توفيق شومان/ باحث لبناني حلقة 1 أعادت السنوات العجاف الضاربة في عمق العالم العربي وعرضه منذ العام 2011، إشكالية العلاقة بين القوميين العرب والإسلاميين إلى واجهة. الأسئلة الباحثة عن إجابات طموحة تفترض حلولا لتعقيدات العلاقة بين الطرفين، والتي تناهز حديّتها وخصومتها ودمويتها ما يتجاوز القرن، وبالتحديد منذ تاه العرب في طرائق البحث عن الذات والهوية، قبيل هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وإذ كان سقوط السلطنة مدويا بعد الحرب المذكورة، فإن سؤال " الأنا" بدأ يشق طريقه المتعرج والمعقد، ليحل مكان إجابة " الأنا" العثمانية التي شكلت الهوية الجامعة لشعوب السلطنة منذ معركة "مرج دابق" في العام 1516. ومع كل احتفاء بالذكرى السنوية لثورة جويلية 1952، التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر، تعيد الأسئلة إياها فرض وجودها وذاتها في فضاء قلق، مستحضرة معها مناخات الصراعات التي طبعت العلاقات بين القوميين والإسلاميين منذ انفتاحهم على سؤال " الأنا" ما بعد العثمانية، وعلى ما يُظهر واقع الحال أن هذا السؤال ما زال مطروحا بحدّته وسخونته، وترافقه أسئلة متولّدة من تعقيداته على شاكلة: هل يمكن التوفيق بين التيارين؟، أم أنه من العسر إلتقاء الساكنين، كما يقال في قواعد اللغة؟. * (سؤال " الأنا " التائهة) يمكن القول إن الحملة الفرنسية على مصر في العام 1798، شكّلت الطرقة الأولى على باب " الأنا " الوطنية المصرية، ومن دون أن يعني ذلك اكتمال الإجابة، فحملة نابوليون بونابرت أنتجت بداية وعي جدلي بين الأنا والآخر، ومع محمد علي باشا غدا سؤال الوطنية المصرية أكثر اكتمالا، إلا أنه لم يقترب من مفهوم " الدولة الأمة " الذي بلورته الأفكار السياسية الأوروبية في القرن التاسع عشر، فتلك المهمة أخذها مثقفو بلاد الشام على عاتقهم، وبالتحديد اللبنانيون والسوريون. في بلاد الشام حيث الإحتكاك القوي بالثقافات الغربية، بدأ الوعي القومي لصيقا بإحياء اللغة العربية، فجاءت إسهامات ناصيف اليازجي (1800 1871) وبطرس البستاني (1891 1883) وغيرهما لتفتح لاحقا مسار الجدل والنقاش حول هويات خمس: هل نحن أمة عثمانية متعددة الشعوب والأديان؟، هل نحن أمة عربية؟، هل نحن أمة دينية إسلامية؟، أم نحن أمة سورية؟، كما طرح بعضهم في بلاد الشام، أم أمة مصرية، كما ذهب بعض آخر في مصر. واقع الحال أن إشكالية الهوية راحت تتعمق بصورة مضطردة، كلما عصف الوهن ب" الرجل العثماني المريض" وما رافقه من طروحات وتعارضات حول "المسألة الشرقية"، وكلما كان يدنو أجل السلطنة العثمانية كانت أسئلة الهوية تأخذ السياقات التالية: في بيروت كان ظهور " الجمعية العلمية السورية " في العام 1857، مؤشرا على وعي عربي متنام وغير منفصم في الوقت نفسه عن العباءة العثمانية، وهذا ما أكملته صحيفة "نفير سوريا" لبطرس البستاني، ليعقب ذلك موجة دعوية إصلاحية في إطار السلطنة العثمانية، تطورت نحو المطالبة بنظام اللامركزية، وكان من أبرز دعاتها المفكر السوري الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (1855 1902)، فكتابه " أم القرى" انطوى القسم الأخير منه على الدعوة لجعل مكةالمكرمة