الهاشمي نوري، إعلامي من طينة الكبار، برز اسمه في سنوات الثمانينات والتسعينات، تجربة إعلامية تأرجحت ما بين القطاع العام والخاص، فمن رئيس تحرير لجريدة "المساء" إلى مؤسس لجريدة "الحرية"، ثم إطارا ساميا في الدولة كمرحلة ثانية في حياته المهنية، حيث تقلّد مناصب عدة في وزارة التضامن الوطني، إلا أن الشوق إلى القلم يراوده مجددا بعد التقاعد، وهو ما عبّر عنه إعلاميا في لقائه مع "الحوار"، حيث وصف علاقته بعالم الكتابة بعلاقة حبيب بحبه الأول. *كان لك باع طويل في الصحافة المكتوبة عبر عدّة جرائد .. كيف تقيّم هذه المحطات اليوم؟ _ أولا بودي أن أتوجه بأسمى عبارات الشكر والتقدير ليومية "الحوار" الواعدة على هذه الالتفاتة الكريمة، ومنحي فضاءً لتقديمي لجمهور قرائها، بل وحتى لطاقم تحريرها بصفتي أولا صحفيا ومسؤولا عن التحرير في فترة مفصلية في تاريخ الصحافة المكتوبة في الجزائر، ثم بصفتي إطارا ساميا في الدولة كمرحلة ثانية في حياتي المهنية. فعلا، كان التحاقي بعالم الصحافة المكتوبة، وبالضبط بمشروع جريدة " المساء" اليومية الوطنية في 28 سبتمبر 1985، أي ثلاثة أّيام قبل صدور العدد الأول منها في الفاتح أكتوبر. و"المساء" هي الأخت الشقيقة ليومية "horizons". كلتا الجريدتين صدرتا عن مؤسستي "الشعب" و "المجاهد"، و كان صدورهما تتويجا لمخاض داخل أروقة السلطة في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، عندما بدأ الحديث آنذاك عن الحساسيات السياسية داخل الأفلان باعتباره الحزب الواحد في البلاد وحاجة المجتمع لحرية التعبير، لاسيما عند فئة الشباب والجامعيين والمثقفين عموما. أذكر لما التحقت بقاعة التحرير في مقر "المساء" آنذاك بالطابق الأول لشركة الخطوط الجوية الجزائرية بساحة موريس أودان، كان في استقبالي المدير الأول للجريدة، الفقيد الراحل محمد العربي غراس، رحمه الله، بوجه باسم كعادته، و بعد دردشة تعارف وضعني مباشرة على المحك، إذ طلب مني كتابة ما أرغب فيه (مقالة أو خاطرة أو عمود صحفي…) بشرط أن يكون ذا علاقة بالأحداث سواء وطنيا أو دوليا.. قبلت التحدي و حرّرت مقالا نقديا في شكل عمود صحفي وسلّمته إياه بعد ربع ساعة، فاندهش سي العربي وقال لي " مدهش..مدهش.. أنت صاحب قلم سيال!، عد غدا وأكتب مقالا أوسع"، و هكذا كان الحال. و في اليوم الثالث، قال لي "مبروك عليك الاختبار موفق، ستكون ضمن طاقم تحرير الجريدة ابتداء من 1 أكتوبر 1985 "، و هكذا ترّسم التحاقي بالمساء.
