). واسمحوا لي، قبل الدخول في صلب الموضوع، أن أرفض تعبير السيد جزائري عن العلاقة بين الرئيس بومدين وبيني، فهو يدعي بأنني كنت أؤثر على قرارات الرئيس رغم منصبي المتواضع داخل المؤسسة، وهكذا يعطي عن واحد من أعظم الزعماء العرب والمسلمين صورة إنسان "بو ودينة" يؤثر على قراراته موظف في منصب متواضع، ولا أملك إلا أن أقول للسيد إدريس، وبدون تواضع كاذب، إنني كنت، بإرادة الرئيس بومدين وباختياره، أقوم بمهام المستشار مدير الإعلام في الرئاسة، لا أكثر ولا أقل، ولم أتخذ يوما موقفا معاديا لأحد، وكنت أود، ليحترم القراء الشهادة، لو استعرض لنا المستشار الجهبذ بعض آرائه التي ادعى أنني اتخذت منها موقفا معاديا لدى الرئيس، وهو ما يجب أن يفهم منه أن الرئيس كان "يخون" أمانة المجالس فيقول لمسؤول إن مسؤولا آخر هاجم آراءك، في حين أن كل النقاشات في الرئاسة كانت تتم وجها لوجه. ولعلي أذكر بالمناسبة أنني قمت بواجبي مع الرئيس بومدين إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، فواصلت نفس العمل مع الرئيس رابح بيطاط، ثم تمسك بي الرئيس الشاذلي بن جديد، رحم الله الجميع، في نفس الموقع، وكان المفروض، لأنني مجرد بشر قد يفرح للمديح ويطرب لسماعه، أن أقع في الفخ وأنشر على رؤوس الأشهاد ما قاله إدريس، وأترجم مقولته إلى كل اللغات، فمن هو الموظف الصغير في المنصب المتواضع الذي لا يرقص فرحا عندما يقال إنه كان "يؤثر" على قرارات الرئيس بومدين، وما أدراك من بومدين. لكنني والحمد لله ممن يؤمنون بمقولة: عاش من عرف قدره فجلس دونه. وأعود هنا للنص الذي أورده الأخ يعقوبي من تصريحات إدريس جزائري على "الفيس بوك" وأذكر المثل الشعبي: "كي طارت الطيور جات الهامة تدور". فالصحفي يسأل السيد جزائري عن السبب في أنه لم يكتب مذكراته عن عمله مع الرئيس بومدين، فيجيب الدبلوماسي الألمعي: ماذا أكتب عن رجل لم يكن سعيدا في حياته الشخصية فأثر ذلك على كل شيء حوله، وعاش رحمه الله سنواته الأخيرة في حالة نفسية متدهورة!!!!! (وليتني كنت قادرا عل أن أضيف مئات من علامات التعجب). هذا موظف أنقذه الرئيس بومدين من وضعية المتعاون الفني، حيث كان بعيدا عن الجزائر طوال حياته العملية، وكان رصيده الأول عند الرئيس انتماؤه العائلي للأمير عبد القادر، ويقول بعض من عملوا معه إنه كان في سنواته الأولى في وزارة الخارجية يطالب بكتابة لقب "الأمير" أمام اسمه، حيث يبدو أنه ألف ذلك في الشام، ولقد كنت ممن يتعاملون معه ومع غيره بكل مودة، ولم يكن بيننا، بحكم اختلاف المهام، أي مبرر لأي احتكاك أو توتر. لكنني أحسست بأنه، ولأنه لم يقل كلمة خير واحدة في الرئيس الراحل منذ وفاته وطوال نحو أربعين سنة، ولم يحاول تكذيب أو تفنيد الادعاءات التي رددها أعداء الرئيس وخصومه، وبل وبعض رفقائه عبر المنابر الإعلامية في الداخل والخارج، راح يبرر سكوته بأنه لا يجد ما يكتبه عن رجل لم يكن سعيدا في حياته الشخصية، وعاش بقية حاته في حالة نفسية متدهورة، في حين يعرف العالم كله أن بومدين مات واقفا. وإذا أخذنا العشرية الأخيرة في حياة الرئيس بومدين لنعرف القضايا الرئيسية التي كانت تشغل باله وتؤرق نومه ولم يتوقف عندها