مركز " السياسة الدينية " نظرا لتعدد مزايا العرب ومؤهلاتهم في حفظ الدين الإسلامي، وهو أمر يفتقده العثمانيون على ما يقول الكواكبي، وكأنه بذلك أراد نزع الشرعية الدينية عن الخلافة العثمانية وإعادتها إلى جذورها العربية، ومع أنه لم يدع إلى الإنفصال عن السلطنة، فإن دعوته تلك شكّلت فاتحة سار آخرون على نهجها، وكان من أبرزهم اللبناني نجيب عازوري، الذي دعا في كتابه "يقظة الأمة العربية"، الصادر في العام 1905 إلى إقامة دولة عربية تبدأ من اليمن وتنتهي بسواحل السويس، مستثنيا مصر من تلك الدعوة، إلا أن عازوري أعاد النظرلاحقا بالدولة العربية المنفصلة عن السلطنة العثمانية، ليستقر به المطاف إلى المطالبة بنظام اللامركزية، وهو نحوٍ نَحت إليه أحزاب وجمعيات أخرى، وصولا إلى المؤتمر العربي المنعقد في العاصمة الفرنسية باريس في العام 1913، الطاغي عليه طابع سوري ولبناني، والذي لم يخرج عن الإطار اللامركزي، ومع ذلك فإن تيه الهوية وضياعها دفع مفكرين من بلاد الشام ، من مثل اللبناني شكيب أرسلان وغيره، إلى معارضته تحت ذريعة انعقاده في عاصمة غربية تتأبط شرا بالدولة العثمانية.
* (مصر: العثمانية مقابل "الوطنية القلقة ") في مصر، وفي المرحلة الزمنية نفسها تقريبا، كان سؤال الهوية يسلك مسلكين، الأول لم يفترق كثيرا عن دعوية الإصلاح في ظلال الخلافة العثمانية، كما هي حال السيد جمال الدين الأفغاني (1838 1897) والشيخ محمد عبده (1849 1905) في مراحله الأولى، حيث كانت "العروة الوثقى" أحد أشكال التعبير لهذا الثنائي عن مشروع "الجامعة الإسلامية" تحت فيئ السلطنة العثمانية، وليأخذ محمد عبده بعد حين، طريقا مستقلا عنوانه ومضمونه الإصلاح الديني والتربوي. هذا الاتجاه الإسلامي في مصر، في آواخر القرن التاسع عشر، ظهر إلى جانبه بخجل وحذر، اتجاه وطني استولدته ثورة أحمد عرابي في العام 1882، المعترضة أولا على النفوذ الشركسي في الجيش المصري، المصطدمة ثانيا بالخديوي توفيق، والمتصدية ثالثا للإحتلال الإنكليزي، وقد يكون من المناسب القول في هذا الشأن، إن بذور الوطنية المصرية ناتجة عن احتكاكين صداميين مع الغرب، أي مع الحملة الفرنسية، واستطرادا مع الحملة الإنكليزية، وما بينهما المشروع المنهار لمحمد علي، ولم تعرف الوطنية المصرية دائرة اكتمالها إلا مع ثورة العام 1919 بقيادة سعد زغلول، فيما الترسخ العميق لهذه الوطنية بأبعادها القومية العربية تجلت وتيقنت بعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. الملاحظ في هذه السردية الموجزة، أن الطروحات القومية بأبعادها العربية لم تشغل بال المصريين إلى حد الثقل والإبهاظ، كما كانت حال بلاد الشام، فالبحث عن هوية ما بعد العثمانية في مصر ملأ الجانب الأول من فراغه اتجاه إسلامي غير منفصل عن الفضاء العثماني، وذاك ما يؤكده الزعيم المصري مصطفى كامل في كتابه "المسألة الشرقية"، حيث يدعو في مقدمته " الله فاطر السماوات والأرض أن يحفظ للدولة العثمانية، حامي حماها، وللإسلام إمامه وناصره، جلالة السلطان الأعظم والخليفة الأكبر الغازي عبد الحميد الثاني"، وهو النهج عينه الذي عبّرت عنه صحيفة " اللواء" المصرية ورئيس تحريرها عبد العزيز