يحلو للبعض أن يجري مقارنة بين ما جرى في تونس حتى الآن وما جرى في مصر، ليؤكد أن الحركة الإسلامية ممثلة في حركة النهضة التونسية قد مارست الانفتاح على القوى الأخرى، بينما ذهب الإخوان في مصر إلى الاستئثار بجلّ ”المناصب” والجبهات، فكانت النتيجة سقوطهم من خلال مكيدة انقلاب عسكري دموي لا ولن تنتهي فصوله حتى تنهك بقية قدرات ”أم الدنيا”- لا قدر اللّه- رغم ما حبى اللّه به رجال مصر من كفاءات وخبرات عالمية لا تتوفر لغيرها من دول عالمنا الإسلامي. ما من شك أن إدارة المشهد في تونس من قِبل حركة النهضة كانت مختلفة عنها في مصر، وكانت أكثر حنكة وذكاء وواقعية، لكن ما ينبغي أن يتذكره الجميع هو أن التآمر على تجربة تونس لم تنته فصوله بعد. فطيلة أشهر كان ”السيناريو المصري” حلما يسكن مخيلة جزء كبير من النخبة السياسية التونسية خصوصا والعربية عموما، بحيث يمكن تقسيم ذلك إلى 3 جبهات رئيسية، حسب العديد من الخبراء والمراقبين: الجبهة الأولى: جبهة المتحمسين لسيناريو عنفي لقلب الطاولة بما فيها على الترويكا الحاكمة، ولتكن بعدها النتيجة الحتمية النجدة بالعسكر أو بقوى خارجية، لتصير تونس لا قدر اللّه، مثل جارتيها مصر وليبيا.. مصر استفرد بقيادتها مغامرون عسكريون دمويون لا يقيمون وزنا إلا لمصالحهم الخاصة، وليبيا التي يردح مستقبلها منذ أشهر بين كفي عفريت، قوى غربية ابتزازية وأهواء محلية طائفية عشائرية. الثانية: جبهة المتفرجين المنتظرين المراقبين لمآلات الأحداث ليختاروا موقعهم بحسب التطورات والظروف، وهم كثر، يمكن وصفهم ب«الغاشي” على حد تعبير المقولة الجزائرية ”لا يحكّ ولا يفكّ ولا يصكّ” يدور حيث تدور رياح القوة والمصلحة أو أطماع الدنيا. الثالثة: جبهة الواقعية السياسية والوفاق الأخوي التي اعتبرت ما يحدث في مصر ”نكسة كبرى على دول الربيع العربي لا يجب الولوغ فيها بأي ثمن” و«درسا قاسيا” يتعلم منه الآخرون، وبالتالي المراهنة على سياسة ليّ الأعناق بين الفرقاء لإغراق سفينة ربيع تونس بمن فيها ويخسر الجميع، ويندم الجميع من حيث لا ينفع ندم. فوازنت هذه الجبهة المتمثلة خاصة في بعض العقول التونسية الراجحة، ولم يجدوا مخرجا يحفظ ماء الوجه للجميع إلا عبر سياسة توافقية ”لا تجوّع الذئب ولا تبكي الراعي” واضعين المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار حزبي ضيق، واستدعى الأمر استثمار نقاط القوة في تجربتهم الفتية الرائدة للخروج من الأزمة الخانقة بانتصار تاريخي، متمثلا في جيش جمهوري يرفض الانقلاب على اختيار الشعب وحركة إسلامية ذات أغلبية راهنت من البداية على الواقعية والتعايش مع معارضة علمانية وطنية، أو قل معارضة فيها حكماء يرفضون الإبحار نحو المجهول، فيخسر الجميع. «السيناريو المصري” أو ”الدرس المصري” كما أسماه الشيخ الغنوشي في ذروة الأزمة السياسية في تونس، معترفا أنه كان بمثابة ”الصدمة الإيجابية التي هزّت ضمائر التوانسة وفتحت عيون نخبهم على حقيقة الوضع