السياسي الكبير نتذكر معركة النفط بكل تداعياتها، والتي قالت فرنسا إثرها عن بترولنا بأنه "أحمر"، وكان مفروضا أن إدريس، الخبير الاقتصادي الكبير، كان جزءا من تلك المعركة الهائلة، والتي استمر الصراع بشأنها حتى مؤتمر الأوبيك في منتصف السبعينيات، بكل ما دار فيه وعلى هامشه، ومن أهمها المصالحة العراقية الإيرانية. ولكن يبدو أن المستشار الكبير كان آنذاك، على رأي عادل إمام، في الحمام. ويقول إدريس في حواره: "كنت اقدم للرئيس العديد من المعطيات تخالف ما قدمه له بعض الوزراء، الامر الذي اثار حفيظة بعضهم، حيث انتشرت داخل المؤسسة، اذ كلما كان الرئيس مسرورا فذلك لاستماعه آراء من طرفهم، وكلما كان غاضبا تعيسا فإدريس من قام بهذا وعكر صفو ومزاج الرئيس، وغالبا من كان وراء هؤلاء طرف وفاعل أجنبي مثير، حيث كانوا يستندون عليه ويدعمهم". وتعبير بعض الوزراء هنا المقصود منه في ظني، وحسب ما كان يتردد آنذاك، هو أساسا عبد السلام بلعيد، الرجل الذي قاد معارك النفط بتوجيه من الرئيس بومدين وتحت رعايته الكاملة، والذي كان يقال إن إدريس يكرهه كراهية التحريم، وربما كان المقصود أيضا، وبجانب العبد الضعيف، الأمين العام الدكتور محمد أمير والأخ إسماعيل حمداني (وبلعيد مريض لا يستطيع الردّ، والآخران في رحاب الله). وحقيقي أن الرئيس كان يطلب من مستشاريه إعطاء آرائهم في المشاريع الوزارية، لأنه لم يكن يتعصب لرأيه، وكان ذلك يُمثل الرأي الآخر (Antithèse) فيكون طرح الوزير المسؤول هو الرأي (Thèse) وهكذا يصل الرئيس إلى الاستنتاج النهائي (Synthèse) الذي تتكامل فيه الآراء، وهذا هو أسلوب العمل الذي جعل من الجزائر ما نتذكر أنها كانته. وأعتقد أنه من قلة الأدب، لكيلا أستعمل لفظا قليل الأدب، أن يقول أحدهم عن وزراء اختارهم الرئيس بومدين إنه "كان وراءهم طرف وفاعل أجنبي مثير، كانوا يستندون عليه ويدعمهم". وأقول هنا إننا كنا جميعا نرفض ادعاءات مماثلة قيلت عن إدريس نفسه، بحكم صلات عائلية غير جزائرية. وأعود إلى معاناة الرئيس بومدين، التي لم يرَ منها الدبلوماسي الغضنفر إلا أن الرئيس لم يكن سعيدا في حياته الشخصية، وبدون أن يُفسّر لنا ذلك، وبدون أن يدرك أن هناك ما يُسمّى بالحُرمات التي لا يقترب منها جزائري أصيل. وأتذكر من جهود السبعينيات ومعاناتها موقف الرئيس بومدين الرائع في حرب أكتوبر 1973، ومن الطبيعي ألا يتوقف عندها السيد جزائري لأنه ليس عسكريا ولم يطلق في حياته رصاصة، لكنني أتصور أن معركة النفط مع حماة إسرائيل، والتي كانت الجزائر في طليعة محاربيها، كانت تتطلب من الخبير الاقتصادي الألمعي كلمات يسجل فيها مواقف الرئيس بومدين الشجاعة، وذكاء التنسيق مع الملك فيصل، وقوة التصدي لألاعيب كيسنجر (وأخونا من خبراء السياسة الأمريكية كما كان يقول البعض) لكننا لم نسمع من المذكور كلمة واحدة عن كل ذلك، فهو رقيق القلب مشغول بمعاناة بومدين الشخصية. ثم عرف منتصف السبعينيات إعداد الميثاق الوطني ثم الاستفتاء عليه ثم دستور 1976 والاستفتاء عليه ثم الانتخابات الرئاسية الأولى في عهد بومدين، وكان يمكن أن نتفهم أن عدم اهتمام إدريس جزائري بهذه القضايا هو أنها قضايا داخلية لو