جاويش، والذي أصدر مجلة " الهلال العثماني" من منفاه التركي في العام 1912، واستدعاه مصطفى كمال أتاتورك في العام 1922 إلى اسطنبول واختلف معه بعد سنة جراء سعي أتاتورك إلى إلغاء الخلافة، مثلما جاء في تعريف كتابه " الإسلام دين الفطرة والحرية "، الصادر عن دار "الهلال" في العام 1952، وعبد العزيز جاويش، المتحول إسلاميا بعد ماض مشهود في الحزب الوطني، هو صاحب المقولة المشهورة: "سنجعل من جلود الأقباط نعالا ومن شعورهم حبالا"، كما جاء في كتاب "توفيق الحكيم يتذكر" لجمال الغيطاني، وفي " أوراق العمر " للدكتور لويس عوض. إن مراجعة اتجاهات الصحف المصرية وانتماءاتها في الربع الأول من القرن العشرين الفائت توجز صراع أجنحة الهوية الضائعة وأسئلتها القلقة، ف" اللواء" تصدرت منطق المنتمين إلى المدرسة العثمانية، و"المؤيد" للشيخ علي يوسف، لم تبتعد عن هذه المدرسة ولم توغل في الوقت نفسه في معاداة الإحتلال الإنكليزي، فيما صحيفة "الجريدة" لأحمد لطفي السيد، تشبعت بالوطنية المصرية، وهذا ما ينطبق إلى حد ما مع صحيفة "السياسة" لعدلي يكن، وكانت صحيفة "الدستور" لسان حال "الجامعة الإسلامية"، على ما يروي محمود عباس العقاد، في حين أن صحيفة "المقطم" كانت وثيقة العلاقة مع الدوائر البريطانية، فيما دوريات فكرية مثل " المنار" للبناني محمد رشيد رضا، و"الفتح" و"الزهراء" للسوري محب الدين الخطيب، فقد انتمت إلى المدرسة العثمانية، كما لا يمكن إغفال الانخراط المتأخر لحزب "مصر الفتاة " بقيادة أحمد حسين، في سياق الدعوية الإسلامية، بالرغم من محطته القومية النازية الأولى، وكذلك كتابات أنور الجندي المتأثر بحسن البنا، كما يقول في كتابه " شهادة العصر والتاريخ "، وهو المتسمي بأنور تيمنا بالقائد التركي أنور باشا، وكل ذلك كان أسهم في الدفع المبكر نحو تكوين جمعية " الشبان المسلمين "، ولاحقا "جماعة الإخوان المسلمين" في العام 1928، والتي يمكن اعتبارها امتدادا لخط الخلافة العثماني الذي ساد منذ آوخر القرن التاسع عشر وحتى الإعلان عن إسقاط الخلافة في العام 1924، ومثل هذه الرؤية لها من يناصرها ويشايعها في أوساط المثقفين المصريين، إذ يقول لويس عوض في "أوراق العمر"، إن الحزب الوطني كانت تتوزعه مدرستان، واحدة مصرية والأخرى تركية، و"منذ البداية التفت هذه المدرسة التركية حول الأمير عمر طوسون ". ويقول توفيق الحكيم في مذكراته، كان لدى الحزب الوطني شعور بالرابطة الإسلامية ولم يكن ظهر الشعور بالعروبة بعد، ولا الشعور بالوطنية المصرية، إنما مع ملاحظة أن اتجاه الخلافة المستجد، خرج عن الحصرية العثمانية ليتموضع في الإطار الإسلامي العام. سبق القول، إن عناصر الهوية الوطنية المصرية اكتملت مع ثورة العام 1919، وهذا ما يشير إليه نجيب محفوظ بقوله: "إن شعب مصر لم يثبت ذاته بالكامل مثلما أثبتها في ثورة 1919″، بحسب رواية رجاء النقاش، وبرواية جمال الغيطاني عن نجيب محفوظ أيضا: " كان حزب الوفد هو حزب الأمة بلا جدال، وكان من يقول إنه ليس وفديا يبدو في نظرنا كأنه كافر"، وصفوة القول في هذا الشأن ينطوي على الفهم السائد في الوسط الثقافي الفكري المصري لمفهوم " الأمة" واقتصاره على "الأمة