هناك جملة عوامل أنقذت مشروع التغيير التونسي، ولعل الدرس التونسي يكون مفيدا لتقويم تجارب أخرى ظلت الطريق، أو لم تحسن التعامل مع مراحل انتقالية غاية في الصعوبة والتعقيد. فتونس المجتمع، مدين لمشروع التحديث والتطور، وليست نبتة منفصلة عن واقع كيان يتلمس طريقه بعد ثورة شعبية أطاحت بالحكم السابق. المجتمع التونسي، مجتمع متعلم تعليما جيدا تتضاءل فيه الأمية إلى حد كبير. وهو مجتمع متناغم تؤشر على ذلك حالة الانسجام بين مكونات الشعب ، لم يرتهن للقبلية والجهوية فضلا على الطائفية، وقد يعود ذلك الى العهد البورقيبي، الذي ركز على مسألة التحديث والتعليم والاندماج الاجتماعي.. وبغض النظر عن السلبيات، التي طالت محاولات علمنة مركبة جعلت جزءا من الشعب التونسي يدرك مخاطر الانسياق خلف واجهة علمانية تكاد تسلخه عن هويته العربية والاسلامية، التي تنامي الوعي بها خلال العقود الماضية وخاضت صراعا مع السلطات. واعتقد أن أهم عوامل نجاح تونس في اجتياز المرحلة الانتقالية، إنما يعود للمرونة السياسية والتطور الفكري الذي نزعت إليه حركة النهضة. فلم تجعل فوزها الكبير في انتخابات المجلس التأسيسي تفويضا تملك من خلاله الاستمرار في تشكيل الحكومة والهيمنة على كل شيئ.. رغم تحالفها مع حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات في إطار ما سمّي "الترويكا الحاكمة". لقد أدركت الحركة ببراغماتية حكيمة، أن أخطر المراحل هي تلك التي تصر فيها على السيطرة على رئاسة الحكومة في مرحلة انتقالية، يمكن أن تذهب بكل مكتسبات الثورة وتجعل الحزب ومشروعه الخاسر الأكبر، حيث أنتجت المراجعات المهمة التي قامت بها النهضة سواء كأفراد اقصد الغنوشي او كمؤسسة منطق سياسي وخطاب توافقي في مرحلة انتقالية كانت تتطلب قدرا من المرونة والتنازلات للوصول إلى ديمقراطية ترسل جذورها في ارض طرية لازالت تتطلب الكثير من العناية حتى تتجذر فيها المؤسسات القادرة على حمايتها. لقد اختارت الحركة التسويات والحلول الوسطى لتجنب العنف والمواجهة، ولتكون تونس الرابح بين الدول العربية التي اشتعلت فيها الثورات الشعبية. الأمر الآخر، والذي يشكل موضوعا مهما في التجربة التونسية، مؤسسة الجيش او مايسمى في أدبيات التغيير الكتلة الحرجة في عملية التغيير. فلم تحاول هذه المؤسسة الإمساك بمقاليد الحكم حتى في أدق المراحل وأكثرها توترا أثناء الثورة التونسية، أو في المرحلة الانتقالية، وأبدت قدرا كبيرا من الانضباط والانحياز لمهامها، وتركت للساسة تمرير المرحلة الانتقالية. يقول الدكتور د. عبدالله القفاري: إن قوة الوعي السياسي والشعور بالمسؤولية لدى طبقة سياسية انحازت لأهداف الثورة، بالإضافة إلى تحييد مؤسسة الجيش، والعمل أيضا بمبدأ – عفا الله عما سلف – تجاه السياسيين والمسؤولين الذي عملوا في عهد النظام السابق دون عزل أو إقصاء.. هي الثمرة التي تقطفها تونس في مشروع التحول الأهم على صعيد التغيير الذي بدأ منذ مطلع عام 2011. ينضاف إلى تلك العوامل عاملا مهما جدا أحدث الفرق في تجارب الربيع العربي في باقي الدول أن تونس لم مجالا لصراع القوى الخارجية على نحو نراه في ليبيا او سورية أو اليمن. لقد كان من حظ التونسيين ان بلادهم لا تشكل معبرا استراتيجيا، ولا يوجد بها نفط ومصالح اقتصادية كبرى يحتدم الصراع حولها، كما أنها لم تكن بيئة طائفية تحيل الاختلاف العقدي إلى جنون يفتك بالبشر. إن النضج والتطور في خطاب "النهضة" الذي أبانت عنه وسوقت له من خلال وسائل الإعلام والعلاقات البينية مع دول الجوار خاصة الجزائر يرجع إلى عدة عوامل منها: أولا: تجربة القمع والاضطهاد والتواطؤ والإقصاء طوال حقبة النظام البائد ساعدت الحركة على تطوير مواقف وخطابات تكون بديلة "للمنظومة" التي كانت سائدة في تونس وفي البلدان العربية. ثانيًا: البناء على خبرة وتجربة التحالفات والتواصل مع الأحزاب والمجموعات والشخصيات المعارِضة ممن شملهم القمع الممنهج لنظام بن علي. ثالثًا: التطور التنظيمي للنهضة وتحررها من هرمية وأشكال العمل الإسلامي الرتيبة