للدراسة مراجع ستنشر في آخرها تعتبر السودان في خريطة عالمنا العربي والاسلامي من أكبر الدول مساحة قبل التقسيم وسلّة الغذاء في إفريقيا، وهي من أغنى وأخصب أراضي العالم في الزراعة، اُكتشف فيها مؤخراً كميات هائلة من البترول، ومثلها من اليورانيوم في شمال دارفور، ولهذا لم تنعم بالاستقرار، بل تشعل فيها النزاعات في أنحائها باستمرار وصولا إلى تقسيم هذه الأرض إلى أربع دويلات.. دولة في الغرب (تسمي دارفور) ودولة في الشرق، ودولة في الجنوب ودولة في الشمال (في جنوب مصر). وفي السودان منطقة دارفور، تلك المنطقة التي عرفناها من خلال أخبار الحرب الأهلية وميليشيا الجنجويد، ونظنها أرضاً جرداء قاحلة في غرب السودان، والحقيقة أنها كانت منذ عام 1898م وحتى عام 1917م سلطنة مسلمة، لها سلطان اسمه علي بن دينار، وهذا السلطان لما تأخرت مصر عن إرسال كسوة الكعبة أقام في مدينة الفاشر (عاصمة دارفور) مصنعاً لصناعة كسوة الكعبة، وظل طوال عشرين عاماً تقريباً يرسل كسوة الكعبة إلى مكةالمكرمة من الفاشر عاصمة دارفور. هذه الأرض تبلغ مساحتها ما يساوي مساحة فرنسا، ويبلغ تعداد سكانها 6 ملايين نسمة، ونسبة المسلمين منهم تبلغ 99% والذي لا نعرفه عنها أن أعلى نسبة من حملة كتاب الله عز وجل موجودة في بلد مسلم، هي نسبتهم في دارفور، إذ تبلغ هذه النسبة ما يزيد عن 50% من سكان دارفور، يحفظون القرآن عن ظهر قلب، حتى أن مسلمي إفريقيا يسمون هذه الأرض "دفتي المصحف". ولأسباب عديدة كانت السودان منذ أكثر من عشرين عاما محل أطماع صهيونية لتقسيمها إلى أربع دول هي: دولة في الغرب (تسمي دارفور) ودولة في الشرق، ودولة في الجنوب ودولة في الشمال (في جنوب مصر)، فحدثت الكثير من الحروب والصراعات حول هذه القضية، وحصل ما حصل، فقد انفصل الجنوب عن السودان الأم، ولم يهدأ لإسرائيل وأمريكا بال، فقد ذهبت إلى الجهة الأخرى حيث إقليم (دارفور)، وتحت عنوان حقوق الإنسان تبسط الدول الكبرى يدها على مواقع حساسة ورخوة من جسم أمتنا، سيما عندما تجد الذريعة والأسباب التي تقدمها الحكومات وبعض بني جلدتنا بتصرفات طائشة تحافظ على البيدر ولا تحافظ على الحقل. ويمكن حصر الأسباب المباشرة وغير المباشرة أو غير المعلنة للتدخل الأمريكي والصهيوني في تقسيم السودان في: 1 – إقامة دولة مسيحية في الجنوب (وقد تحقق مؤخراً )، لعدة أسباب وهي: * لمنع انتشار الإسلام في إفريقيا، في الوسط والجنوب والشرق ..!. * منع المسلمين في السودان من التواصل مع المسلمين في جنوب إفريقيا ووسطها، إما لمساعدتهم وحمايتهم من الاضطهاد الذي يعانون منه في دولهم!. * جعل دولة الشمال المسلم في حالة قلق كبير واضطرابات وحروب، وذلك بإنشاء مركز كبير في دولة الجنوب ل"الإستخبارات" العالمية. 2 – الاستيلاء على المخزون النفطي، حيث يصل الإنتاج الحالي إلى 300 برميل في اليوم !!، وأغلب الحقول النفطية تقع في جنوب السودان وجنوب دارفور!. ولا ننسى عنصر "اليورانيوم" الموجود بكثرة في إقليم دارفور، مما يجعله محط أنظار جميع الدول العالمية!. 3 – السيطرة على منابع النيل، وهذا مبني على أهداف تتلخص في: * الضغط على مصر والسودان سياسياً، حيث يصبح مصير كلاً من مصر والسودان مرتبط بدولة جنوب السودان، وتصبح الأمور كلها تحت يد الدول الكبرى ورغباتها، وتمنع من مصر والسودان استقلالها عملياً..!. * تقديم المياة ك" هدية " لإسرائيل التي ما زالت تحلم بذلك، حتى يروي ظمأ المحتلين وييسر لها سبل العيش بأرخص الأثمان. 4 – الاستفادة من خصوبة الأراضي السودانية التي تعتبر بمثابة سلّة الغذاء للوطن العربي، التي ربما لو استغلت تلك الأراضي ووزعت على الوطن العربي لكفته!!