بقلم: مؤمن بسيسو قدرة الفرقاء التونسيين بقيادة حركة النهضة على تجاوز الأزمة الداخلية مؤخرا عبر التوافق على مهدي جمعة كمرشح توافقي لرئاسة الحكومة القادمة في ظل خارطة الطريق المعلنة، تكشف عن ثراء التجربة الإسلامية التونسية، واختزانها الكثير من أركان الحكمة ومقومات الذكاء السياسي اللازم لمواجهة كافة المحن والتقلبات والتحديات. الحكمة هي أهم ما يميز الحركة الإسلامية التونسية (النهضة) بقيادة الشيخ المفكر راشد الغنوشي. مع البدايات الأولى لفوز حركة النهضة بالنصيب الأهم في الانتخابات البرلمانية عقب ثورة الياسمين، استدعت الحركة مفهوم الشراكة والوفاق الوطني كأساس متين وناظم رئيسي للحياة السياسية التونسية والعلاقات التونسية الداخلية. وهكذا تشكل ائتلاف مهم في سياق النظام السياسي التونسي، وفرضت (الترويكا الثلاثية)، التي تكونت من أكبر الأحزاب التونسية ذات الثقل الجماهيري، ذاتها ضمن مسار التحول الديمقراطي الذي استحث الخطى في مرحلة ما بعد الثورة. ومع ذلك، فإن الحكمة التي اقتضتها طبيعة التحديات التي تواجهها تونس، وموجبات الالتفاف على الانقلاب العسكري الذي يتم التحضير له على النمط المصري المشؤوم، دفعت (النهضة) إلى ابتدار المرونة السياسية المطلوبة، وإعادة صياغة مواقفها السياسية على الصعيد التكتيكي من جديد. لذا، فإن إعلان الشيخ الغنوشي عن قبول (النهضة) باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات وطنية لحل الأزمة التونسية الداخلية، وما تلا ذلك من توافق على مهدي جمعة لرئاسة الحكومة القادمة في ظل الرؤية التوافقية التي تم بلوغها بين الفرقاء السياسيين في تونس مؤخرا، يجسد عمق الوعي السياسي للحركة الإسلامية التونسية، ويشكل الباعث الأكبر على احتواء المخططات الآثمة التي تحاول إجهاض الثورة التونسية وإزاحة الإسلاميين قسرا عن المشهد السياسي، وحرمانهم من امتلاك أدوات وآليات التأثير في صنع القرار الوطني. ولعل في تتبّع فكر الشيخ الغنوشي بشكل عام ما يشير إلى عمق حكمته ومدى إيمانه وقناعاته بالنهج الوحدوي التوافقي، وحرصه على توفير كل أجواء ومقومات العمل السياسي والأداء الوطني الجالب لقيم التفاهم والتعاون والتسامح، واللافظ لكل معاني التفرد والأثرة والاستبداد. إن من الواضح تماما أن الشيخ الغنوشي يحاول -عبر سلسلة دفوعاته ومقارباته السياسية الوحدوية والتوافقية على الحلبة السياسية التونسية- إرساء نظرية سياسية ووطنية جديدة في تونس ترتكز على إعلاء القيم الوطنية الجامعة على حساب الاعتبارات الحزبية الضيقة، وتحشيد مختلف الطاقات والشرائح التونسية من أجل إنفاذ مسيرة التحول الديمقراطي، وبناء نظام سياسي ديمقراطي يخضع لاعتبارات العدالة والتوافق والقانون ويلغي نزعات التفرّد والاستبداد إلى الأبد. من البديهي أن الثمار المتمخضة عن الحوار الوطني التونسي حتى الآن تشير إلى نجاح سياسي لحركة النهضة، وقدرة ناجزة على سرعة التأقلم مع المتغيرات، وإدراك كبير لطبيعة العمل السياسي وتداخلاته الواضحة وتشابكاته الحادة التي تملي استدعاء اليقظة التامة والذكاء البالغ على الدوام. صحيح أن عملية الحوار الوطني التونسي لم تبلغ نهايتها بعد، إلا أن الشوط المهم الذي بلغته مؤخرا يمنح التجربة السياسية الخاصة بحركة النهضة بعدا جديدا، ويضيف إليها رصيدا معتبرا في إطار معترك العمل السياسي الذي لم تخبُر تعرجاته وتشابكاته الحادة معظم الحركات الإسلامية في المنطقة العربية. ومن هنا يُحسب للحركة الإسلامية التونسية اقتدار سياسي يتأسس على مرونة فائقة منحتها هامشا واسعا من القدرة على المناورة، والحفاظ على التحالفات، والالتفاف على كل محاولات الانقلاب التي تستحثها جهات معروفة على الحلبة السياسية والحزبية والأمنية التونسية. وكما