بعد خمس سنوات بدأت ترقيتي في المسؤوليات بالجريدة، في المناصب النوعية حتى بلغت رتبة رئيس تحرير في سنة 1993، ثم مغادرة الجريدة في نوفمبر 1994، حيث إلتحقت بمشروع إعلامي جديد تمثل في تأسيس أسبوعية "الحرية"، و كان ذلك في 10 ديسمبر 1994 وهو تاريخ رمز يوافق الإحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان. كانت "الحرية" تجربة ثانية في مساري مختلفة كليا، فبقدر ما كانت "المساء" الإرهاصة الأولى في حرية النشر والتحقيقات الصحفية الجريئة، حتى أضحت الجريدة الأولى وطنيا من حيث حجم السحب و المبيعات، بقدر ما كانت "الحرية" صحيفة رأي بمعنى الكلمة، غير أن السياق التاريخي والسياسي كان مختلفا بين التجربتين، فقد مهّدت "المساء" لعهد الإنفتاح الإعلامي، وهنا يجب التذكير بأن الطفرة التي بلغتها "المساء" كانت قبل وأثناء وبعد أحداث أكتوبر 1988 إلى غاية دخول البلاد في دوامة العنف والإرهاب، حيث بدأت الإغتيالات في صفوف الصحفيين، و قد دفعت الجريدة فاتورة رهيبة من بين محرريها و الملحقين بالمهنة. أما تجربة "الحرية" فلم يكتب لها طول العمر بسبب معوقات موضوعية، منها خطها الإفتتاحي المصطدم بخيارات السلطة آنذاك، ما جعلها تلقى تضييقات (الحصار الإشهاري والطباعة)، بالإضافة إلى مخاطر توزيع الجريدة، فلم تكن تصل إلى أغلب الولايات رغم الإلحاح في الطلب عليها بسبب الوضع الأمني، فعجزت ماليا مما أدى إلى إختفائها في ديسمبر 1996. الخلاصة أن التجربتين بالنسبة لي كانتا ناجحتين، إذ بفضل العمل الصحفي تمكنا من معرفة مكنونات المجتمع بمختلف أطيافه وتعلمنا المعالجة الإعلامية للأحداث بإحترافية يقل اليوم مثيلها في كثير من الجرائد.
* سنوات التّسعينات كانت الأكثر إثارة للجدل من حيث الانفتاح على التّعددية الإعلامية ومن حيث التحدي الذي عاشه الإعلاميون آنذاك .. كيف ترى تلك التجربة من موقعك اليوم؟ حقا، فترة التسعينات، وهي الآن في حكم التاريخ، كانت مفصلية بالنسبة لبداية تكريس التعددية السياسية والإعلامية، تجسيدا للتوجهات الجديدة في الدستور المصادق عليه في فيفري 1989، غير أن هذه التعددية الإعلامية إقتصرت على الصحافة المكتوبة فقط، فوقع انفجار إعلامي كبير تمخض عنه صدور عشرات العناوين بين يوميات و دوريات، حتى بلغت حدود 180 عنوانا في السنتين الأخيرتين، إلا أن هذا الفضاء أصبح ملوثا وكثير من الصحف تصدر ليحصل أصحابها على الإشهار لا أكثر، و هذا الواقع تعرفونه جيدا. لكن، على العموم و رغم سلبيات التحربة، تبقى مكسبا ثمينا في تاريخ الصحافة الجزائرية ونفعها أكثر من ضرها.
*ماهو الدرس الذي خرج به الإعلاميون من تلك السنوات، وهل أثمرت تجربة تلك السنوات فيما بعد؟ الدرس الأول الذي يمكن أن يخرج به الصحفيون عامة وصحفيو تلك المرحلة خصوصا، هو أن الحرية المحققة جاءت بدفع ضريبة دم على يد الإرهاب الهمجي بلغت حوالي 80 صحفيا وملحقا بالمهنة تم اغتيالهم . أما الدرس الثاني، هو أن الصحافة نضال يومي للحفاظ على هذه الحرية، و الدرس الثالث هو ضرورة حسن التكوين و التأطير في أي جهاز إعلامي كان، فالصحافة مهنة لها قواعد سيرها وميثاق أخلاقياتها. غير أن الشيء الذي يحز في نفسي إلى غاية اليوم، هو أن المشاكل التي عاينتها عند دخولي الصحافة ما زالت قائمة إلى اليوم، بعد أكثر من 30 سنة، مثل حكاية "بطاقة الصحفي المحترف" و "القانون الأساسي للمهنة" وتأسيس نظام نقابي قوي وجامع وضعف التكوين، رغم محاولات محتشمة تقوم بها بعض الوسائل الإعلامية.