، وكذلك ستسعى الدول الكبرى بجعل الأمر في شمال السودان على ماهو عليه من عدم استغلال للأراضي، واستغلال الأراضي الخصبة في جنوب السودان وتوزيعها على الدول المستعمرة .. وكذلك جعل دولة الشمال المسلم في صراع دائم، وكذلك يتم الضغط عليهم باستخدام سلاح المياه!. في بلاد بهذه الشساعة وتلك القدرات والخيرات وتلك التحديات والأطماع، نشأت الحركة الإسلامية السودانية التي تتمتع بميزة خاصة لا تكاد تتوفر لغيرها من الحركات في العالم العربي والإسلامي، ألا وهي مشاركتها في الحكم، بل هيمنتها على هذا الحكم ليس عبر صناديق الاقتراع وفق آليات العمل الديمقراطي، وإنما من خلال الانقلاب العسكري الذي قام به نظام الإنقاذ عام 1989، ومن ثم فنحن أمام تجربة فريدة خاصة أطاحت بنظام ديمقراطي منتخب، كانت تعتقد أنه يتآمر عليها من أجل استئصالها فتغذت به قبل أن يتعشى بها كما يقولون، وجاءت بنظام إسلامي يحظى من وجهة نظرها بشرعية سياسية شعبية من الشعب السوداني المتدين بطبعه. التجربة السودانية ورغم حجم الظلم والحصار الذي سلّط عليها حتى من طرف كبرى الحركات الإسلامية التي افترقت قيادتها عنها في بدايات وصولها إلى الحكم في السودان، تعتبر تجربة فريدة ومميزة وسابقة على مستوى الفكر والخطاب والممارسة، فالحركة الاسلامية في السودان استطاعت أن تشارك في الحياة السياسية في مراحل متقدمة عن سابقاتها في الحركة الإسلامية، وتعاطت مع شؤون السياسة والحكم بطريقة اجتهادية وتجديدية غير مسبوقة على مستوى الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين في مصر والجوار، ففي الوقت الذي كانت الحركة الإسلامية في مصر وتونس تعاني ويلات السجون والمحن في عهد بن علي ومبارك، كانت الحركة الإسلامية في السودان تخوض تجربة تحالفات سياسية في قمة هرم الحكم، وعلى مستوى المؤسسة العسكرية، وتتطلع إلى أدوار أكثر سبق في تسيير الشأن العام وتجتهد لتقديم حلول ومواقف حول قضايا فكرية وسياسية واقتصادية غاية في الأهمية على المستوى الإسلامي، فنحن نتحدث عن طرح عدة إشكاليات أبرزها مدى مشروعية فكرة الوصول إلى السلطة عبر القوة، ثم مدى توازن العلاقة بين الحركة والدولة، وهل هذه العلاقة صراعية أم تعاونية، كما واجه الإسلاميون منذ البداية، التحدي الكبير الذي شغل الفكر السياسي الإسلامي الحديث، ويشغل الآن فكر وحراك النخبة في الحركات الإسلامية، حيث حاولت النخبة الإسلامية السودانية الإجابة عليه نظريا، يتعلق الأمر بما هو شكل الدولة الإسلامية الحديثة التي يريد الإسلاميون إقامتها؟، وبلغة أخرى: كيف تستطيع طليعة إسلامية ما أن تدير دولة حديثة؟، وقد قدّم أحد منظري النظام (حسن الترابي) نموذجا مثاليا، طارحا تساؤلات مثلما هو شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث؟، ماهي الصورة والفلسفة الإسلامية التي تنظم فيها القوة العسكرية؟، وكيف تكون العلاقات بينها وبين رأس المال الخاص ورأسمال الدولة؟. ويتفرع هذا السؤال بالطبع إلى تساؤلات فرعية لا حصر لها: ماهي الصورة الإسلامية التي ينبغي أن يتحول إليها العمل الدبلوماسي الحالي؟، هياكلا ومقاصدا وثقافة ؟، ماهي الصورة التي تنتظم فيها القوة العسكرية تدريبا وعناصر وأهدافا مرجوة ؟، وماهو وضعها في النظام السياسي عموما وفي هرم السلطة على وجه الخصوص؟، ماهي الصور والتنظيمات التي تتخذها القوة العاملة في دولة إسلامية؟، ماهو شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث؟، ماهو نمط التعليم في نظام إسلامي حديث؟، كيف تدار حركة الاقتصاد في نظام إسلامي معاصر؟