المصرية" كما يتبين في مذكرات نجيب محفوظ، وهذا ما يذهب إليه أحمد أمين في مذكراته المعنونة ب"حياتي" فيتحدث عن السعي لمؤتمر ثقافي في مناهج اللغة العربية، "وماذا يمكن أن يوحد بينها، والقدر الذي يمكن أن تستقل فيه كل أمة" وفي افتتاحية العدد الأول من صحيفة "الجريدة " كتب أحمد لطفي السيد: "ما " الجريدة " إلا جريدة مصرية مراميها إرشاد الأمة المصرية"، ويروي أنه جاء في العام 1911 من دمشق شكري العسلي، ومن بيروت السيد ثابت، وعرضا الوحدة بين مصر وسوريا أمام عبد العزيز فهمي ومحمود أبو النصر، فأخفقا في مسعاهما، لأن الوحدة المذكورة ليست في صالح مصر. وعن المفهوم الملتبس ل"الأمة"، يقول إبراهيم عبد القادر المازني في "أحاديث المازني"، إن جمال الدين الأفغاني كان يسعى لإيقاظ "الأمم العربية" وغير العربية، ويجادل محمود عباس العقاد في"حياة قلم" حول الأسباب الدافعة لتشكيل جامعة الدول العربية، فيقول: "إن الأساس الذي قامت عليه الجامعة العربية هو استقلال كل أمة من أمم العرب، ولكل أمة عربية أن تنتظر المعونة من أخواتها وجاراتها، وعلى كل أمة عربية أن تعمل ما في طاقتها لتحقيق مطالبها". ويقول زكي نجيب محمود، في "حصاد السنين"، إنه إلى غاية الثلاثينيات لم يكن قد قرأ حرفا واحدا عن القضية الفلسطينية، وقد عرّفه بها أحد الفلسطينيين حين التقاه في مدينة القدس، وأسماها الفلسطيني ب"القضية العربية"، ولعل جلال أمين، كان أكثر المثقفين المصريين تعبيرا عن إشكالية العلاقة بين مصر والقومية العربية حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، فيقول في مذكراته التي جاءت تحت عنوان " هكذا علمتني الحياة " إنه تعرف حين كان طالبا جامعيا "لأول مرة على فكرة العروبة والوحدة العربية عن طريق مجموعة من الأردنيين والسوريين واللبنانيين، كان معظمهم في حزب البعث العربي الإشتراكي، ومن لم يكن منهم بعثيا، كان يؤمن بالقومية أكثر من أي مصري عرفته في ذلك الحين، فالوحدة العربية لم تكن في أي يوم من الأيام تشعل حماس المصريين مثلما تفعل بشعوب المشرق العربي"، ويمكن إدراج كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر"، الصادر في آواخر ثلاثينيات القرن العشرين، في إطار جدل الهوية الذي شهدته مصر في مرحلة ما قبل الناصرية، فطه حسين في هذا الكتاب يدعو إلى "الفكرة المتوسطية" ويقول: "مصر كانت دائما جزءا من أوروبا، في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها"، ولا يناقض محمد حسين هيكل طه حسين في كتابه "مذكرات في السياسة المصرية"، فيرى أن: "مصر تتأرجح حتى اليوم بين العقليتين، العربية والغربية، تتغلب الثقافة الغربية فينهض الفكر الحر، وتتغلب الثقافة العربية فتنهض العاطفة ويسترد الماضي سلطانه". وإذا ما أمكن القول إن منازعات الهوية في مصر تجاذبها البعدان العثماني والمصري في مرحلة ما قبل ثورة العام 1919، فإن مرحلة ما بعد الثورة تنازعها البعدان الوطني والإسلامي السياسي، ولتبدأ المرحلة الثالثة من المنازعات والتجاذبات بحلول البعد القومي مع الرئيس عبد الناصر، حيث غطت هذه المرحلة أشكالا جديدة من النزاع اتخذت طابع الصدام بين القومية العربية والإسلام السياسي.