الخطير”، وبالتالي بات من الضروري التحلي بالواقعية السياسية وفقه أولوياتها في قراءة موازين القوى، لكي لا تستدرج حركة النهضة في مواجهات عبثية تجعلها تتأرجح بين نارين: نار الإرهاب الأعمى وفوضى المعارضة العدمية، ويفتح بهذه أو تلك باب المجهول لتنفيذ انقلاب يجهض مشروع الثورة الفتية. وبالتالي فاجأت حنكة رجال النهضة خصومها بفكرة ”الخصوصية التونسية” أو ”الاستثناء التونسي” التي راهن عليها الشيخ راشد الغنوشي وجلّ كوادر حزبه، فآثر الحوار لمواصلة المسيرة عموما وإنهاء صياغة الدستور خصوصا، ولو بالتضحية برئاسة الحكومة مرتين، والتصويت مكرها لحكومة ”توافقية” قيل ويقال، وسيقال فيها الكثير، لكن هو الثمن الباهظ في هذه المرحلة الحرجة لإنجاح المسار الانتقالي والتوافق بين الشركاء. ومع تعدد وتنوع المحطات الصعبة في مسيرة ”النهضة”، إلا أنه وضع فيها خطا أحمر لا يجب الاقتراب منه وهو الوفاق، وضرورة أن يمثل الدستور كل التونسيين ولو كان ذلك على حساب مكاسب النهضة وبعض ثوابتها، فتنازلت في مواطن كثيرة، لتنتصر في النهاية، بنص مؤسس لدستور أجمع العارفون بفن السياسة على أنه يعكس حقائق لم تعد قابلة للتشكيك، ومنها خصوصا: -أنه لم يعدّ هناك مجال للحديث عن تعارض بين الإسلام والديمقراطية، وأن الإسلاميين ليسوا كما يروّج خصومهم، أعداء الحرية، أو أصحاب مشروع لتغيير النمط المجتمعي لشعب مسلم أبا عن جد. -إن منهجية حركة النهضة أصبحت تمثّل نموذجا للعمل السياسي الإسلامي المعتدل، وأن أطروحاتها التي كانت ترمى بازدواجية الخطاب، مبدئية أصيلة مواكبة للواقع المعيش. -أن مسار الثورة المباركة ليس مسار التفرد أو القهر أو فرض الرأي الواحد، بل هو مسار الوفاق والتوافق والتعايش السلمي مع باقي قوى المجتمع علمانية كانت أم غيرها. -أن مدنية الدولة لم تعدّ حكرا على المقاربة العلمانية ”الطفيلية”، التي اقترنت في عالمنا العربي بأبشع أنواع الدكتاتورية، وليست ثمرة مقولات جاهزة أو شعارات سياسوية، بل هي في جوهرها تكريس لمفهوم الحرية، التي لا تتحقق إلا في إطار الوفاق. -أن الزعامة الحقيقية هي محصلة وضوح الرؤية الإستراتيجية والشجاعة في القيادة وسط العواصف والأعاصير، واتخاذ القرار المؤلم أحيانا عند المحن، والتضحية حتى تغنم المجموعة. رغم ذلك قد يقول قائل هذا تنظير فكري.. فمن يضمن استمرار الأمن والاستقرار لشعب تونس المسالم؟ ومن يحمي ثمار ثورته من الاغتصاب كما راود ذلك بعض الحالمين من صقور الحكم البائد، خاصة بعد أن تركت النهضة الحكم. ومن يضمن نزاهة الحكومة المقبلة؟ وهل تلتزم بما وعدت به خلال سنة، وهي الفترة المحددة لها؟ وهل يضمن الجيش والأمن انتخابات حرة ونزيهة؟ وما هي الضمانات التي يمتلكها الشعب حتى يستطيع تصويب الأوضاع إذا ما رأى فيها انحرافا أو زيغا؟ كل هذه تساؤلات مشروعة والقلق بشأنها أمر طبيعي، والخوف من أجلها مبرر على تجربة فتية لدولة فتية كتونس، لكنه مؤشر إيجابي، بحول اللّه. أما الضمانات فهي ليست صياغة الدستور أو ما تضمنه من حقوق، فالنصوص الجميلة وحدها لا تكفي لبناء دولة ولا لتحقيق مجتمع مدني، فكم من نصوص بديعة مغرية لم تكن إلا دخانا للتعمية على مظالم وانتهاكات ومآسٍ الشعوب.. الثورات تؤسس بداية في الأذهان وفي النفوس قبل القوانين والنصوص، والتحوّلات تحصل أولا في الذوات ثم تسري في المؤسسات والكيانات، وبالتالي فالضامن الأول، بعد عناية اللّه ورعايته، هو الشعب التونسي بكل أطيافه، ولنا في تجربة ثورتنا التحريرية في الجزائر أكبر شاهد وأقوى دليل على أصالة الشعوب ونبل معدنها. وبالتالي يكون أنموذج الثورة في تونس- كما شرح لنا ذلك أخيرا، الشيخ عبد الفتاح مورو نائب رئيس النهضة- ما ملخّصه أن ”أنموذج الثورة في تونس، سنة تاريخية جديدة ستتعلمها الأجيال ويدرسها الثائرون على منظومة الاستبداد والفساد وستكون موضوع أبحاث وتحليل لمراكز الدراسات السياسية الدولية، أنه في المراحل الانتقالية للثورات يكون تنازل الأقوى سياسيا وجماهيريا من أجل الحرية واحترام الإرادة الشعبية ليس تنازلا، بل انتصار للحرية وتكريس للإرادة الشعبية الحرة”.. ذلك ما أفرزته تجربة حركة النهضة في ممارستها للحكم، حيث بعد إقدامها بشجاعة على قبول استقالة حمادي جبالي وعلي العريض من رئاسة الحكومة تباعا، والتخلي عن وزارات السيادة وإقدامها بشجاعة على عدم رد الفعل تجاه القصف الإعلامي والسياسي عبر حملات التشكيك والشيطنة والاتهام بالقتل ”لتأمين نهاية المرحلة الانتقالية والوصول بها إلى محطة صناديق الاقتراع التي ستحدد الحجم الحقيقي والوزن الطبيعي لكل الفاعلين السياسيين في الساحة، وليفوض الأقدر والأجدر والمؤهل على استكمال تحقيق أهداف الثورة المنصوص عليها في دستور الثورة”، كما قال نائب رئيس النهضة. أما الدرس الآخر المستخلص من انتصار ”خيار التنازلات” أو التوفيقات الصعبة والقاسية، الذي لم تهتدي إليه التجربة المصرية مع كل أسف، هو تطوير طبيعة العقل العربي والثقافة السياسية السائدة التي لا تقبل الاعتراف بالخطأ أو تقديم التنازلات في اتجاه اعتبار المصلحة في تماسك المجتمع ووحدته خيار استراتيجي غير قابل للتفريط أو التنازل عنه، إضافة إلى أن هذا المناخ الاجتماعي والسياسي المستقر والآمن يفتح أمام الحركة الإسلامية والمشروع الإسلامي عموما إمكانيات واسعة لتحويل مفاهيم الإسلام وقيمه كثقافة مهيمنة في الواقع وكعوامل لتجذير الوعي الفردي والجماعي في المجتمع لبناء عناصر القوة لدولة واعدة تفتح أحضانها لكل مواطنيها على اختلاف مشاربهم، يبنيها الجميع، ويأكل من خيراتها الجميع ويدافع عن حرماتها الجميع، عملا بقول شاعرها الكبير: فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها وما ذلك على اللّه بعزيز، فألف مبروك لتونس على هذا الجهد الطيب والانجاز الواعد، وما على شعب تونس إلا أن يرعى هذه المكاسب بيقظة وحذر قصد الإقلاع بخطى مستبصرة نحو الأفضل لشعبها المسلم المسالم، وإن غدا لناظره قريب. [email protected]