، كل هذه الأسئلة وكثير غيرها لا توجد لها إجابات مثالية جاهزة، فالفكر الإسلامي قد توقف عن الاجتهاد في هذه المجالات منذ زمن طويل ،هذا إذا استثنينا بعض المجهودات النافعة التي حدثت في مجال الاقتصاد الإسلامي وبعض مشروعات القوانين. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقد امتازت الحركة الإسلامية في السودان قبل وصولها إلى السلطة عن العديد من الحركات الأخرى بالكثير من الميزات في روافد فكرها، ووعيها العام، وبنيتها الهيكلية، وبنائها القيادي، وعملها في المجتمع، وعلاقتها بالسلطة، وعلاقتها بالحركات الإسلامية الأخرى، فالحركة التي جاءت إلى السلطة بالانقلاب العسكري وهي تحمل في داخلها بذور الخلافات الداخلية، وكان أكثرها خطورة الخلاف الكبير الذي حدث بين مؤسس الفكرة «الإنقاذية» ورئيس الجمهورية، والتي سميت بحوادث «الرابع من رمضان»، التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الحركة الإسلامية السودانية مؤدية في نهاية المطاف بفراق العسكر من المدنيين بقيادة حسن الترابي السياسي الأكثر إثارة للجدل في الخمسة عقود الماضية من القرن الماضي. والطريف كما يقول محمد مختار الشنقيطي، في مقاله الإستدراكي الناقد (فقه الحركة وفقه الدولة: عبرة التجربة الإسلامية في السودان) على كتابه الذي عرض فيه نموذجية الحركة الإسلامية في السودان وسوّق لتجربتها كمثال للحركات الإسلامية: (الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي)، أن الثورة الوحيدة التي شهدتها الدول العربية في تاريخها الحديث هي ثورة المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان عام 1985. ومن أسباب كونها ثورة أن تحركات الشعب والقوى السياسية والنقابية السودانية ضد النميري سبقت أولا، ثم جاء تدخل المشير تتويجا لها، على أن سوار الذهب يستحق الثناء في زمن الطمع والأنانية السياسية الذي نعيشه، فقد كشف عن زهده في السلطة ووفائه بوعده، وسلم الأمر إلى الشعب عن طيب خاطر، فهو يذكرنا بعظماء الثوار في التاريخ البشري، مثل جورج واشنطن، الذي اقترح عليه أحد قادة جيشه أن يقبل البيعة كأول ملك للدولة الأمريكية الوليدة، فردّ واشنطن "إن الشعب الأمريكي لم يبذل الدم للتحرر من جورج الثالث (ملك إنجلترا) ليضع مكانه جورج الأول (يعني نفسه)". فنحن إذن أمام تجربة جديرة بالدراسة والاستلهام وأخذ النموذج والدرس والعبرة والإفادة على مستويات متنوعة، سيما أنها طرحت عدة إشكاليات واجتهادات وتجديدات مبكرة في مقاربة الحركة الإسلامية للسياسة، ونسجل هنا أسف كبير يصل إلى درجة الحزن على طريقة التعاطي مع تجربة السودان في الحكم والسياسة والعمل العام، ومرّت في الزمن السياسي للحركة الإسلامية وكأنها تجربة نكرة، بل ومثال سيئ يمكن أن يذكر في مسيرة الحركة الإسلامية السياسية، حيث يحاول بعض نخبة المفكرين الإسلاميين وضع تجربة السودان في رواق التجارب الفاشلة على كافة المستويات، وهو حكم جد قاسٍ على مسيرة ما تزال قائمة إلى اليوم منذ ثلاثين سنة خلت في الحكم، وثلاثين أخرى نضالات وعمل متواصل، وهي اليوم تحاول الإستدراك على الإخفاقات التي أصابتها وتتلمس الطريق والمسلك المؤدي إلى الانعتاق من مربعات الحصار المركّب من قبل العرب والغرب والإسلاميين أيضا، ونعتبر هذه الدراسة جزءا لا يتجزأ من محاولة فحص التجارب ونقدها ابستمولوجيا بغرض صياغة مقاربة متجددة تمثل بداية للموجة الثالثة لهذا الفصيل المهم والرئيسي في المجتمع العربي والإسلامي بعيدا كل البعد عن التوصيفات الهوياتية التي تساهم في مواصلة أخطاء الماضي وتبريرها بمسوغات تتيح لنفس التركيبة البشرية والفكرية الاستمرار دونما تصويب وتصحيح وتجديد في قرن التجديد.