*كيف ترى المشهد الإعلامي الجزائري اليوم؟ المشهد الإعلامي اليوم مختلف، يتمثل في التحرر المفروض في المجال السمعي البصري عن طريق الأقمار الصناعية و غير المنظم منذ أكثر من خمس سنوات من ظهوره، مما أدى أحيانا إلى كوارث إعلامية في الجزائر . بالمقابل، تعرف الصحافة المكتوبة في عمومها إحتضارا وموتا مبرمجا لشح مواردها المالية (إشهار ومبيعات)، و قد زاد الطين بلة إنتشار الوسائط التكنولوجية الحديثة والمتنوعة.
*تنتشر المعلومة اليوم بسرعة البرق بفضل التطور التكنولوجي، هل أثر ذلك على تميّز العمل الإعلامي برأيك؟ فعلا، التطور التكنولوجي فرض نفسه على الجميع، و هو نعمة إذا أحسن استغلاله. اليوم كل شخص متاح له نشر المعلومة و نشر رأيه في الأحداث، أي كل شخص يمكن أن يكون صحفيا، إلا أن الفرق يكمن في أن الصحفي تحكمه جملة ضوابط يجب أن يراعيها في نشر المعلومة، و ما يحزنني كثيرا لما يتصرف أشباه الصحفيين بالمعلومة تصرف الهواة أو الأطفال بسلاح "كلاشينكوف".
*ما رأيك في مطالب الصحفيين اليوم بمساحة من حرية التعبير، بينما لا يفرق الكثيرون بين الحرية والتجريح؟ يا سيدتي، ضرورة الحرية بالنسبة للصحافة كضرورة الماء للسمك وهذه الحرية تنتزع انتزاعا بالعمل اليومي الجاد والإحترافية العالية وليس بالقذف والتشهير والإثارة، فالقارئ الذي تخدعه لشراء نسخة من جريدتك بعنوان مثير يكتشف زيفه فيما بعد لن يحترمك أبد الدهر، وخصمك في السلطة يحترمك عندما يكتشف صرامتك في تناول الموضوع الذي يخصه ولو كان في غير صالحه.
*ألا تشتاق للقلم اليوم؟ والله الحنين للصحافة لم يغادرني يوما رغم انقطاعي عنها لمدة 21 سنة. اليوم في "الفايسبوك" أتابع الأحداث وأتفاعل معها من حين لآخر، و هو فضاء زاخر بأصدقائي و زملائي الإطارات والصحفيين والمثقفين عموما.
*تجربتك في وزارة التضامن، هل تعتبرها امتدادا لمشوارك الإعلامي أم نقلة أخرى؟ مبدئيا أقول لا، فتجربتي في وزارة التضامن الوطني والأسرة، بدأت إطارا ساميا في الدولة 1996، وانتهت رسميا في جوان 2017. مجال الإدارة مختلف كليا عن مجال الصحافة. الإطار السامي في الدولة يحكمه واجب التحفظ، فهو يعمل و لا يتحدث إلا في ميدان اختصاصه، بينما هامش الحرية لدى الصحفي أكبر بكثير، فله أن يتحدث في كافة الميادين إذا كان يتقنها، لذلك أنا إحترمت قواعد الإدارة و مقتضياتها، لكنني في أعماقي أعتبر نفسي دائما صحفيا. و قد مكنتني مهمي في الست سنوات الأخيرة كمستشار إعلامي لهذه الوزارة، أن أستأنف الكتابة الصحفية و إعادة نسج علاقاتي مع أصدقائي و زملائي المسؤولين و الصحفيين في مختلف وسائل الإعلام العمومية و الخاصة.