أن عنصر التوقيت يشكل مكونا بالغ الأهمية في إطار إنضاج وإنجاح أي تجربة سياسية وتجاوز التحديات التي تعترضها، فإن (النهضة) استطاعت استخدام وتوظيف عنصر التوقيت بشكل دقيق من البداية بما يخدم مشروعها الوطني العام (استكمال إنجاح الثورة التونسية)، ومشروعها الحزبي الخاص (استئناف الحياة الإسلامية في المجتمع التونسي) بعيدا عن الجمود والتحجر الذي هيمن على بعض التجارب الإسلامية الأخرى. وعليه، أحسنت (النهضة) صنعا حين تعاملت مع كل مرحلة ومنعطف وفاصل زمني بما يستحقه، ولم تتمترس حول موقف أو إجراء معين أو تتقوقع في إطار مقاربة سياسية واحدة، بل أعطت الواقع السياسي التونسي ما يستحقه من معالجات سياسية قد تتغير وتتبدل وفقا للظروف السائدة في سياق الرؤية الشمولية التي تستهدف تحقيق المصلحة العامة لتونس: الدولة والثورة والمجتمع. لقد أدركت (النهضة) أن لكل مبادرة سياسية وقتها، وأن ما قد صلح بالأمس قد لا يصلح اليوم، وما قد يصلح اليوم قد لا يصلح في الغد. لذا، قاد حسن الوعي ودقة الفهم والتدبير إلى استدراك الموقف، وإلى حسن المبادرة إلى قطع الطريق أمام المخطط الانقلابي المرسوم، الأمر الذي يسّر للحركة الإسلامية التونسية زخما سياسيا واضحا على طريق احتواء المخطط الانقلابي الذي يتربص بالمشهد السياسي التونسي. حين يقبل الشيخ الغنوشي باستقالة حكومة (الترويكا) وتشكيل حكومة كفاءات، فإنه يُعمل فقهي: الأولويات والموازنات اللذين يستهدفان تحقيق مصلحة الشعب التونسي، واستكمال تحقيق أهداف الثورة التونسية، وتحقيق أهداف الحركة الإسلامية التونسية في بناء نظام سياسي ديمقراطي يرتكز على قيم الحرية والعدالة والكرامة الاجتماعية، وإعادة صياغة المجتمع التونسي على أسس قيمية وأخلاقية. من المعروف أن الحكومة هي أداة من أدوات العمل السياسي، وأن التشدد في التمسك بها والمنافحة عنها في الوقت غير المناسب، قد يجر لمهالك سياسية ووطنية، ويمنح الأعداء والخصوم فرصة إشعال النار وإحراق البلاد، وإنتاج ثورة مضادة تنقلب على كل ما هو ديني وأخلاقي وإنساني كما هو الحال الحاصل في مصر اليوم. فالحكومة -إذن- أداة متغيرة وليست مقدسة، والعبرة لا تكمن في التقوقع فيها والتحجر حولها وربط وجودها بالقيم والمصالح والثوابت كما يتوهم البعض، بقدر ما تكمن في سلامة تشخيص العلل والأدواء والأزمات الوطنية، وتحديد أنسب الآليات وأصوب السبل وأسلم الخيارات لمعالجتها وتفكيك عقدها المستحكمة. وتأسيسا على ذلك، لم تخطئ (النهضة) وزعيمها العنوان أو تنحرف بوصلة أولوياتها الوطنية، وأحكمت مواقفها ومقارباتها من منظور شرعي ووطني في ضوء فهم دقيق للواقع التونسي وتطوراته المختلفة، مما أعفاها من السقوط في فخ الجمود وصنمية المواقف، وضخّ في شرايينها الحيوية المطلوبة لمواجهة التحديات المطردة التي تواجه تونس وثورتها المباركة. وبذلك تجاوزت (النهضة) عقدة سياسية كأداء أرهقت كاهل الحركات الإسلامية في المنطقة العربية عقب فوزها في الانتخابات البرلمانية في المرحلة الأخيرة من حيث اعتبار تشكيل الحكومة في بلدانها حقا مقدسا غير قابل للنقض أو المساومة بأي حال من الأحوال. وبذلك -أيضا- تقدم (النهضة) نموذجا متقدما في سلامة تطبيق القواعد الشرعية حين يتم إنزالها على أرض الواقع بمعزل عن خلل وأخطاء التطبيق، ودرسا هاما لمختلف الحركات الإسلامية في أصول وآليات التعامل مع الوقائع والتحديات السياسية في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وحسن اختيار الأولويات، على أسس شرعية راسخة وأرضية واقعية صلبة. لعل أحد أهم مشكلات الحركة الإسلامية في المنطقة العربية أنها لا تحاول تنسيق رؤاها وخبراتها وبرامجها في إطار مشترك بدعوى الخصوصية وتباين الاحتياجات القطرية. تبعا