ومراعاة خصوصيات البلدان وتقاليد العمل السياسي بها، فضلا عن استفادتها من تجربة الحركة الإسلامية في السودان التي راكمت خبرات سياسية ساعدتها على دخول معترك الصراع السياسي وهو ما لم يكن متاحًا في البلدان العربية الأخرى في تلك الفترة. رابعًا: خصوصية تونس ذات الإرث الحضاري الذي تعرّض -بسبب الاستبداد- إلى تخريب ثقافي باسم الحداثة تارة وتارة أخرى باسم السلفية، فحركة "النهضة" وهي إذ تسعى إلى إيجاد بديل حقيقي لا يعيد إنتاج التجارب السابقة كان يتوجب عليها تبني مواقف وخطابات سياسية مغايرة. خامسًا: طبيعة تكوين الفكري والثقافي للقيادات البارزة بالحركة الذي يجمع بين التكوين التقليدي والحديث وهو ما انعكس في أفكار وتصورات هؤلاء القادة في المجال العام. وأخيرا، إدراك قادة النهضة لموازين القوى والرهانات في تونس وخارجها.فحركة النهضة تتوفر على خزان من اهل الفكر والثقافة نذكر منهم الشيخ راشد الغنوشي والمفكر عبد المجيد النجار والشيخ عبد الفتاح مورو. ويذهب الدكتور عبد الله القفاري أبعد من ذلك في تلخيص تجربة الإسلام السياسي بتونس -ممثلة في النهضة- حيث يشير إلى أنها من خلال سلوكها هذا وممارستها لعمل سياسي جديد أثبتت الحقائق التالية: أولا: إمكانية تطور الحركات الإسلامية إلى حركات سياسية راشدة تكون عاملاً مهما في تعميق التحولات السياسية في البلدان العربية وصولًا إلى نظم ديمقراطية مستقرة راسخة، فقط إذا ما توسع الحيز الديمقراطي العام بما يسمح بذلك، وإذا ما تخلت النخب الحداثوية عن عقلية الوصاية واستصغار الشعوب العربية التوّاقة للتحرر من نيْر الاستبداد. ثانياً: إن الانتقال الديمقراطي وهامش التحول الديمقراطي لا يمكن المحافظة عليه أو توسيعه تدريجيًّا من دون وجود الحركات الشعبية ذات الثقل كالحركات الإسلامية، لا سيّما في تراجع التيارات القومية واليسارية. ثالثا: إن الركون لتفسيرات "ثقافوية" لتبرير وإدامة نظم التبعية والاستبداد بالخوف من الحركات الإسلامية أو بدعوي قصور الشعوب العربية، قد أتت ثورات الربيع العربي على حجج هذه "التفسيرات" وفضحت مروجيها. كما أن من العوامل الأخرى التي ساعدت على نمو واستمرار التجربة رغم التحديات التي واجهتها: (1) انخفاض عدد الشهداء والمصابين في الثورة التونسية بشكل عام، ما أدى إلى التئام الجروح السياسية بشكل عاجل، وقد اختارت مختلف القوى السياسية في تونس (ما عدا الجبهة الشعبية) مبدأ المصالحة الوطنية في التعامل مع بقايا النظام القديم، تاركة مصيرهم مرهونا بالصندوق الانتخابي. (2) على الرغم من تكرار الحوادث الإرهابية التي طالت رموز سياسية، وعناصر من الجيش والشرطة التونسية، فإن الوضع الأمني هادئ ومستقر مقارنة بالوضع المصري. (3) يتمتع المجتمع المدني التونسي، وخاصة التشكيلات النقابية بقدر معقول من القوة، تتيح لها التأثير في العملية السياسية، ودليل ذلك الدور الحاسم الذي لعبه كل من اتحاد الشغل، وهيئة المحاميين التونسيين، ورابطة حقوق الإنسان، في إصدار القانون الانتخابي الذي حظي بموافقة كل القوى السياسية، والذي على أساسه نجحت الانتخابات التشريعية والرئاسية.
تقييم تجربة حركة النهضة في الحكم لا تخلو أي تجربة بشرية من النقد والتقييم سيما إذا كانت هذه التجربة تتم في أجواء سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية خطيرة وقلقة ومتغيرة ومتسارعة ولا يوجد أمامها أي نموذج سياسي للاقتداء والنقل وحتى الاستنساخ ،وكأن تاريخ أي تجربة يقول إنها فريدة حيث تصنع على عين الفاعلين فيها وهي بنت اللحظة التاريخية التي تقع فيها الأحداث والوقائع، والتجربة التونسية واحدة من هذه التجارب التي أنتجت نفسها وصنعت نموذجها الذاتي بأيدي تونسية صرفة، وسنة واحدة من الأداء والتفاعل غير كافية لتقييم أداء تجربة حركة النهضة في السلطة بالرغم من أنه قد جرت العادة بالشروع في قياس أداء الحكومات في البلدان الديمقراطية بعد مرور 100 يوم من انطلاق أعمالها، إلا أن الظرف الاستثنائي الذي مرت به تونس يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند الحكم على هذه التجربة. وعند التقييم لا يوجد أفضل من الاطلاع على مضمون الانتقادات التي وجهت لتجربة حركة النهضة في الحكم من أبنائها ومعارضيها في عين المكان لان أهل مكة أدرى وأعرف بشعوبها وشعابها لذلك كانت هذه الفقرة استعراض لأبرز الجوانب المتعلقة بالتجربة الصعبة من مسار الثورة التونسية، والتي تولت حركة النهضة قيادتها ضمن ائتلاف ثلاثي، حيث يمكن تسجيل جملة من الملاحظات التي أبداها بعض الخبراء بالتجربة ومنهم حمادي الجبالي وصلاح الدين الجورشي ومنها مايلي: * إن حجم التركة الموروثة عن مرحلة الدكتاتورية والتي زادتها تعقيداً تداعيات الثورة وسقوط رؤوس النظام السابق، قد أسهما بشكل واضح في إنهاك الحكومة وتشتيت قواها وبعثرة جهودها، لقد نجح بن علي في تقديم صورة مغلوطة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي تختلف إلى حد كبير عن الحقيقة التي اكتشفها التونسيون بعد فراره ،بتواطؤ حتى مع بعض المؤسسات المالية الدولية التي كشفت الازمة التونسية زيفها، ولهذا سيكون من الصعب إعادة البناء في وقت قصير، سواء حكم الإسلاميون أو غيرهم. * بذلت حكومة الترويكا برئاسة حركة النهضة في عهد الجبالي او العريضي جهوداً واضحة في عديد القطاعات، غير أن المحصلة كانت مع نهاية سنتها الأولى ضعيفة ودون انتظار التونسيين، الحركة لدى الرأي العام قد تضررت بشكل واضح، وهو ما عكسته عمليات سبر الآراء التي توقع بعضها أن الحركة قد تخسر في الانتخابات القادمة حوالي الربع من قاعدتها الانتخابية. * يأتي عامل عدم الخبرة في مقدمة العوامل التي تفسر تعثر نشاط الحكومة وضعف أدائها، وهو ما كان له تداعياته السلبية على رصيد حركة النهضة النضالي والشعبي، والخبرة في هذا المجال لا تقاس أساساً بالشهادات الجامعية وانما في قدرة المسؤول السياسي على معالجة المشكلات وإشراك الآخرين في تذليل الصعوبات، كما يعتبر العمق الثقافي والقدرة على الإقناع والتواصل مع المواطنين من بين شروط نجاح القادة، خاصة في المراحل الانتقالية التي تبحث خلالها الجماهير عن شخصيات كارزمائية تجمع ولا تفرق، وتعيد الأمل في المستقبل وتؤسس للمصير المشترك. * أضفت المشاركة في السلطة على خطاب حركة النهضة الكثير من النسبية وجعلها أكثر واقعية، إلى درجة أن خصوصيتها الدينية كادت أن تختفي نهائياً، ولم يعد يميزها عن بقية الأحزاب الأخرى إلا بعض الشعارات وعدد من المسائل المحدودة ، وهو ما دفع بالتيارات السلفية إلى اتهامها بكونها قد تخلت عن "المشروع الإسلامي" مقابل ترضية خصومها السياسيين وكذلك الجهات الغربية، ولا شك في أن الحركة وجدت نفسها مدعوة إلى مراعاة الأشواط الهامة التي قطعها المجتمع التونسي في مجال التحديث ، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار الإطار الدولي الضاغط، بحكم قرب تونس من أوروبا، وارتباطها اقتصادياً وثقافياً بفرنسا وبالاتحاد الأوروبي، إلى جانب الدور الأساس للولايات المتحدة الأميركية في تونس وفي كامل المنطقة، كل هذه الجوانب الجيوسياسية لم يكن بإمكان قادة الحركة أن يتجاهلوها أو يقللوا من أهميتها، ولهذا وجدت النهضة نفسها تتجاذبها تيارات مختلفة، فالبعض يذكرها بهويتها الدينية التي كانت في البداية مبرر وجودها، وفي المقابل تيار آخر يدفع بها نحو الاستجابة لمقومات اللعبة الإقليمية والدولية، وذلك بالتمسك بخطاب سياسي معتدل وواقعي. * أكدت الحالة التونسية أن ممارسة السلطة – خاصة في المراحل الانتقالية الصعبة – يستهلك بسرعة الرصيد الرمزي للحكام الجدد، ويجعل شعبيتهم مهددة بالتآكل والتراجع، نتيجة عدم القدرة على معالجة المشكلات، وهو ماحدث فعلا لقيادات النهضة وحلفائها في الترويكا وقد أثبتت الانتخابات التشريعية ذلك. وقد سبق لرئيس حركة النهضة أن أقر في تصريح له لصحيفة الحياة بأن السلطة "عامل تهرئة، وهناك فرق بين من يبشر بالمثل ومن يمارسها، هناك فرق بين من يطلب منه إلقاء خطاب فيه تنكيت، وبين من هو مطلوب منه أن يوفر الشغل للناس وأن يوفر الغذاء والأمن والدواء".