*هل يفكر الهاشمي نوري في ولوج ميدان الكتابة كما يفعل الكثير من الإعلاميين اليوم؟ لما لا، بالتأكيد يجب تثمين مسار 32 سنة بين الصحافة و الإدارة.
*هل من مشاريع لما بعد التقاعد؟ طبعا، الحياة من دون مشاريع لا معنى لها.
*يتهم البعض الظروف الاجتماعية والمهنية في أنها سبب تدهور مستوى الإعلام ..ما رأيك؟ الحقيقة أن كل شيء نسبي، فما المقصود بالظروف الاجتماعية والمهنية.. الأمر لا ينطبق على الجميع، فلا يمكن تقييم مستوى المهنة بداعي المشاكل الاجتماعية مثل السكن و الأجر و الضمان الإجتماعي و غيرها، لأن الصحفيين المعنيين بهذه المشاكل هم حالات إستثنائية في كل مؤسسة إعلامية. وكذا الشأن بالنسبة للظروف المهنية، الأمر يختلف من قطاع إلى آخر و من مؤسسة إلى أخرى، فأجهزة الإعلام العمومي حاليا، فيما أعرف تتوفر جميعها على تجهيزات حديثة للقيام بالمهنة على أحسن وجه، سواء في مجال السمعي البصري أو الإعلام المسموع أو المكتوب، بينما يتباين الوضع في القطاع الخاص، بحسب الوضعية المالية والمادية لكل مؤسسة، ولهذا أقول لا يمكن الإجابة بشكل قاطع على سؤالكم.
* يواجه الإعلاميون الشباب الكثير من الانتقاد اليوم، كيف يمكن توجيه هذه القوة الإعلامية في مسارها الصحيح؟ إذا تقصدين الإعلاميين الشباب المتخرجين حديثا من معاهد علوم الإعلام والاتصال، فيفترض أن لهم الحد الأدنى من المعارف النظرية، أما القادمين للصحافة من معاهد أخرى فيستوجب الحال حسن تأطيرهم من ذوي الخبرة حسب نوع كل جهاز إعلامي. مثلا المفروض قبل توظيف الصحفيين (الذي يتم في كثير من الأحيان وفق معايير غير موضوعية) يقتضي الأمر إجراء مسابقات واختبارات مهنية صارمة للحصول على العصفور النادر، لأن توظيف صحفي مبتدئ يعتبر استثمارا في رأس مال بشري ينبغي إتقانه في الأول، ثم تأتي مراحل المرافقة والتأطير والتكوين وتحسين المستوى باستمرار. والخلاصة أنه لا يمكن الإلقاء باللائمة على الصحفيين الشباب، لأن المسؤوليات مشتركة.
* يلمع أغلب الصحفيين الجزائريين في الخارج، ما السر برأيك؟ فعلا، منذ بداية موجات هجرة زملائنا الصحفيين في بداية التسعينات إلى دول الخليج ثم إلى أوروبا وتحديدا إلى فرنسا، تجدهم يندمجون بسهولة، بل ويتفوقون، وليس هناك سر كبير في هذا سوى أن فضاءات الحرية أرحب بكثير هنالك، والصحافة تعيش في بيئة الحرية و تشجيع المبادرة و تقدير الكفاءة، فهي مهنة تقوم على السمعة الشخصية لصاحبها، مثل المحامي و الطبيب و المهندس المعماري…
*هل تنوي العودة إلى حقل الإعلام بعد تسوية تقاعدك؟ والله كلي حنين..ألم يقل الشاعر "و ما الحب إلا للحبيب الأول"، الصحافة مهنتي الأولى وفيها تفتحت عيناي على الحياة وتفتق إدراكي لها، ومن يمارسها يعرف أنه في مؤسسة تكوين مستمر. أما العودة إلى القلم، فأرجو أن تكون قريبة إن شاء الله. حاورته: سامية حميش