توقف لحظات عند مؤتمر الأوبيك في الجزائر، والذي كان نجمه الجزائري هو عبد السلام بلعيد، أو لو كان عبر عن مشاعره تجاه عملية "كارلوس" التي تولى إدارة التعامل معها وزير الخارجية عبد العزيز بو تفليقة لإنقاذ وزراء الأوبيك، وهي عملية كان المفروض أن يكون إدريس جزءا فاعلا فيها، لو كان له الوزن الذي يفرض ذلك، ولكن يبدو أنه كان في الحمام. غير أن أخانا قدم نفسه كلاعب رئيسي في لقاء صدام حسين وشاه إيران، وهي عملية كان مهندسها هو عبد العزيز بو تفليقة، وكان دور إدريس، في حدود ما عرفته آنذاك، هو دور المترجم الكفء. ثم جاء التعديل الوزاري بكل مشاكله في 1977، وتوازى ذلك مع عزم الرئيس بناء المؤسسة السياسية للبلاد بعد أن أعدت وثيقتها الأساسية، أي الميثاق، وكان اهتمام بو مدين الرئيس هو ضمان التناسق والتكامل مع المؤسسة العسكرية، وفي هذا الصدد اختار قائد الكلية العسكرية المجاهد المُعرّب محمد الصالح يحياوي لقيادة الحزب، رغم تردد الأخير لإحساسه بأن هذا قد يعني التخلص منه، وكان مرحلة صعبة عانى فيها الرئيس الكثير، وأشرت لها في بعض كتاباتي. واضطر بومدين للقيام بتعيينات وزارية لم يكن مقتنعا ببعضها ليضمن وضعية الهدوء السياسي التي تمكنه من عقد مؤتمر الحزب عام 1978 في أحسن الظروف، وهي معاناة ما بعدها معاناة، وكل هذا وأخونا ما زال في الحمام. ثم جاءت الكارثة العربية الكبرى بزيارة الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة في نوفمبر 1977، وتحمل الرئيس الجزائري عبئا رهيبا في التصدي لما حدث، وذهب إلى ليبيا (التي كانت احتضنت يوما السيد إدريس جزائري وحيث دفن والده رحمة الله عليه هناك) وتساءل البعض لماذا لم يرافق إدريس الوفد، وقال البعض إن عمله اقتصادي بحت. وإذا كان الرئيس بو مدين قد واجه كل هذه الأعباء وهو يعاني من مشاكل عائلية، فالرجولة أن يعترف له من يدعون به وصْلا أنه كان قائدا فذا وزعيما عظيما ورئيسا شجاعا داس على عواطفه الشخصية وتناسى مشاكله العائلية ليقوم بدوره التاريخي خدمة لبلده ولأمته، ولعل هذا هو ما أجهز عليه وهو لم يكمل 46 ربيعا، وأترك تقييم من لا يعترف للراحل الكريم بخصاله النبيلة لمجموع القراء. ويبقى أن أضيف، للأمانة، التعليق الذي نشرته في الفيس بوك ردا على يعقوبي، وأهم ما فيه: عرفت إدريس رجلا هادئا قديرا باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وكنت من بين من تستر على قضايا عائلية رويت عنه، ولم يكن إدريس في موقع يمكنه من أن يعرف كل شيء عن الرئيس بو مدين، بل أي شيء ذا قيمة تاريخية عن الرئيس، وقد استعمله بو مدين في وزارة الخارجية كمدير للإدارة الاقتصادية إكراما لمن ينتمي له عائليا ولما بدا من كفاءته الاقتصادية، وكان يراه في وضعية متعاون فني يحمل الجنسية الجزائرية، وعندما جاء الشاذلي استعمله كمترجم، وكنت ممن وقفوا وراءه لدعمه خصوصا خلال الرحلة الإفريقية، حرصا مني على أن تكون كل خطب الرئيس وتدخلاته باللغة العربية، وذلك بالتعاون مع الرفيق مولود حمروش، الذي يعرف الكثير، لكن الأيام أثبتت أن إدريس الجزائري كان أقل من الآمال التي علقت عليه، ومسكينة بلادنا التي تكاثر فيها من أكلوا الغلة.