لذلك، انكفأت الحركات الإسلامية على ذاتها القطرية، وانغمست في همومها ومشكلاتها الداخلية، ونسجت على منوال احتياجاتها الخاصة وخصوصية مجتمعاتها التي قد لا تتوافق بالضرورة مع نظرائها من المجتمعات الأخرى. ومن هنا تشكلت حالات إسلامية منعزلة نسبيا داخل حدودها القطرية، رؤية وقرارا، رغم الرابط الأيديولوجي والمرجعية الإسلامية التي تحكم الجميع، وعمومية الخطاب الإسلامي في صبغته الفكرية والإعلامية التي انسحبت على أطراف ومكونات الحركة الإسلامية في المنطقة العربية. لا تكمن العبرة في ضرورة انسياب وتوحيد التجارب الإسلامية في عموم المنطقة العربية، فهذا أمر يناقض خصوصيات الواقع الجغرافي العربي ومتطلباته، ومقتضيات الحكمة السياسية التي تتعامل مع ظروف وأنظمة ومجتمعات لا تتماثل بالضرورة في تفاصيل ومعطيات تجاربها السياسية، بل إن مكمن الخلل يبدو أشد ما يكون في غياب التنسيق وتبادل الخبرات والاستشارات، وحرمان التجارب الإسلامية من التصويب الدائم والتقويم المستمر. وهكذا، عاشت التجربة الإسلامية المصرية في الحكم خصوصية مصرية عملية، وانكفأت على ذاتها القطرية دون أي ترشيد حقيقي أو استفادة من العقول والخبرات والتجارب الإسلامية الأخرى. ولعل قسوة ما لاقته التجربة الإسلامية المصرية وتداعياتها الأليمة، شكل الأساس المتين للحراك الهام الذي ابتدرته حركة النهضة التونسية في غمار بحثها وبلورتها لأدق المقاربات السياسية الكفيلة بإخراج تونس من نفق المخطط الآثم الذي يستهدف إجهاض ثورتها الأصيلة، وتقويض تجربة (النهضة) الحاكمة بما يحاكي النمط المصري ونتائجه المعروفة. ومما يبدو، فإن (النهضة) قد وعت الدرس المصري جيدا، وأحسنت التمييز ما بين الإستراتيجية والتكتيك، وما بين الثوابت والمتغيرات، وأدركت خطورة اجترار بعض الأخطاء التي سقطت فيها نظيرتها المصرية، وعدم قدرتها على مواكبة تفاصيل الواقع السياسي وضروراته الحيوية. ومع ذلك، فإن استقراء ملامح وتجليات السلوك السياسي لحركة النهضة لا يؤشر إلى حال فزع أو هواجس قلق تترك آثارها السلبية على طبيعة معالجاتها السياسية لتقلبات الأزمة السياسية التونسية، بقدر ما يؤشر إلى عمق الوعي السياسي والنضج الفكري الذي يضع مصلحة الوطن والثورة على حساب المصالح الصغيرة والاعتبارات الضيقة أولا وأخيرا. وانطلاقا من واقع التجربة الإسلامية التونسية التي تحاول الإبحار في قلب الأنواء والتحديات، والنجاة بالثورة التونسية إلى بر الأمان وشاطئ الاستقرار، يمكن القول إن (النهضة) أدركت تماما أن السياسة هي فن الممكن قولا وفعلا، وأن أي محاولة لمعاندة هذه القاعدة يقود -تلقائيا- إلى أسوأ العواقب وأفدح النتائج. لقد أدرك الغنوشي وإخوانه أن للسياسة أصولها ودروبها وفنونها، وأن محاولة خوض غمارها بلا دربة أو دراية تشكل وصفة جاهزة للفشل وربما الانتحار، مما يعني أن النجاح في السياسة يستلزم إعدادا سليما ورؤية دقيقة وممارسة صحيحة، وأن أحد أبجديات العمل السياسي الناجز يكمن في التفريق بين الإستراتيجية والتكتيك، وبين الثوابت والمتغيرات، وصولا إلى حسن اختيار وتوظيف التوقيت السليم الذي يشكل أحد أهم أركان ومقومات العمل السياسي الناجح. إن الدرس الأهم الذي ينبغي أن تتشرب الحركة الإسلامية في المنطقة العربية جوهره الناصع ومضامينه العميقة أن الإعداد والأخذ بالأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية يشكل شروطا واجبة لتجاوز المنعطفات وتحقيق الأهداف، باعتبار أن العمل السياسي الذي لا يستند إلى أرضية دعم اقتصادي واجتماعي مثلوم ومرتبك وغير ذي فاعلية. ولا مناص من أخذ العبرة والتعلم من أخطاء وتجارب الآخرين، ففي ذلك ركيزة أساسية للسير على طريق النجاح، وأحد أهم المقومات اللازمة لتقويم الحال وتصحيح المسار.